فلما بين الآيات ونبه عليها تنبيهًا ، ينتبه به الذكي اللبيب ، أقسم تعالى على أن وعده وجزاءه حق ، وشبه ذلك ، بأظهر الأشياء [ لنا ] وهو النطق ، فقال : { فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ } فكما لا تشكون في نطقكم ، فكذلك لا ينبغي الشك في البعث بعد الموت{[848]} .
وقوله : { فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ } يقسم تعالى بنفسه الكريمة أن ما وعدهم به من أمر القيامة والبعث والجزاء ، كائن لا محالة ، وهو حق لا مرية فيه ، فلا تشكوا فيه كما لا تشكوا في نطقكم حين تنطقون . وكان معاذ ، رضي الله عنه ، إذا حدث بالشيء يقول لصاحبه : إن هذا لحق كما أنك هاهنا .
قال مسدد ، عن ابن أبي عَدِيّ ، عن عَوْف ، عن الحسن البصري قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قاتل الله أقوامًا أقسم لهم ربهم ثم لم يصدقوا " .
ورواه ابن جرير ، عن بُنْدَار ، عن ابن أبي عدي ، عن عوف ، عن الحسن ، فذكره مرسلا {[27434]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَوَرَبّ السّمَآءِ وَالأرْضِ إِنّهُ لَحَقّ مّثْلَ مَآ أَنّكُمْ تَنطِقُونَ } .
يقول تعالى ذكره مقسما لخلقه بنفسه : فوربّ السماء والأرض ، إن الذي قلت لكم أيها الناس : إن في السماء رزقكم وما توعدون لحقّ ، كما حقّ أنكم تنطقون . وقد :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن عوف ، عن الحسن ، في قوله : فَوَرَبّ السّماءِ والأرْضِ إنّهُ لَحَقّ مِثْلَ ما أنّكُمْ تَنْطِقُونَ قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «قاتل الله أقواما أقسم لهم ربهم بنفسه فلم يصدّقوه » وقال الفرّاء : للجمع بين «ما » و«إنّ » في هذا الموضع وجهان : أحدهما : أن يكون ذلك نظير جمع العرب بين الشيئين من الأسماء والأدوات ، كقول الشاعر في الأسماء :
مِنَ النّفَرِ اللاّئِي الّذِينَ إذَا هُمُ *** يَهابُ اللّئامُ حَلْقَةَ الباب قَعْقَعُوا
فجمع بين اللائي والذين ، وأحدهما مجزيء من الاَخر وكقول الاَخر في الأدوات :
ما إنْ رأيْتُ وَلا سَمِعْتُ بِهِ *** كالْيَوْمِ طالِيَ أَيْنُقٍ جُرْبِ
فجمع بين «ما » وبين «إن » ، وهما جحدان يجزيء أحدهما من الاَخر . وأما الاَخر : فهو لو أن ذلك أفرد بما ، لكان خبرا عن أنه حقّ لا كذب ، وليس ذلك المعنيّ به . وإنما أُريد به : إنه لحقّ كما حقّ أن الاَدميّ ناطق . ألا ترى أن قولك : أحقّ منطقك ، معناه : أحقّ هو أم كذب ، وأن قولك أحق أنك تنطق معناه للاستثبات لا لغيره ، فأدخلت «أن » ليفرّق بها بين المعنيين ، قال : فهذا أعجب الوجهين إليّ .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : مِثْلَ ما أنّكُمْ فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة مِثْلَ ما نصبا بمعنى : إنه لحقّ حقا يقينا كأنهم وجهوها إلى مذهب المصدر . وقد يجوز أن يكون نصبها من أجل أن العرب تنصبها إذا رفعت بها الاسم ، فتقول : مثل من عبد الله ، وعبد الله مثلك ، وأنت مثلُه ، ومثلَهُ رفعا ونصبا . وقد يجوز أن يكون نصبها على مذهب المصدر ، إنه لحقّ كنطقكم . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة ، وبعض أهل البصرة رفعا «مِثْلُ ما أنّكُمْ » على وجه النعت للحقّ .
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار ، متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أقسم الرب تعالى بنفسه: {فورب السماء والأرض إنه لحق} يعني لكائن، يعني أمر الساعة {مثل ما أنكم تنطقون} يعني تتكلمون...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره مقسما لخلقه بنفسه: فوربّ السماء والأرض، إن الذي قلت لكم أيها الناس: إن في السماء رزقكم وما توعدون لحقّ، كما حقّ أنكم تنطقون...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فوَربّ السماء والأرض إنه لحقٌّ} يحتمل قوله {إنه لحق} أي الساعة والقيامة، ويحتمل {إنه لحق} أي جميع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم...
{مثل ما أنكم تنطِقون} يحتمل أن يقول، والله أعلم: كما أنكم لا تشُكّون في ما تنطقون، فعلى ذلك لا تشكّوا في أمر الساعة قيامها وكونها كما يقال: هذا ظاهر بيّن كالنار...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
"مثل ما أنكم تنطقون " وخص النطق من بين سائر الحواس؛ لأن ما سواه من الحواس يدخله التشبيه، كالذي يرى في المرآة، واستحالة الذوق عند غلبة الصفراء ونحوها، والدَّوِيُّ والطنين في الأذن، والنطق سالم من ذلك، ولا يعترض بالصدى لأنه لا يكون إلا بعد حصول الكلام من الناطق غير مشوب بما يشكل به...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فورب} أي مبدع ومدبر {السماء والأرض} بما أودع فيهما مما علمتموه وما لم تعلموه {إنه} أي الذي توعدونه من الخير والشر والجنة والنار وتقدم الإقسام عليه أنه صادق {لحق} أي ثابت يطابقه الواقع فقد جمع الحق مع الصدق {مثل ما أنكم} أي وأنتم مساوون لبقية ما في الأرض من الجمادات وغيرها {تنطقون} نطقاً مجدداً في كل وقت مستمراً، ليس هو بخيال ولا سحر، أي أن ذلك لحق مثل ما أن هذا حق، فالذي جعل لكم قوة النطق من بين ما في الأرض بأسباب لا ترونها وتحصونها، ومع ما عداكم من ذلك بأسباب مثل ذلك- قادر على الإتيان بوعده من الرزق وغيره ما دمتم تحتاجون إلى ذلك...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وكونهم ينطقون، حقيقة بين أيديهم، لا يجادلون فيها ولا يمارون، ولا يرتابون فيها ولا يخرصون.. وكذلك هذا الحديث كله. والله أصدق القائلين...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(فوربّ السماء والأرض إنّه لحقّ مثل ما أنكم تنطقون). وقد بلغ الأمر حدّاً أن يقسم الله على ما لديه من عظمة وقدرة ليُطمئِنَ عباده الشاكّين ضعاف الأنفس الحريصين إنّ ما توعدون في مجال الرزق والثواب والعقاب والقيامة جميعه حقّ ولا ريب في كلّ ذلك...
والتعبير ب (مثل ما أنّكم تنطقون) تعبير لطيف ودقيق إذ يتحدّث عن أكثر الأشياء لمساً، لأنّه قد يخطئ الإنسان في الباصرة أو السمع بأن يتوهّم أنّه سمع أو رأى، إلاّ أنّه لا يمكن أن يتوهّم أنّه قال شيئاً مع أنّه لم يقله...
لذلك فإنّ القرآن يقول: كما أنّ ما تنطقون محسوس عندكم وله واقع، فإنّ الرزق والوعد الإلهي عنده كذلك! ثمّ بعد هذا كلّه فإنّ النطق بنفسه واحد من أكبر الأرزاق والمواهب الإلهيّة التي لم يتمتّع بها أي موجود حيّ سوى الإنسان، وليس بخاف أثر الكلام والنطق في الحياة الاجتماعية وتعليم الناس وتربيتهم وانتقال العلوم وحلّ مشاكل الحياة على أحد.
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.