100- ومن يهاجر طالباً بهجرته مناصرة الحق وتأييده ، يجد في الأرض التي يسير فيها مواضع كثيرة يرغم بها أنف أعداء الحق ، ويجد سعة الحرية والإقامة العزيزة ، وله بذلك الثواب والأجر العظيم ، ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى موطن الدولة العزيزة التي هي دولة الله ورسوله ، ثم يدركه الموت قبل أن يصل فقد ثبت أجره ، وتَكَرَّم الله فجعل الأجر حقا عليه ، وغفر له ورحمه ، لأن من شأنه الغفران والرحمة .
{ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }
هذا في بيان الحث على الهجرة والترغيب ، وبيان ما فيها من المصالح ، فوعد الصادق في وعده أن من هاجر في سبيله ابتغاء مرضاته ، أنه يجد مراغما في الأرض وسعة ، فالمراغم مشتمل على مصالح الدين ، والسعة على مصالح الدنيا .
وذلك أن كثيرًا من الناس يتوهم أن في الهجرة شتاتًا بعد الألفة ، وفقرًا بعد الغنى ، وذلا بعد العز ، وشدة بعد الرخاء .
والأمر ليس كذلك ، فإن المؤمن ما دام بين أظهر المشركين فدينه في غاية النقص ، لا في العبادات القاصرة عليه كالصلاة ونحوها ، ولا في العبادات المتعدية كالجهاد بالقول والفعل ، وتوابع ذلك ، لعدم تمكنه من ذلك ، وهو بصدد أن يفتن عن دينه ، خصوصا إن كان مستضعفًا .
فإذا هاجر في سبيل الله تمكن من إقامة دين الله وجهاد أعداء الله ومراغمتهم ، فإن المراغمة اسم جامع لكل ما يحصل به إغاظة لأعداء الله من قول وفعل ، وكذلك ما يحصل له سعة في رزقه ، وقد وقع كما أخبر الله تعالى .
واعتبر ذلك بالصحابة رضي الله عنهم فإنهم لما هاجروا في سبيل الله وتركوا ديارهم وأولادهم وأموالهم لله ، كمل بذلك إيمانهم وحصل لهم من الإيمان التام والجهاد العظيم والنصر لدين الله ، ما كانوا به أئمة لمن بعدهم ، وكذلك حصل لهم مما يترتب على ذلك من الفتوحات والغنائم ، ما كانوا به أغنى الناس ، وهكذا كل من فعل فعلهم ، حصل له ما حصل لهم إلى يوم القيامة .
ثم قال : { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ } أي : قاصدا ربه ورضاه ، ومحبة لرسوله ونصرًا لدين الله ، لا لغير ذلك من المقاصد { ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ } بقتل أو غيره ، { فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } أي : فقد حصل له أجر المهاجر الذي أدرك مقصوده بضمان الله تعالى ، وذلك لأنه نوى وجزم ، وحصل منه ابتداء وشروع في العمل ، فمن رحمة الله به وبأمثاله أن أعطاهم أجرهم كاملاً ولو لم يكملوا العمل ، وغفر لهم ما حصل منهم من التقصير في الهجرة وغيرها .
ولهذا ختم هذه الآية بهذين الاسمين الكريمين فقال : { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } يغفر للمؤمنين ما اقترفوه من الخطيئات ، خصوصا التائبين المنيبين إلى ربهم .
{ رَحِيمًا } بجميع الخلق رحمة أوجدتهم وعافتهم ورزقتهم من المال والبنين والقوة ، وغير ذلك . رحيمًا بالمؤمنين حيث وفقهم للإيمان ، وعلمهم من العلم ما يحصل به الإيقان ، ويسر لهم أسباب السعادة والفلاح وما به يدركون غاية الأرباح ، وسيرون من رحمته وكرمه ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، فنسأل الله أن لا يحرمنا خيره بشر ما عندنا .
أما السياق القرآني فيمضي في معالجة النفوس البشرية ؛ التي تواجه مشاق الهجرة ومتاعبها ومخاوفها ؛ وتشفق من التعرض لها . وقد عالجها في الآيات السابقة بذلك المشهد المثير للاشمئزاز والخوف معا . فهو يعالجها بعد ذلك ببث عوامل الطمأنينة - سواء وصل المهاجر إلى وجهته أو مات في طريقه - في حالة الهجرة في سبيل الله ، وبضمان الله للمهاجر منذ ان يخرج من بيته مهاجرا في سبيله . ووعده بالسعة والمتنفس في الأرض والمنطلق ، فلا تضيق به الشعاب والفجاج :
( ومن يهاجر - في سبيل الله - يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة . ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله - ثم يدركه الموت - فقد وقع أجره على الله . وكان الله غفورا رحيما ) . .
إن المنهج الرباني القرآني يعالج في هذه الآية مخاوف النفس المتنوعة ؛ وهي تواجه مخاطر الهجرة ؛ في مثل تلك الظروف التي كانت قائمة ؛ والتي قد تتكرر بذاتها أو بما يشابهها من المخاوف في كل حين .
وهو يعالج هذه النفس في وضوح وفصاحة ؛ فلا يكتم عنها شيئا من المخاوف ؛ ولا يداري عنها شيئا من الأخطار - بما في ذلك خطر الموت - ولكنه يسكب فيها الطمأنينة بحقائق أخرى وبضمانة الله سبحانه وتعالى . .
فهو أولا يحدد الهجرة بأنها ( في سبيل الله ) . . وهذه هي الهجرة المعتبرة في الإسلام . فليست هجرة للثراء ، أو هجرة للنجاة من المتاعب ، أو هجرة للذائذ والشهوات ، أو هجرة لأي عرض من أعراض الحياة . ومن يهاجر هذه الهجرة - في سبيل الله - يجد في الأرض فسحة ومنطلقا فلا تضيق به الأرض ، ولا يعدم الحيلة والوسيلة . للنجاة وللرزق والحياة :
( ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ) . .
وإنما هو ضعف النفس وحرصها وشحها ؛ يخيل إليها أن وسائل الحياة والرزق ، مرهونة بأرض ، ومقيدة بظروف ، ومرتبطة بملابسات لو فارقتها لم تجد للحياة سبيلا .
وهذا التصور الكاذب لحقيقة أسباب الرزق وأسباب الحياة والنجاة ؛ هو الذي يجعل النفوس تقبل الذل والضيم ، وتسكت على الفتنة في الدين ؛ ثم تتعرض لذلك المصير البائس . مصير الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم . والله يقرر الحقيقة الموعودة لمن يهاجر في سبيل الله . . إنه سيجد في أرض الله منطلقا وسيجد فيها سعة . وسيجد الله في كل مكان يذهب إليه ، يحييه ويرزقه وينجيه . .
ولكن الأجل قد يوافي في أثناء الرحلة والهجرة في سبيل الله . . والموت - كما تقدم في سياق السورة - لا علاقة له بالأسباب الظاهرة ؛ إنما هو حتم محتوم عندما يحين الأجل المرسوم . وسواء أقام أم هاجر ، فإن الأجل لا يستقدم ولا يستأخر .
غير أن النفس البشرية لها تصوراتها ولها تأثراتها بالملابسات الظاهرة . . والمنهج يراعي هذا ويعالجه . فيعطي ضمانة الله بوقوع الأجر على الله منذ الخطوة الأولى من البيت في الهجرة إلى الله ورسوله :
( ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله - ثم يدركه الموت - فقد وقع أجره على الله )
أجره كله . أجر الهجرة والرحلة والوصول إلى دار الإسلام والحياة في دار الإسلام . . فماذا بعد ضمان الله من ضمان ؟
ومع ضمانة الأجر التلويح بالمغفرة للذنوب والرحمة في الحساب . وهذا فوق الصفقة الأولى .
إنها صفقة رابحة دون شك . يقبض فيها المهاجر الثمن كله منذ الخطوة الأولى - خطوة الخروج من البيت مهاجرا إلى الله ورسوله - والموت هو الموت . في موعده الذي لا يتأخر . والذي لا علاقة له بهجرة أو إقامة . ولو أقام المهاجر ولم يخرج من بيته لجاءه الموت في موعده . ولخسر الصفقة الرابحة . فلا أجر ولا مغفرة ولا رحمة . بل هنالك الملائكة تتوفاه ظالما لنفسه !
وشتان بين صفقة وصفقة ! وشتان بين مصير ومصير !
ويخلص لنا من هذه الآيات التي استعرضناها من هذا الدرس - إلى هذا الموضع - عدة اعتبارات ، نجملها قبل أن نعبر إلى بقية الدرس وبقية ما فيه من موضوعات .
يخلص لنا منها مدى كراهية الإسلام للقعود عن الجهاد في سبيل الله ؛ والقعود عن الانضمام للصف المسلم المجاهد . . اللهم إلا من عذرهم الله من أولي الضرر ، ومن العاجزين عن الهجرة لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا . .
جملة { ومن يهاجر } عطف على جملة { إنّ الذين توفّاهم الملائكة } [ النساء : 97 ] ، و ( مَن ) شرطية . والمهاجرة في سبيل الله هي المهاجرة لأجل دين الله . والسبيل استعارة معروفة ، وزادها قبولاً هنا أنّ المهاجرة نوع من السير ، فكان لذكر السبيل معها ضرب من التورية . والمراغم اسم مكان من راغم إذا ذهب في الأرض ، وفعل راغم مشتقّ من الرّغام بفتح الراء وهو التراب . أو هو من راغم غيره إذا غلبه وقهره ، ولعلّ أصله أنّه أبقاه على الرغام ، أي التراب ، أي يجِد مكاناً يُرْغم فيه من أرغمه ، أي يَغلب فيه قومه باستقلاله عنهم كما أرغموه بإكراهه على الكفر ، قال الحارث بن وعلة الذهلي :
لا تأمنَنْ قوماً ظلمتهم *** وبدأتهم بالشتم والرغــم
إن يأبِرُوا نَخْلاً لغيرهم *** والشيءُ تحقره وقد ينمي
أي أن يكونوا عوْناً للعدوّ على قومهم . ووصفُ المراغم بالكثير لأنّه أريد به جنس الأمكنة . والسعة ضد الضيق ، وهي حقيقةً اتّساعُ الأمكنة ، وتطلق على رفاهية العيش ، فهي سعة مجازية . فإن كان المراغم هو الذهاب في الأرض فعطف السعة عليه عطف تفسير ، وإن كان هو مكان الإغاضة فعطف السعة للدلالة على أنّه يجده ملائماً من جهة أرضاء النفس ، ومن جهة راحة الإقامة .
ثم نوّه الله بشأن الهجرة بأن جعل ثوابها حاصلاً بمجرّد الخروج من بلد الكفر ، ولو لم يبلغ إلى البلد المهاجَر إليه . بقوله : { ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله } الخ . ومعنى المهاجرة إلى الله المهاجرة إلى الموضع الذي يرضاه الله . وعطف الرسول على اسم الجلالة للإشارة إلى خصوص الهجرة إلى المدينة للإلتحاق بالرسول وتعزيز جانبه ، لأنّ الذي يهاجر إلى غير المدينة قد سلم من إرهاق الكفر ولم يحصّل على نصرة الرسول ، ولذلك بادر أهل هجرة الحبشة إلى اللحاق بالرسول حين بلغهم مهاجَرهُ إلى المدينة .
ومعنى { يدركه الموت } ، أي في الطريق ، ويجوز أن يكون المعنى : ثم يدركه الموت مهاجراً ، أي لا يرجع بعد هجرته إلى بلاد الكفر وهو الأصحّ ، وقد اختلف في الهجرة المرادة من هذه الآية : فقيل : الهجرة إلى المدينة ، وقيل : الهجرة إلى الحبشة . واختلف في المعني بالموصول من قوله : { ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله } . فعند من قالوا إنّ المراد الهجرة إلى المدينة قالوا المراد بمن يخرج رجل من المسلمين كان بقي بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، فلمّا نزل قوله تعالى : { إنّ الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم إلى قوله : وكان الله غفوراً رحيماً } [ النساء : 97 100 ] كتب بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين من أهل مكة ، وكان هذا الرجل مريضاً ، فقال : إني لَذو مال وعبيد ، فدعا أبناءَه وقال لهم : احملوني إلى المدينة .
فحملوه على سرير ، فلمّا بلغ التنعيم توفّي ، فنزلت هذه الآية فيه ، وتعمّ أمثاله ، فهي عامّة في سياق الشرط لا يخصّصها سبب النزول .
وكان هذا الرجل من كنانة ، وقيل من خزاعة ، وقيل من جُنْدَع ، واختلف في اسمه على عشرة أقوال : جندب بن حمزة الجندعي ، حندج بن ضمرة الليثي الخزاعي . ضمرة بن بغيض الليثي ، ضمرة بن جندب الضمْري ، ضمرة بن جندب الضمْري ، ضمرة بن ضمرة بن نعيم . ضمرة من خزاعة ( كذا ) . ضمرة بن العيص . العيص بن ضمرة بن زنباع ، حبيب بن ضمرة ، أكثم بن صيفي .
والذين قالوا : إنّها الهجرة إلى الحبشة قالوا : إنّ المعنيّ بمن يخرج من بيته خالد بن حزام بن خويلد الأسدي ابن أخي خديجة أمّ المؤمنين ، خرج مهاجراً إلى الحبشة فنهشته حيّة في الطريق فمات . وسياق الشرط يأبى هذا التفسير .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
بعث النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية إلى مسلمي مكة، فقال جندب بن حمزة الليثي لبنيه: احملوني فإني لست من المستضعفين، وإني لهاد بالطريق ولو مت لنزلت في الآية، وكان شيخا كبيرا، فحمله بنوه على سريره متوجها إلى المدينة، فمات بالتنعيم، فبلغ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم موته، فقالوا: لو لحق بنا لأتم الله أجره، فأراد الله عز وجل أن يعلمهم أنه لا يخيب من التمس رضاه، فأنزل الله عز وجل: {ومن يهاجر في سبيل الله}: في طاعة الله إلى المدينة، {يجد في الأرض مراغما كثيرا}: متحولا عن الكفر، {وسعة} في الرزق {ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما}...
ابن رشد: سئل مالك عن قول الله تعالى: {مراغما كثيرا وسعة} قال: المراغم: الذهاب في الأرض. {وسعة}: سعة البلاد...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ}: ومن يفارق أرض الشرك وأهلها هربا بدينه منها ومنهم إلى أرض الإسلام وأهلها المؤمنين، {في سَبِيلِ الله}: في منهاج دين الله وطريقه الذي شرعه لخلقه، وذلك الدين القيم.
{يَجِدْ في الأرْضِ مُرَاغَما كَثِيرا}: يجد هذا المهاجر في سبيل الله مراغما كثيرا، وهو المضطرب في البلاد والمذهب.
وقوله: {وَسَعَةً} فإنه يحتمل السعة في أمر دينهم بمكة، وذلك منعهم إياهم من إظهار دينهم وعبادة ربهم علانية.
ثم أخبر جلّ ثناؤه عمن خرج مهاجرا من أرض الشرك فارّا بدينه إلى الله وإلى رسوله إن أدركته منيته قبل بلوغه أرض الإسلام ودار الهجرة، فقال: من كان كذلك فقد وقع أجره على الله، وذلك ثواب عمله وجزاء هجرته وفراق وطنه وعشيرته إلى دار الإسلام وأهل دينه. يقول جلّ ثناؤه: ومن يخرج مهاجرا من داره إلى الله وإلى رسوله، فقد استوجب ثواب هجرته إن لم يبلغ دار هجرته باخترام المنية إياه قبل بلوغه إياها على ربه.
{وكانَ اللّهُ غَفُورا رَحِيما}: ولم يزل الله تعالى ذكره غفورا، يعني: ساترا ذنوب عباده المؤمنين بالعفو لهم عن العقوبة عليها رحيما بهم رفيقا. وذكر أن هذه الآية نزلت بسبب بعض من كان مقيما بمكة وهو مسلم، فخرج لما بلغه أن الله أنزل الآيتين قبلها، وذلك قوله: {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ}... إلى قوله: {وكانَ اللّهُ عَفُوّا غَفُورا} فمات في طريقه قبل بلوغه المدينة.
عن سعيد بن جبير في قوله: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِرا إلى اللّهِ وَرَسُولِهِ} قال: كان رجل من خزاعة يقال له ضمرة بن العيص أو العيص بن ضمرة بن زنباع، قال: فلما أمروا بالهجرة كان مريضا، فأمر أهله أن يفرشوا له على سريره ويحملوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ففعلوا، فأتاه الموت وهو بالتنعيم، فنزلت هذه الآية...
واختلف أهل التأويل في تأويل المراغَم؛
فقال بعضهم: هو التحوّل من أرض إلى أرض... مندوحةً عما يكره.
وقد بينا أولى الأقوال في ذلك بالصواب فيما مضى قبل.
واختلفوا أيضا في معنى السّعَة التي ذكرها الله في هذا الموضع فقال: {وَسَعَة} ¹؛ فقال بعضهم: هي السعة في الرزق.
وقال آخرون: {يَجِدْ فِي الأرْض مُرَاغَما كَثِيرا وَسَعَةً}: أي والله من الضلالة إلى الهدى، ومن العيلة إلى الغنى.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أن من هاجر في سبيله يجد في الأرض مضطربا ومتسعا¹ وقد يدخل في السّعة، السعة في الرزق، والغنى من الفقر¹، ويدخل فيه السعة من ضيق الهمّ، والكرب الذي كان فيه أهل الإيمان بالله من المشركين بمكة، وغير ذلك من معاني السّعة التي هي بمعنى الرّوْح والفرج من مكروه ما كره الله للمؤمنين بمقامهم بين ظهراني المشركين وفي سلطانهم. ولم يضع الله دلالة على أنه عنى بقوله: «وسعة» بعض معاني السعة التي وصفنا، فكل معاني السّعة هي التي بمعنى الروح والفرج مما كانوا فيه من ضيق العيش وغمّ جوار أهل الشرك وضيق الصدر، بتعذّر إظهار الإيمان بالله وإخلاص توحيده وفراق الأنداد والاَلهة، داخل في ذلك.
وقد تأوّل قوم من أهل العلم هذه الآية، أعني قوله: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِرا إلى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أجْرُهُ على اللّهِ} أنها في حكم الغازي يخرج للغزو فيدركه الموت بعد ما يخرج من منزله فاصلاً فيموت، أن له سهمه من المغنم وإن لم يكن شهد الوقعة.
فقال تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} أي يجد في الأرض متسعاً سهلاً... وقوله عز وجل: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكُهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى الله} فيه إخبار بوجوب أجر من هاجر إلى الله ورسوله وإن لم تتمّ هجرته، وهذا يدل على أن من خرج متوجهاً لفعل شيء من القُرَبِ أن الله يجازيه بقدر نيّته وسَعْيِهِ وإن اقْتُطِعَ دونه،...
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
قوله تعالى: {فقد وقع} أي: وجب...
قوله تعالى: {أجره على الله}، بإيجابه على نفسه فضلاً منه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{مُرَاغَماً}: مهاجراً وطريقاً يراغم بسلوكه قومه، أي يفارقهم على رغم أنوفهم. والرغم: الذلّ والهوان. وأصله لصوق الأنف بالرغام -وهو التراب -يقال: راغمت الرجل إذا فارقته وهو يكره مفارقتك لمذلة تلحقه بذلك.
{فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله} فقد وجب ثوابه عليه: وحقيقة الوجوب: الوقوع والسقوط {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] ووجبت الشمس: سقط قرصها. والمعنى: فقد علم الله كيف يثيبه وذلك واجب عليه... وقالوا: كل هجرة لغرض ديني- من طلب علم، أو حج، أو جهاد، أو فرار إلى بلد يزداد فيه طاعة أو قناعة وزهداً في الدنيا، أو ابتغاء رزق طيب -فهي هجرة إلى الله ورسوله. وإن أدركه الموت في طريقه، فأجره واقع على الله.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
فإن «المراغم» موضع المراغمة، وهو أن يرغم كل واحد من المتنازعين أنف صاحبه بأن يغلبه على مراده، فكفار قريش أرغموا أنوف المحبوسين بمكة، فلو هاجر منهم مهاجر في أرض الله لأرغم أنوف قريش بحصوله في منعة منهم، فتلك المنعة هي موضع المراغمة...
الأول: أن يكون له في وطنه نوع راحة ورفاهية، فيقول لو فارقت الوطن وقعت في الشدة والمشقة وضيق العيش، فأجاب الله عنه بقوله: {ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة} يقال: راغمت الرجل إذا فعلت ما يكرهه ذلك الرجل، واشتقاقه من الرغام وهو التراب، فإنهم يقولون: رغم أنفه، يريدون به أنه وصل إليه شيء يكرهه، وذلك لأن الأنف عضو في غاية العزة، والتراب في غاية الذلة، فجعلوا قولهم: رغم أنفه كناية عن الذل.
إذا عرفت هذا فنقول: المشهور أن هذه المراغمة إنما حصلت بسبب أنهم فارقوا وخرجوا عن ديارهم.
وعندي فيه وجه آخر، وهو أن يكون المعنى: ومن يهاجر في سبيل الله إلى بلد آخر يجد في أرض ذلك البلد من الخير والنعمة ما يكون سببا لرغم أنف أعدائه الذين كانوا معه في بلدته الأصلية وذلك لأن من فارق وذهب إلى بلدة أجنبية فإذا استقام أمره في تلك البلدة الأجنبية، ووصل ذلك الخبر إلى أهل بلدته خجلوا من سوء معاملتهم معه، ورغمت أنوفهم بسبب ذلك، وحمل اللفظ على هذا أقرب من حمله على ما قالوه، والله أعلم. والحاصل كأنه قيل: يا أيها الإنسان إنك كنت إنما تكره الهجرة عن وطنك خوفا من أن تقع في المشقة والمحنة في السفر، فلا تخف فإن الله تعالى يعطيك من النعم الجليلة والمراتب العظيمة في مهاجرتك ما يصير سببا لرغم أنوف أعدائك، ويكون سببا لسعة عيشك، وإنما قدم في الآية ذكر رغم الأعداء على ذكر سعة العيش لأن ابتهاج الإنسان الذي يهاجر عن أهله وبلده بسبب شدة ظلمهم عليه بدولته من حيث إنها تصير سببا لرغم أنوف الأعداء، أشد من ابتهاجه بتلك الدولة من حيث إنها صارت سببا لسعة العيش عليه.
وأما المانع الثاني من الإقدام على المهاجرة فهو أن الإنسان يقول: إن خرجت عن بلدي في طلب هذا الغرض، فربما وصلت إليه وربما لم أصل إليه، فالأولى أن لا أضيع الرفاهية الحاضرة بسبب طلب شيء ربما أصل إليه، وربما لا أصل إليه، فأجاب الله تعالى عنه بقوله: {ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله} والمعنى ظاهر، وفي الآية مسائل.
المسألة الأولى: قال بعضهم: المراد مَن قصَد طاعة الله ثم عجز عن إتمامها، كتب الله له ثواب تمام تلك الطاعة: كالمريض يعجز عما كان يفعله في حال صحته من الطاعة، فيكتب له ثواب ذلك العمل هكذا روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال آخرون: ثبت له أجر قصده وأجر القدر الذي أتى به من ذلك العمل، وأما أجر تمام العمل فذلك محال، واعلم أن القول الأول أولى لأنه تعالى إنما ذكر هذه الآية هاهنا في معرض الترغيب في الجهاد، وهو أن من خرج إلى السفر لأجل الرغبة في الهجرة، فقد وجد ثواب الهجرة، ومعلوم أن الترغيب إنما يحصل بهذا المعنى، فأما القول بأن معنى الآية هو أن يصل إليه ثواب ذلك القدر من العمل، فلا يصلح مرغبا، لأنه قد عرف أن كل من أتى بعمل فإنه يجد الثواب المرتب على ذلك القدر من العمل، ويدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: «وإنما لكل امرئ ما نوى».
المسألة الثالثة: استدل قوم بهذه الآية على أن الغازي إذا مات في الطريق وجب سهمه من الغنيمة، كما وجب أجره. وهذا ضعيف، لأن لفظ الآية مخصوص بالأجر، وأيضا فاستحقاق السهم من الغنيمة متعلق بحيازتها، إذ لا تكون غنيمة إلا بعد حيازتها، قال تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء} والله أعلم.
ثم قال تعالى: {وكان الله غفورا رحيما} أي يغفر ما كان منه من القعود إلى أن يخرج، ويرحمه بإكمال أجر المجاهدة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما رهب من ترك الهجرة، رغب فيها بما يسلي عما قد يوسوس به الشيطان من أنه لو فارق رفاهية الوطن وقع في شدة الغربة، وأنه ربما تجشم المشقة فاخترم قبل بلوغ القصد، فقال تعالى: {ومن يهاجر} أي يوقع الهجرة لكل ما أمر الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بهجرته {في سبيل الله} أي الذي لا أعظم من ملكه ولا أوضح من سبيله ولا أوسع {يجد في الأرض} أي في ذات الطول والعرض {مراغماً} أي مهرباً ومذهباً ومضطرباً يكون موضعاً للمراغمة، يغضب الأعداء به ويرغم أنوفهم بسبب ما يحصل له من الرفق وحسن الحال، فيخجل مما جروه من سوء معاملتهم له؛ من الرغم وهو الذل والهوان، وأصله: لصوق الأنف بالرغام وهو التراب، تقول: راغمت فلاناً، أي هجرته وهو يكره مفارقتك لذلة تلحقه بذلك.
ولما كان ذلك الموضع وإن كان واحداً فإنه لكبره ذو أجزاء عديدة، وصف بما يقتضي العدد فقال {كثيراً}.
ولما كانت المراغمة لذة الروح، فكانت أعز من لذة البدن فقدمها؛ أتبعها قوله: {وسعة} أي في الرزق، كما قال صلى الله عليه وسلم "صوموا تصحوا وسافروا تغنموا "أخرجه الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه "واغزوا، وهاجروا تفلحوا".
ولما كان ربما مات المهاجر قبل وصوله إلى النبي صلى الله عليه وسلم فظن أنه لم يدرك الهجرة مع تجشمه لفراق بلده قال: {ومن يخرج من بيته} أي فضلاً عن بلده {مهاجراً إلى الله} أي رضى الملك الذي له الكمال كله {ورسوله} أي ليكون عنده {ثم يدركه الموت} أي بعد خروجه من بيته ولو قبل الفصول من بلده {فقد وقع أجره} أي في هجرته بحسب الوعد فضلاً، لا بحسب الاستحقاق عدلاً {على الله} أي الذي له تمام الإحاطة فلا ينقصه شيء، وكذا كل من نوى خيراً ولم يدركه" لا حسد إلا في اثنتين "فهو موفيه إياه توفية ما يلتزمه الكريم منكم.
ولما كان بعضهم ربما قصر به عن البلوغ توانيه في سيره أو عن خروجه من بلده فظن أن هجرته هذه لم تجبُر تقصيره قال: {وكان الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {غفوراً} أي لتقصير إن كان {رحيماً} يكرم بعد المغفرة بأنواع الكرامات.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة} وصل هذا بما قبله للترغيب في الهجرة وتنشيط المستضعفين وتجرئتهم على استنباط الحيل لها، لأن الإنسان يتهيب الأمر المخالف لما اعتاده وأنس به ويتخيل فيه من المشقات والمصاعب ما لعله لا يوجد إلا في خياله، فبعد أن توعد التارك المقصر، وأطمع التارك المعذور في العفو إطماعا مبنيا على أن ذلك من شأن الله تعالى أن يفعله، بين تعالى أن ما يتصوره بعض الناس من عسر الهجرة لا محل له، وأن عسرها إلى يسر، ومن يهاجر بالفعل يجد في الأرض مراغما كثيرا أي متحولا من الرغام وهو التراب، أو مذهبا في الأرض. يرغم بسلوكه أنوف من كانوا مستضعفين له. أو مكانا للهجرة ومأوى يصيب فيه الخير والسعة فوق النجاة من الاضطهاد والذل، فيرغم بذلك أنوفهم، وفيه الوعد للمهاجرين في سبيل الله بتسهيل السبل وسعة العيش. وإنما تكون الهجرة في سبيل الله حقيقة إذا كان قصد المهاجر منها إرضاء الله تعالى بإقامة دينه كما يجب وكما يحب تعالى، ونصر أهله المؤمنين، على من يبغي عليهم من الكافرين.
{ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله} المهاجر كسائر الناس عرضة للموت ولما وعد تعالى من يهاجر فيصل إلى دار الهجرة بالظفر بما ينبغي من وجدان المراغم والسعة، وعد من يموت في الطريق قبل بلوغها بأجر عظيم يضمنه عز وجل له. فمتى خرج من بيته بقصد الهجرة إلى الله أي حيث يرضي الله وإلى نصرة رسوله في حياته، ومثلها إقامة سننه بعد وفاته، كان مستحقا لهذا الأجر ولو مات بعد مجاوزته عتبة الباب ولم يصب تعبا ولا مشقة، فإن نية الهجرة مع الإخلاص كافية لاستحقاقه له، وقد أبهم هذا الأجر وجعله حقا واقعا عليه تبارك اسمه للإيذان بعظم قدره، وتأكيد ثبوته ووجوبه، والوجوب والوقوع يتواردان على معنى واحد، ومنه قوله تعالى: {فإذا وجبت جنوبها} [الحج:36] أي سقطت جنوب البدن عند ما تنحر في النسك، ولله تعالى أن يوجب على نفسه ما شاء وليس لغيره أن يوجب عليه شيئا إذ لا سلطان فوق سلطانه، فأين هذا الوعد للمهاجرين في تأكيده وإيجابه من وعد تاركي الهجرة لضعفهم وعجزهم من جعله محل الرجاء والطمع فقط؟ لا يستويان {وكان الله غفورا رحيما} أي وكان شأنه الثابت له أزلا وأبدا أنه غفور يستر ما سبق لأمثال هؤلاء المهاجرين من الذنوب بإيمانهم الذي حملهم على ترك أوطانهم ومعاهد أنسهم لأجل إقامة دينه واتباع سبيله، رحيما بهم يشملهم بعطفه ويغمرهم بإحسانه.
هذه الآيات في الهجرة نزلت في سياق واحد متصلا بعضها ببعض كما قلنا، ومن شمله الوعد من المهاجرين في تلك الأثناء ضمرة بن جندب فعدوا خبر هجرته من أسباب نزول الشق الأخير من هذه الآية، وما هو بسبب إلا في اصطلاحهم الذي يتساهلون فيه بإطلاق السبب كما بينا مرارا...
قد علم من هذه الآيات ومن غيرها مما نزل في الهجرة ومن الأحاديث والسنة التي جرى عليها الصدر الأول من المسلمين أن الهجرة شرعت لثلاثة أسباب أو حكم اثنان منها يتعلقان بالأفراد والثالث يتعلق بالجماعة: أما الأول فهو أنه لا يجوز لمسلم أن يقيم في بلد يكون فيها ذليلا مضطهدا في حريته الدينية والشخصية، فكل مسلم يكون في مكان يفتن فيه عن دينه أو يكون ممنوعا من إقامته فيه كما يعتقد يجب عليه أن يهاجر منه إلى حيث يكون حرا في تصرفه وإقامة دينه، وإلا كانت إقامته معصية يترتب عليها ما لا يحصى من المعاصي، وإلا جاز له الإقامة. وهذا هو الذي عناه الأستاذ الإمام بما قاله عن بعض المسلمين المقيمين في بلاد الإنكليز متمتعين بحريتهم الدينية.
وأما الثاني: فهو تلقي الدين والتفقه فيه وكان ذلك في عصر النبي صلى الله عليه وسلم خاصا بالزمن الذي كان فيه إرسال الدعاة والمرشدين من قبله صلى الله عليه وسلم متعذرا لقوة المشركين على المسلمين وصدهم إياهم عن ذلك. ولا يجوز لمن أسلم في مكان ليس فيه علماء يعرفون أحكام الدين أن يقيم فيه بل يجب أن يهاجر إلى حيث يتلقى الدين والعلم.
وأما الثالث: المتعلق بجماعة المسلمين فهو أنه يجب على مجموع المسلمين أن تكون لهم جماعة أو دولة قوية تنشر دعوة الإسلام، وتقيم أحكامه وحدوده، وتحفظ بيضته، وتحمي دعاته وأهله من بغي الباغين، وعدوان العادين، وظلم الظالمين، فإذا كانت هذه الجماعة أو الدولة أو الحكومة ضعيفة يخشى عليها من إغارة الأعداء وجب على المسلمين أينما كانوا وحيثما حلوا أن يشدوا أزرها، حتى تقوى وتقوم بما يجب عليها، فإذا توقف ذلك على هجرة البعيد عنها إليها وجب عليه ذلك وجوبا قطعيا لا هوادة فيه، وإلا كان راضيا بضعفها أو معينا لأعداء الإسلام على إبطال دعوته، وخفض كلمته.
كانت هذه الأسباب الثلاثة متحققة قبل فتح مكة فلما فتحت قوي الإسلام على الشرك في جزيرة العرب كلها وصار الناس يدخلون في دين الله أفواجا والنبي صلى الله عليه وسلم يرسل إلى كل جهة من يعلم أهلها شرائع الإسلام، فزال سبب وجوب الهجرة لأجل الأمن من الفتنة والقدرة على إقامة الدين، وسبب وجوبها لأجل التفقه في الدين إلا نادرا، وسبب وجوبها لتأييد جماعة المسلمين وتقويتهم ونصرهم على من كان يحاربهم لأجل دينهم. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا) رواه أحمد والشيخان وأكثر أصحاب السنن من حديث ابن عباس. ورووا مثله عن عائشة. ومما لا مجال للخلاف فيه أن الهجرة تجب دائما بأحد الأسباب الثلاثة كما يجب السفر لأجل الجهاد إذا تحقق سببه، وأقوى موجباته اعتداء الكفار على بلاد المسلمين واستيلاؤهم عليها.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
فالمراغم: مشتمل على مصالح الدين. والسعة: على مصالح الدنيا...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن المنهج الرباني القرآني يعالج في هذه الآية مخاوف النفس المتنوعة؛ وهي تواجه مخاطر الهجرة؛ في مثل تلك الظروف التي كانت قائمة؛ والتي قد تتكرر بذاتها أو بما يشابهها من المخاوف في كل حين. وهو يعالج هذه النفس في وضوح وفصاحة؛ فلا يكتم عنها شيئا من المخاوف؛ ولا يداري عنها شيئا من الأخطار -بما في ذلك خطر الموت- ولكنه يسكب فيها الطمأنينة بحقائق أخرى وبضمانة الله سبحانه وتعالى.. فهو أولا يحدد الهجرة بأنها (في سبيل الله).. وهذه هي الهجرة المعتبرة في الإسلام. فليست هجرة للثراء، أو هجرة للنجاة من المتاعب، أو هجرة للذائذ والشهوات، أو هجرة لأي عرض من أعراض الحياة. ومن يهاجر هذه الهجرة -في سبيل الله- يجد في الأرض فسحة ومنطلقا فلا تضيق به الأرض، ولا يعدم الحيلة والوسيلة. للنجاة وللرزق والحياة: (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة).. وإنما هو ضعف النفس وحرصها وشحها؛ يخيل إليها أن وسائل الحياة والرزق، مرهونة بأرض، ومقيدة بظروف، ومرتبطة بملابسات لو فارقتها لم تجد للحياة سبيلا.
وهذا التصور الكاذب لحقيقة أسباب الرزق وأسباب الحياة والنجاة؛ هو الذي يجعل النفوس تقبل الذل والضيم، وتسكت على الفتنة في الدين؛ ثم تتعرض لذلك المصير البائس. مصير الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم. والله يقرر الحقيقة الموعودة لمن يهاجر في سبيل الله.. إنه سيجد في أرض الله منطلقا وسيجد فيها سعة. وسيجد الله في كل مكان يذهب إليه، يحييه ويرزقه وينجيه.. ولكن الأجل قد يوافي في أثناء الرحلة والهجرة في سبيل الله.. والموت -كما تقدم في سياق السورة- لا علاقة له بالأسباب الظاهرة؛ إنما هو حتم محتوم عندما يحين الأجل المرسوم. وسواء أقام أم هاجر، فإن الأجل لا يستقدم ولا يستأخر.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ..} والهجرة إلى الله ورسوله تتمثل في كل رحلةٍ يقوم بها الإنسان في خدمة الإسلام والمسلمين، وفي القيام بواجب شرعي من عبادةٍ ونحوها، وفي إنقاذ أية فئة محرومة أو مضطهدة من الفئات التي أوجب الله علينا إنقاذها... وجوب الهجرة من كل بلد يضعف فيه الإنسان دينياً... مما قد يؤدي به في نهاية المطاف إلى الخروج من الدين، وذلك من خلال الاستيحاء من الآية، لأن مسألة ضغط المستكبرين لا خصوصية له إلا من حيث النتيجة السلبية التي قد تترتب على البقاء في مواقع سلطتهم...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
بعد أنّ بحثت الآيات السابقة حول الأفراد الذين يقعون فريسة الذّل والمسكنة بسبب عدم إِيفائهم بواجب الهجرة، تشرح الآية الأخيرة بشكل صريح وحاسم أهمية الهجرة في قسمين:
في القسم الأوّل: تشير هذه الآية إِلى نعم وبركات الهجرة في الحياة الدنيا، فتقول إن الذي يهاجر في سبيل الله إِلى أي نقطة من نقاط هذه الأرض الواسعة، سيجد الكثير من النقاط الآمنة الواسعة ليستقر فيها، ويعمل هناك بالحقّ ويرغم أنف المعارضين (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة...).
ويجب الالتفات إِلى أن عبارة «مراغم» مشتقة من المصدر «رغام» على وزن «كلام» والذي يعني التراب، والإِرغام معناه التمريغ في التراب والإِذلال و«مراغم» صيغة لاسم المفعول واسم مكان أيضاً.
وقد وردت في الآية هذه بمعنى اسم مكان كذلك، أي أنّها المكان الذي يمكن فيه تحقيق الحق وتطبيقه والعمل به، كما يمكن فيه إِدانة المعارضين للحق وتمريغ أنفهم بالتراب.
بعد ذلك تشير الآية في القسم الثاني منها إِلى الجانب المعنوي الأخروي للهجرة: (ومن يخرج من بيته مهاجراً إِلى الله ورسوله ثمّ يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيماً)، وعلى هذا الأساس فإِن المهاجرين في كل الأحوال سينالهم نصر كبير، سواء وصلوا إِلى المكان الذي يستهدفونه ليتمتعوا فيه بحرية العمل بواجباتهم، أو لم يصلوا إِليه فيفقدوا حياتهم في هذا الطريق، وفي هذا المجال وعلى الرغم من بداهة حقيقة تلقي الصالحين أجرهم من الله سبحانه وتعالى، إِلاّ أنّ الآية موضوع البحث قد صرحت بهذا الأمر بقولها: (فقد وقع أجره على الله...
) وهذا يوضح مدى عظمة وأهمية الثواب والأجر الذي يناله المهاجرون.
إِنّ الإِسلام استنادا إِلى هذه الآية وآيات كثيرة أُخرى يأمر المسلمين بكل صراحة بالهجرة من المحيط الذي يعانون فيه لأسباب خاصّة من عدم التمكن من أداء واجباتهم إِلى محيط ومنطقة آمنة، وسبب هذا الأمر واضح، لأنّ الإِسلام لا يُحدّ بمكان ولا يقيد بمحيط معين خاص، ولهذا فإِن التمسك المفرط بالمحيط ومحل التولد والعلاقات المختلفة الأخرى لا تقف في نظر الإِسلام حائلا دون هجرة المسلمين.
ولذلك نرى انفصام كل هذه العلاقات في الصدر الأوّل للإِسلام ومن أجل حماية الإِسلام وتقدمه، وفي هذا المجال يقول أحد المؤرخين الغربيين: إنّ القبيلة والعائلة هما الشجرة الوحيدة التي تنبت في الصحراء، ولن يستطيع أحد الحياة دون اللجوء إِليها، إِلاّ أنّ محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) قد قلع هذه الشجرة التي نمت بلحم ودم عائلته، وفعل ذلك من أجل ربه وخالقه فقد فصم النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) علاقته بقريش في سبيل الإسلام.
علاوة على ما ذكر فإِن من بين جميع الموجودات الحيّة، حين تتعرض حياة أي واحداً أو مجموعة منها إِلى الخطر، نراها تضطر إِلى ترك مكان تواجدها والهجرة منه إِلى مأوى وملجأ أمن آخر، والكثير من أبناء البشر الأقدمين عمدوا إِلى الهجرة من مكان ولادتهم بسبب تغير الظروف الجغرافية فيه إِلى نقاط أُخرى من العالم من أجل مواصلة الحياة، وليس البشر وحدهم الذين مارسوا الهجرة، بل هناك من بين الحيوانات أنواع كثيرة عرفت بالحيوانات المهاجرة، مثل الطيور التي تضطر أحياناً إِلى الدوران حول الأرض تقريباً من أجل إِيجاد مأوى تواصل فيه حياتها، وبعض هذه الطيور تهاجر من القطب الشمالي إِلى القطب الجنوبي، وأحياناً تقطع مسافة حوالي (18) ألف كيلومتر للوصول الى المكان الذي تريد العيش فيه.
وهذه الشواهد هي خير دليل على أنّ الهجرة هي إِحدى القوانين الخالدة للحياة، فهل يصح أن يكون الإِنسان أقل حظاً من الحيوان في هذا المجال؟
وحين تتعرض، حياته المعنوية، وكيانه وأهدافه المقدسة التي هي أثمن وأغلى من حياته المادية إِلى الخطر، فهل يستطيع هذا الإِنسان البقاء في مكان الخطر متشبثاً بالأرض والمولد وغير ذلك متحملا ألوان الذل والإِهانة والحرمان وسلب الحريات، والأهم من ذلك كلّه زوال أهدافه التي يعيش من أجلها؟!
أو أن عليه أن يختار قانون الطبيعة في الهجرة، ويترك ذلك المكان، ويختار مكاناً آخر يتيسر فيه المجال لنموه المادي والمعنوي؟
الطريف في هذا الأمر أنّ الهجرة أي تلك الهجرة التي كانت لأجل حفظ النفس وحماية الشريعة الإِسلامية تعتبر مبدأ أو بداية التاريخ الإِسلامي، وهي بذلك تعد البنية الأساسية لكل الأحداث السياسية والاعلامية والاجتماعية للمسلمين.
فلننظر لماذا انتخبت هجرة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مبدأ أو بداية للتاريخ الإِسلامي؟
إِنّ هذا الموضوع جدير بالملاحظة، لأنّنا نعلم أن أي مجموعة بشرية صغرت أو كبرت، تتخذ لنفسها مبدأ أو بداية تاريخية تحسب منه تاريخها، فالمسيحيون مثلا اتّخذوا بداية تاريخهم السنة التي ولد فيها عيسى (عليه السلام)، أمّا المسلمون فمع وجود أحداث مهمة كثيرة وقعت لهم قبل الهجرة، مثل يوم ولادة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويوم البعثة المحمّدية الشريفة، وفتح مكّة، ووفاة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، لكنهم لم يتخذوا أي واحد من الأحداث مبدأ أو بداية لتاريخهم، بل اعتبروا حادثة الهجرة وحدها بداية للتاريخ الإِسلامي.
إِنّ التاريخ يقول أنّ المسلمين بدأوا يفكرون بتعيين بداية تاريخهم الذي له أهمية عامّة وشاملة في زمن الخليفة الثاني الذي توسعت في عهده رقعة البلاد الإِسلامية وأنّ المسلمين بعد البحث الكثير في هذا الأمر، اختاروا رأي علي بن أبي طالب (عليه السلام) باتّخاذ حادثة الهجرة النبوية الشريفة مبدأ وبداية للتاريخ الإِسلامي.
والحقيقة أنّ هذا الاختيار كان هو المتعيّن، لأنّ الهجرة كانت أهم وألمع حدث أو برنامج حصل للإِسلام، وكانت الهجرة مبدأ فصل جديد مهم في التاريخ الإِسلامي، فالمسلمون حين وجودهم في مكّة كانوا يمارسون تعلم شؤونهم الحياتية وفق دينهم الجديد (الإسلام) ولم تكن لديهم في هذه الحالة على ما يبدو أي قدرة سياسية واجتماعية، ولكنهم بعد الهجرة شكلوا مباشرة الدولة الإسلامية التي تقدمت بسرعة فائقة في كل المجالات ولو أنّ المسلمين لم يذعنوا لأمر الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في اختيار الهجرة وفضلوا البقاء في مكّة، لما تيسر عند ذلك للإِسلام أن يمتد خارج حدود مكّة، بل حتى كان من الممكن أن يقبر الإِسلام في مكّة ويمحى أثره.
ويتّضح لنا أنّ الهجرة لم تكن حكماً خاصاً بزمن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل إنّها تجب على المسلمين متى ما تعرضوا لظروف مشابهة لتلك الظروف التي اضطرت النّبي وأصحابه (صلى الله عليه وآله وسلم) إِلى ترك مكّة والهجرة إِلى المدينة.
والقرآن يعتبر الهجرة في الأساس جوهراً لوجود الحرية والرفاه، وقد أشارت الآية موضوع البحث إِلى هذا الأمر، كما أن الآية (41) من سورة النحل تشير من جانب آخر إِلى هذه الحقيقة، إِذ تقول: (والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدّنيا حسنة).
وتجدر الإِشارة أيضاً إِلى هذه النقطة، وهي أنّ الهجرة في نظر الإِسلام لا تقتصر على الهجرة المكانية والخارجية، بل يلزم قبل ذلك أن تتحقق لدى الفرد المسلم هجرة باطنية في نفسه، يترك بها كل ما ينافي الأصالة والكرامة الإِنسانية، لكي يتيسر له بهذا السبيل إِلى الهجرة المكانية، إِذن فالهجرة الباطنية ضرورية قبل أن يبدأ الإِنسان المسلم هجرته الخارجية وإِذا لم يكن هذا الإنسان بحاجة إِلى الهجرة الخارجية، يكون قد نال درجة المهاجرين بهجرته الباطنية.
والأساس في الهجرة هو الفرار من «الظلمات» إِلى «النور» ومن الكفر إِلى الإِيمان، ومن الخطأ والعصيان إِلى إطاعة حكم الله، لذلك نجد في الحديث ما يدل على أنّ المهاجرين الذين هاجروا بأجسامهم دون أن تتحقق الهجرة في بواطنهم وأرواحهم، ليسوا في درجة المهاجرين، وعلى عكس هؤلاء فإِنّ من تتحقق لديه الهجرة الباطنية الروحية ولم يتمكن أو لم يحتج إِلى الهجرة الخارجية فهو في عداد المهاجرين حقاً.