نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَقَالُواْ لَن يَدۡخُلَ ٱلۡجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوۡ نَصَٰرَىٰۗ تِلۡكَ أَمَانِيُّهُمۡۗ قُلۡ هَاتُواْ بُرۡهَٰنَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (111)

ولما ذكر دعواهم في مس النار وأبطلها من وجوه كثيرة أحاطت بهم فيها الخطايا إحاطة اقتضت خلودهم فيها من جهة ضلالهم إلى آية النسخ مرقياً الخطاب من سيئة إلى أسوأ منها ثم من جهة{[4449]} إضلالهم لغيرهم من آية النسخ عطف على تلك الدعوى الإخبار بدعواهم في دخول الجنة تصريحاً بما أفهمته الدعوى الأولى تلويحاً وقرن بذلك مثل ما ختم به ما قبلها من أن{[4450]} من فعل خيراً وجد{[4451]} على وجه بين فيه أن ذلك الخير الإسلام والإحسان فقال تعالى : { وقالوا } أي أهل الكتاب من اليهود والنصارى حسداً منهم على المسبب الذي هو الجنة كما حسدوا على السبب وهو إنزال ما اقتضى الإيمان الموصل إلى الرضوان الذي به تستباح الجنان { لن يدخل الجنة } المعدة لأولياء الله { إلا من كان هوداً } هذا قول اليهود منهم { أو نصارى } وهذا قول النصارى نشراً{[4452]} لما لفته{[4453]} الواو{[4454]} في

{ وقالوا{[4455]} } .

ولما كانوا{[4456]} أبعد الناس عن هذه الأماني التي تمنوها لأنفسهم لمنابذتهم لما عندهم من العلم والتي حسدوا فيها المؤمنين لأن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء قال مشيراً إلى بعدهم عن ذلك على وجه الاستئناف{[4457]} معترضاً بين الدعوى وطلب الدليل عليها تعجيلاً لتوهيتها{[4458]} : { تلك } بأداة البعد { أمانيهم } تهكماً بهم{[4459]} ، أي{[4460]} أمثال هذه الشهوة من ودهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم ، وأن يردوهم كفاراً ، وأن لا يدخل الجنة غيرهم - وأمثال ذلك من شهواتهم{[4461]} .

ولما كان كل مدع لغيب مفتقراً في تصحيح دعواه إلى دليل وكان مثل هذا لا يقنع فيه إلا بقاطع {[4462]}أمر أعلم{[4463]} الخلق لأنه لا ينهض بأخراسهم في علمهم ولددهم غيره بمطالبتهم بذلك ناقضاً لدعواهم فقال : { قل هاتوا برهانكم } بلفظ البرهان . قال الحرالي : وهو علم قاطع الدلالة غالب القوة بما تشعر به صيغة الفعلان ضم أولها وزيادتا{[4464]} آخرها ، وهذا كما افتتح تلك بالنقض بقوله : { قل أتخذتم } وفي ذلك إعلام بأنه تعالى ما غيّب{[4465]} شيئاً إلا وأبدى عليه علماً ليكون في العالم المشهود شفاف عن العالم الغائب - قاله الحرالي . {[4466]}قالوا : وهذا أهدم شيء{[4467]} لمذهب المقلدين ودليل على أن كل قول لا برهان عليه باطل{[4468]} .

ولما نادى عليهم بالكذب في قوله : { إن كنتم صادقين }


[4449]:زيد من م و ظ ومد
[4450]:زيد في مد: ما
[4451]:في م: أوجده، وفي مد و ظ: وحده
[4452]:في ظ فقط: فبشرا
[4453]:في مد: لفت
[4454]:ليس في مد
[4455]:وفي البحر المحيط 1/ 350: والضمير في {وقالوا} عائد على أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ولفهم في القول {لن يدخل الجنة} لأن القول صدر من الجميع باعتبار أن كل فريق منهما قال ذلك لا أن كل فرد فرد قال ذلك حاكما على أن حصر دخول الجنة على كل فرد فرد من اليهود والنصارى، ولذلك جاء في العطف با والتي هي للتفصيل والتنويع، وأوضح ذلك العلم بمعاداة الفريقين وتضليل بعضهم بعضا، فامتنع أن بحكم كل فريق على الآخر بدخول الجنة، ونظيره في لف الضمير وفي كون أو للتفصيل قوله {وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا} إذ معلوم أن اليهود لا يأمر بالنصرانية ولا النصارى يأمر باليهودية.
[4456]:من م ومد و ظ، وفي الأصل: كان
[4457]:العبارة من هنا إلى "لتوهيتها" ليست في ظ
[4458]:في مد: لتوهينها
[4459]:العبارة من هنا إلى "شهواتهم" ليست في ظ
[4460]:من م ومد، وفي الأصل: إلى
[4461]:قال أبو حيان الأندلسي: والأظهر أن تلك إشارة إلى مقالتهم {لن يدخل الجنة} أي تلك المقالة أمانيهم أي ليس ذلك عن تحقيق ولا دليل من كتاب الله ولا من إخبار من رسول وإنما ذلك على سبيل التمني وإن كانوا هم حازمين بمقالتهم لكنها لما لم تكن عن برهان كانت أماني، والتمني يقع بالجائز والممتنع، فهذا من الممتنع، ولطلك أتى بلفظ الأماني ولم يأت بلفظ مر جوائهم، لأن الرجاء يتعلق بالجائز، تقول: ليتني طائر، ولا يجوز: لعلني طائر
[4462]:في ظ: أمرا أعلم
[4463]:في ظ: أمرا أعلم
[4464]:في مد: زيادة
[4465]:من م و ظ و مد، وفي الأصل، غير -كذا
[4466]:العبارة من هنا إلى "باطل" ليست في ظ
[4467]:في م: لي
[4468]:وفي البحر المحيط 1/ 351: وفي هذا دليل على أن من ادعى نفيا أو إثباتا فلا بد له من الدليل، وتدل الآية على بطلان التقليد وهو قبول الشيء بغير دليل. قال الزمخشري: وهذا أهدم شيء لمذهب المقلدين وأن كل قول لا دليل عليه فهو باطل