{ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ }
وهذا فيه المجازاة على النفقات ، واجبها ومستحبها ، قليلها وكثيرها ، التي أمر الله بها ، والنذور التي ألزمها المكلف نفسه ، وإن الله تعالى يعلمها فلا يخفى عليه منها شيء ، ويعلم ما صدرت عنه ، هل هو الإخلاص أو غيره ، فإن صدرت عن إخلاص وطلب لمرضاة الله جازى عليها بالفضل العظيم والثواب الجسيم ، وإن لم ينفق العبد ما وجب عليه من النفقات ولم يوف ما أوجبه على نفسه من المنذورات ، أو قصد بذلك رضى المخلوقات ، فإنه ظالم قد وضع الشيء في غير موضعه ، واستحق العقوبة البليغة ، ولم ينفعه أحد من الخلق ولم ينصره ، فلهذا قال : { وما للظالمين من أنصار }
يخبر تعالى بأنه عالم بجميع ما يفعله العاملون من الخيرات من النفقات والمنذورات وتَضَمن ذلك مجازاته على ذلك أوفر الجزاء للعاملين لذلك ابتغاء وجهه ورجاء موعوده . وتوعد من لا يعمل بطاعته ، بل خالف أمره وكذب خبره وعبد معه غيره ، فقال : { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَار } أي : يوم القيامة ينقذونهم{[4490]} من عذاب الله ونقمته .
{ وَمَآ أَنفَقْتُمْ مّن نّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مّن نّذْرٍ فَإِنّ اللّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ }
يعني بذلك جل ثناؤه : وأيّ نفقة أنفقتم ، يعني أيّ صدقة تصدقتم ، أو أيّ نذر نذرتم يعني بالنذر : ما أوجبه المرء على نفسه تبرّراً في طاعة الله ، وتقرّباً به إليه ، من صدقة أو عمل خير ، فَانّ اللّهَ يَعْلَمُهُ أي أن جميع ذلك بعلم الله ، لا يعزب عنه منه شيء ، ولا يخفى عليه منه قليل ولا كثير ، ولكنه يحصيه أيها الناس عليكم حتى يجازيكم جميعكم على جميع ذلك ، فمن كانت نفقته منكم وصدقته ونذره ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من نفسه ، جازاه بالذي وعده من التضعيف ومن كانت نفقته وصدقته رياء الناس ونذروه للشيطان جازاه بالذي أوعده من العقاب وأليم العذاب . كالذي :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ : وَما أنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَانّ اللّهَ يَعْلَمُهُ ويحصيه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
ثم أوعد جل ثناؤه من كانت نفقته رياء ونذوره طاعة للشيطان ، فقال : وَما للظّالِمِينَ مِنْ أنْصَارٍ يعني : وما لمن أنفق ماله رياء الناس وفي معصية الله ، وكانت نذوره للشيطان وفي طاعته ، مِنْ أنْصَارٍ . وهم جمع نصير ، كما الأشراف جمع شريف . ويعني بقوله : مِنْ أنْصَارٍ من ينصرهم من الله يوم القيامة ، فيدفع عنهم عقابه يومئذٍ بقوّة وشدّة بط5 ولا بفدية . وقد دللنا على أن الظالم : هو الواضع للشيء في غير موضعه . وإنما سمى الله المنفق رياء الناس ، والناذر في غير طاعته ظالماً ، لوضعه إنفاق ماله في غير موضعه ونذره في غير ماله وضعه فيه ، فكان ذلك ظلمه .
فإن قال لنا قائل : فكيف قال : فَإنّ اللّهَ يَعْلَمُهُ ولم يقل : يعلمهما ، وقد ذكر النذر والنفقة ؟ قيل : إنما قال : فَانّ اللّهَ يَعْلَمَهُ لأنه أراد : فإن الله يعلم ما أنفقتم أو نذرتم ، فلذلك وحدّ الكناية .
وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ( 270 )
كانت النذر من سيرة العرب تكثر منها ، فذكر تعالى النوعين ما يفعله المرء متبرعاً وما يفعله بعد إلزامه لنفسه ، ويقال : نذر الرجل كذا إذا التزم فعله «ينذُر » بضم الذال «وينذِر » بكسرها ، وقوله تعالى : { فإن الله يعلمه } قال مجاهد : معناه يحصيه ، وفي الآية وعد ووعيد ، أي من كان خالص النية فهو مثاب ومن أنفق رئاء أو لمعنى آخر مما يكشفه المن والأذى ونحو ذلك فهو ظالم يذهب فعله باطلاً ولا يجد ناصراً فيه ، ووحد الضمير في { يعلمه } وقد ذكر شيئين من حيث أراد ما ذكر أو نص( {[2652]} ) ،
تذييل للكلام السابق المسوقِ للأمر بالإنفاق وصفاته المقبولَة والتحذير من المثبّطات عنه ابتداء من قوله : { يأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيّبات ما كسبتم } [ البقرة : 267 ] .
والمقصود من هذا التذييل التذكير بأنّ الله لا يخفى عليه شيء من النفقات وصفاتها ، وَأدْمج النذر مع الإنفاق فكان الكلام جديراً بأن يكون تذييلاً .
والنذر التزام قربة أو صدقة بصيغة الإيجاب على النفس كقوله عليّ صدقة وعليّ تجهيز غاز أو نحو ذلك ، ويكون مطلَقاً ومعلَّقاً على شيء . وقد عرفت العرب النذر من الجاهلية ، فقد نذر عبدُ المطلب أنّه إن رُزق عشرة أولاد ليذبحنّ عاشرهم قرباناً للكعبة ، وكان ابنُه العاشر هو عبد الله ثاني الذبيحين ، وأكرِم بها مزيةً ، ونذرت نُتَيلةُ زوج عبد المطلب لما افتقدت ابنها العباسَ وهو صغير أنّها إن وجدته لتَكْسُوَنّ الكعبة الديباج ففعلت . وهي أول من كسا الكعبة الديباج . وفي حديث البخاري أنّ عمر بن الخطاب قال : " يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام ، فقال أوْفِ بنذرك " .
وفي الأمم السالفة كان النذر ، وقد حكى الله عن امرأة عمران { إنّي نذرت لك ما في بطني محرّرا } [ آل عمران : 35 ] . والآية دلّت على مشروعيته في الإسلام ورجاء ثوابه ، لعطفه على ما هو من فعل الخير سواء كان النذر مطلقاً أم معلّقاً ، لأنّ الآية أطلقت ، ولأنّ قوله : { فإن الله يعلمه } مراد به الوعد بالثواب . وفي الحديث الصحيح عن عمر وابنه عبد الله وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنّ النذر لا يُقدِّم شيئاً ولا يؤخّر ، ولا يردّ شيئاً ولا يأتي ابن آدم بشيء لم يكن قُدر له ، ولكنّه يُستخرج به من البَخيل " . ومَساقه الترغيب في النذر غير المعلّق لا إبطال فائدة النذر . وقد مدح الله عباده فقال : { يوفون بالنذر } [ الإنسان : 7 ] . وفي « الموطأ » عن النبي صلى الله عليه وسلم " من نَذر أن يطيعَ الله فليُطِعْه ومن نذر أن يعصِيَ الله فلا يْعْصِه " .
و ( مِن ) في قوله : { من نفقة } و { من نذر } بيان لما أنفقتم ونذرتم ، ولما كان شأن البيان أن يفيد معنى زائداً على معنى المبيَّن ، وكان معنى البيان هنا عين معنى المبيّن ، تعيّن أن يكون المقصود منه بيان المنفَق والمنذور بما في تنكير مجروري ( مِنْ ) من إرادة أنواع النفقات والمنذورات فأكّد بذلك العموممِ ما أفادته ما الشرطيةُ من العموم من خير أو شر في سبيل الله أو في سبيل الطاغوت ، قال التفتازاني : « مِثْل هذا البيان يكون لتأكيد العموم ومنع الخصوص » .
وقوله : { فإن الله يعلمه } كناية عن الجزاء عليه لأنّ علم الله بالكائنات لا يَشُك فيه السامعون ، فأريد لازم معناه ، وإنّما كان لازماً له لأنّ القادر لا يصدّه عن الجزاء إلاّ عدم العلم بما يفعله المحسن أو المسيء .
{ وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ } .
هذا وعيد قوبل به الوعد الذي كنّي عنه بقوله : { فإن الله يعلمه } ، والمراد بالظالمين المشركون علنا والمنافقون ، لأنّهم إن منعوا الصدقات الواجبة فقد ظلموا مصارفها في حقّهم في المال وظلموا أنفسهم بإلقائها في تبعات المنع ، وإن منعوا صدقة التطوُّع فقد ظلموا أنفسهم بحرمانها من فضائل الصدقات وثوابها في الآخرة .
والأنصار جمع نصير ، ونفي الأنصار كناية عن نفي النصر والغوث في الآخرة وهو ظاهر ، وفي الدنيا لأنّهم لما بخلوا بنصرهم الفقير بأموالهم فإنّ الله يعدمهم النصير في المضائق ، ويقسي عليهم قلوب عباده ، ويلقي عليهم الكراهية من الناس .