الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَقَالُواْ لَن يَدۡخُلَ ٱلۡجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوۡ نَصَٰرَىٰۗ تِلۡكَ أَمَانِيُّهُمۡۗ قُلۡ هَاتُواْ بُرۡهَٰنَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (111)

قوله تعالى : { إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً } : " مَنْ " فاعلٌ بقوله " يَدْخُلَ " وهو استثناءٌ مفرغٌ ، فإنَّ ما قبل " إلاَّ " مفتقرٌ لِما بعدَها ، والتقديرُ : لن يدخلَ الجنةَ أحدٌ ، وعلى مذهبِ الفراء يجوزُ في " مَنْ " وجهان آخران ، وهما النصبُ على الاستثناءِ والرفعُ على البدلِ من " أحد " المحذوفِ ، فإن الفراء يراعي المحذوفَ ، وهو لو صُرِّح به لجاز في المستثنى الوجهان المذكوران فكذلك مع تقدِيره عندَه ، وقد تقدَّم تحقيقُ المذهبين .

والجملةُ من قولِه : { لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن } في محل نصبٍ بالقول ، وحُمِلَ أولاً على لفظِ " مَنْ " فَأُفْرِدَ الضمير في قوله : " كان " ، وعلى معناها ثانياً فجُمِع في خَبَرِها وهو " هوداً " ، وفي مثلِ هذين الحَمْلين خلافٌ ، أعني أن يكونَ الخبرُ غيرَ فعل ، بل وصفاً يَفْصِلُ بين مذكرِه ومؤنثِه تاءُ التأنيثِ ، فمذهَبُ جمهورِ البصريين والكوفيين جوازُه ، ومذهبُ غيرِهم مَنْعُه ، منهم أبو العباس ، وهو مَحْجوجون بسماعِه من العربِ كهذه الآيةِ ، فإنَّ هوداً جمعُ هائد على أظهر القولين ، نحو : بازِل وبُزْل وعائِد وعُود وحائل وحُول وبائِر وبُور و " هائد " من الأوصافِ الفارقِ بين مذكرِها ومؤنثِها تاءُ التأنيثِ ، وقال الشاعر :

وأَيْقَظَ مَنْ كان مِنْكم نِياما *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

و " نيام " جمعُ نائمٍ وهو كالأول ، وفي " هُود " ثلاثةُ أقوالٍ ، أحدُها : أنه جمعُ هائِدٍ كما تقدَّم . والثاني : أنه مصدرٌ على فُعْل نحو حُزْن وشُرْب ، يوصف به الواحدُ وغيرُه نحو : عَدْل وصَوْم . والثالث : - وهو قَوْلُ الفراء - أنَّ أصلَه " يَهود " فحُذِفَتِ الياء من أوله ، وهذا بعيدٌ جداً .

و " أو " هنا للتفصيلِ والتنويعِ لأنه لمَّا لَفَّ الضميرَ في قوله : " وقالوا " فَصَّل القائلين ، وذلك لِفَهْمِ المعنى وأَمْنِ الإلباس ، والتقديرُ : وقالَ اليهودُ لًَنْ يدخُلَ الجنةَ إلا مَنْ كانَ هُوداً ، وقال النصارى : لَنْ يَدْخُلَ الجنةَ إلا مَنْ كان نصارى ؛ لأنَّ مِن المعلومِ أنَّ اليهودَ لا تقول : لَنْ يَدْخُلَ الجنةَ إلا مَنْ كان نصرانياً وكذلك النَّصارى ، ونظيرُه : { قَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى }

[ البقرة : 135 ] إذ معلومُ أنَّ اليهودَ لا تَقُول : كونوا نصارى ، ولا النصارى تقول : كونوا هوداً ، وصُدِّرَت الجملةُ بالنفي ب " لن " لأنها تُخَلِّصُ للاستقبالِ ودخولُ الجنة مستقبلٌ . وقُدَّمَتِ اليهودُ على النصارى لفظاً لتقدُّمِهِم زماناً .

قوله : { تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ } " تلك " مبتدأ ، و " أمانِيُّهم " خبرُه ، ولا محلَّ لهذه الجملةِ لكونها اعتراضاً بين قولِه : " وقالوا " وبين : { قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ } فهي اعتراضٌ بين الدعوى ودليلها . والمشارُ إليه ب " تلك " فيه ثلاثةُ احتمالات أحدُها : أنه المقالةُ المفهومةُ مِنْ : " َقَالُواْ لَن يَدْخُلَ " ، أي : تلك المقالةُ أمانيُّهم ، فإنْ قيل : فكيف أَفْرَدَ المبتدأ وجَمَعَ الخبرَ ؟ فالجوابُ أن تلك كنايةً عن المقالةِ ، والمقالةُ في الأصلِ مصدرٌ ، والمصدرُ يقع بلفظِ الإِفرادِ للمفردِ والمثنَّى والمجموعِ ، فالمرادُ ب " تلك " الجمعُ من حيث المعنى .

والثاني : - قاله الزمخشري - وهو أَنْ يُشار بها إلى الأماني المذكورة وهي أمْنُيَّتُهُم ألاَّ يُنَزَّلَ على المؤمنين خيرٌ من ربهم ، وأمنَّيتُهم أَنْ يَرُدُّوهم كفاراً ، وأُمْنِيَّتُهم ألاَّ يَدْخُلَ الجنةَ غيرُهم . قال الشيخ : " وهذا ليس بظاهرٍ لأنّ كلَّ جملةٍ ذُكِرَ فيها وُدُّهم لشيء قد كَمَلَتْ وانفَصَلَتْ واستقلَّت بالنزولِ ، فَيَبْعُد أنْ يشارَ إليها " . والثالث - وإليه ذهب الزمخشري أيضاً - أَنْ يكونَ على حَذْفِ مضافٍ أي : أمثالُ تلك الأُمْنِيَّة أمانِيُّهم ، يريد أن أمانيَّهم جميعاً في البُطْلان مثلُ أمنِيَّتِهم هذه . انتهى ما قاله ، يعني أنه أُشير بها إلى واحدٍ . قال الشيخُ في هذا الوجهِ ، " وفيه قَلْبُ الوَضْعِ ، إذ الأصلُ أن يكونَ " تلك " مبتدأ ، و " أمانيُّهم " خبرٌ ، فَقَلبَ هذا الوضعِ ، إذ قال : إن أمانيَّهم في البُطْلان مثلُ أمنيَّتِهم هذه ، وفيه أنَّه متى كان الخبرُ مُشَبَّهاً به المبتدأُ فلا يتقدَّمُ الخبرُ نحو : زيدٌ زهيرٌ ، فإنْ تقدَّمَ كان ذلك من عكسِ التشبيهِ كقولك : الأسدُ زيدٌ شجاعةً " .

قوله : { هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ } هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ بالقولِ . واختُلِفَ في " هاتِ " على ثلاثة أقوال ، أحدُها : أنه فعلٌ ، وهذا هو الصحيحُ لاتصالِه بالضمائرِ المرفوعةِ البارزةِ نحو : هاتُوا ، هاتي ، هاتِيا ، هاتِين . الثاني : أنه اسمُ فعلٍ بمعنى أحْضِرْ . والثالث - وبه قال الزمخشري - : أنه اسمُ صوتٍ بمعنى ها التي بمعنى أحْضِرْ .

وإذا قيل بأنه فعلٌ فاختُلِفَ فيه على ثلاثةِ أقوالٍ أيضاً ، أصحُّها : أن هاءَه أصلٌ بنفسها ، وأنَّ أصلَه هاتَي يُهاتي مُهاتاةً مثل : رامَى يُرامي مُراماة ، فوزنه فاعَلَ فنقول :هاتِ يا زيدُ وهاتي يا هندُ وهاتوا وهاتِين يا هندات ، كما تقولُ : رامِ رامي راميا رامُوا رامِينَ . وزعم ابن عطية أن تصريفَه مهجورٌ لا يُقال فيه إلا الأمرُ ، وليس كذلك .

الثاني : أنَّ الهاءَ بَدَلٌ من الهمزةِ وأنَّ الأصلَ : أَأْتى وزنُه : أَفْعَل مثل أَكْرم . وهذا ليس بجيدٍ لوجهين ، أحدهما : أنَّ آتى يتعدَّى لاثنينِ وهاتى يتعدَّى لواحدٍ فقط . والثاني من الوجهين : أنه كان ينبغي أَنْ تعود الألفُ المُبْدَلةُ من الهمزةِ إلى أصلِها لزوالِ موجِبِ قَلْبِها وهو الهَمْزةُ الأولى ولم يُسْمع ذلك الثالث : أن هذه " ها " التي للتنبيه دَخَلَتْ على " أتى " ولَزِمَتْها ، وحُذِفَتْ همزةُ أتى لُزوماً وهذا مردودٌ ، فإنَّ معنى هاتِ أحْضِرْ كذا ومعنى ائتِ : احضَرْ أنت ، فاختلافُ المعنى يَدُلُّ على اختلافِ المادة . فتحصَّل في " هاتُوا " سبعةُ أقوالٍ ، فعلٌ أو اسمُ فعلٍ أو اسمُ صوتٍ ، والفعلُ هل يَتصرَّفُ أو لا يتصرفُ ، وهل هاؤُه أصلية أو بَدَلٌ من همزةٍ أو هي هاءُ التنبيه زِيدت وحُذِفَتْ همزتُه ؟ وأصلُ هاتوا : هاتِيُوا ، فاستُثْقِلَتِ الضمةُ على الياء فحُذِفَت ، فالتقى ساكنان فَحُذِفَ أوَّلُهما وضُمَّ ما قبلَه لمجانسة الواو فصار هاتوا .

قوله : { بُرْهَانَكُمْ } مفعولٌ به ، واختُلِفَ فيه على قَوْلَيْن ، أحدُهما : أنه مشتقٌّ من البُرْهِ وهو القَطْعُ ، وذلك أنه دليلٌ يفيدُ العلمَ القطعيَّ ، ومنه : بُرْهَةُ الزمان أي : القِطْعَةُ منه فوزنه فُعْلان . والثاني : أن نونَه أصليةٌ لثبوتِها في بَرْهَنَ يُبَرْهِنُ بَرْهَنَةً ، والبَرْهَنَةُ البيانُ ، فَبَرْهَنَ فَعْلَلَ لا فَعْلَنَ ، لأنَّ فعلنَ غيرُ موجود في أبنيتهم فوزنه فُعْلال ، وعلى هذين القولين يترتَّب الخلافُ في صَرْفِ " بُرهان " وعدمِه مُسَمَّى به .