وبتقرير حقيقة البقاء وراء الفناء ، وما ينبثق منها من حقيقة الاتجاه الكلي إلى الواحد الباقي ، وتعلق مشيئته - سبحانه - بشئون الخلائق وتقديرها وتدبيرها ، فضلا منه ومنة على العباد . .
بتقرير هذه الحقيقة الكلية وما ينبثق عنها من حقائق ينتهي الاستعراض الكوني ، ومواجهة الجن والإنس به ؛ ويبدأ مقطع جديد . فيه تهديد وفيه وعيد . تهديد مرعب مفزع ، ووعيد مزلزل مضعضع . تمهيدا لهول القيامة الذي يطالع الثقلين في سياق السورة بعد ذاك :
( سنفرغ لكم أيها الثقلان . فبأي آلاء ربكما تكذبان ? يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا . لا تنفذون إلا بسلطان . فبأي آلاء ربكما تكذبان ? يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران . فبأي آلاء ربكما تكذبان ? ) . .
( سنفرغ لكم أيها الثقلان ) . .
يا للهول المرعب المزلزل ، الذي لا يثبت له إنس ولا جان . ولا تقف له الجبال الرواسي ولا النجوم والأفلاك !
الله . جل جلاله . الله القوي القادر ، القهار الجبار ، الكبير المتعال . الله - سبحانه - يفرغ لحساب هذين الخلقين الضعيفين الصغيرين : الجن والإنس ، في وعيد وانتقام !
إنه أمر . إنه هول . إنه فوق كل تصور واحتمال !
والله - سبحانه - ليس مشغولا فيفرغ . وإنما هو تقريب الأمر للتصور البشري . وإيقاع الوعيد في صورة مذهلة مزلزلة ، تسحق الكيان بمجرد تصورها سحقا . فهذا الوجود كله نشأ بكلمة . كلمة واحدة . كن فيكون . وتدميره أو سحقه لا يحتاج إلا واحدة كلمح بالبصر . . فكيف يكون حال الثقلين ، والله يفرغ لهما وحدهما ، ليتولاهما بالانتقام ? !
هذا تخلّص من الاعتبار بأحوال الحياة العاجلة إلى التذكير بأحوال الآخرة والجزاء فيها انتُقل إليه بمناسبة اشتمال ما سَبق من دلائل سعة قدرة الله تعالى ، على تعريض بأن فاعل ذلك أهلّ للتوحيد بالإِلهية ، ومستحق الإِفراد بالعبادة ، وإذ قد كان المخاطبون بذلك مشركين مع الله في العبادة انتُقل إلى تهديدهم بأنهم وأولياءَهم من الجن المسوِّلين لهم عبادة الأصنام سيعرضون على حكم الله فيهم .
وحرف التنفيس مستعمل في مطلق التقريب المكنَّى به عن التحقيق ، كما تقدم في قوله تعالى : { قال سوف أستغفر لكم ربي } في سورة يوسف ( 98 ) .
والفراغ للشيء : الخلوُ عما يشغل عنه ، وهو تمثيل للاعتناء بالشيء ، شبّه حال المقبل على عمل دون عمللٍ آخر بحال الوعاء الذي أُفْرغَ مما فيه ليُملأ بشيء آخر .
وهذا التمثيل صالح للاستعمال في الاعتناء كما في قول أبي بكر الصديق لابنه عبد الرحمان افْرُغْ إلى أضيافك ( أي تخل عن كل شغل لتشتغل بأضيافك وتتوفر على قِراهم ) وصالح للاستعمال في الوعيد ، كقول جرير :
أَلاَنَ وقد فرغت إلى نَمير *** فهذا حين كنتُ لها عذاباً
والمناسب لسياق الآية باعتبار السابق واللاحق ، أن تحمل على معنى الإِقبال على أمور الثقلين في الآخرة ، لأن بعده { يعرف المجرمون بسيماهم } [ الرحمن : 41 ] ، وهذا لكفار الثقلين وهم الأكثر في حين نزول هذه الآية .
و { الثقلان } : تثنية ثَقَل ، وهذا المثنى اسم مفرد لمجموع الإِنس والجن .
وأحسب أن الثّقَل هو الإِنسان لأنه محمول على الأرض ، فهو كالثقل على الدابة ، وأن إطلاق هذا المثنى على الإنس والجن من باب التغليب ، وقيل غير هذا مما لا يرتضيه المتأمل . وقد عد هذا اللفظ بهذا المعنى مما يستعمل إلا بصيغة التثنية فلا يطلق على نوع الإنسان بانفراده اسم الثقل ولذلك فهو مثنى اللفظ مفرد الإطلاق . وأظن أن هذا اللفظ لم يطلق على مجموع النوعين قبل القرآن فهو من أعلام الأجناس بالغلبة ، ثم استعمله أهل الإسلام ، قال ذو الرمة :
وميَّة أحسن الثقلين وَجها *** وسَالِفَةً وأحسنُهُ قَذالاً
أراد وأحسن الثقلين ، وجعل الضمير له مفرداً . وقد أخطأ في استعماله إذ لا علاقة للجن في شيء من غرضه .
وقرأ الجمهور { سنفرغ } بالنون . وقرأه حمزة والكسائي بالياء المفتوحة على أن الضمير عائد إلى الله تعالى على طريقة الالتفات .
وكُتب { أيه } في المصحف بهاء ليس بعدها ألف وهو رسم مراعى فيه حال النطق بالكلمة في الوصل إذ لا يوقف على مثله ، فقرأها الجمهور بفتحة على الهاء دون ألف في حالتي الوصل والوقف . وقرأها أبو عمرو والكسائي بألف بعد الهاء في الوقف . وقرأه ابن عامر بضم الهاء تبعاً لضم الياء التي قبلها وهذا من الإِتباع .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{سنفرع لكم أيه الثقلان} يعني سنفرغ لحساب الإنس والجن... وهذا من كلام العرب يقول: سأفرغ لك، وإنه لفارغ قبل ذلك، وهذا تهديد، والله تعالى لا يشغله شيء، يقول: سيفرغ الله في الآخرة لحسابكم أيها الثقلان يعني الجن والإنس.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
... وعيد من الله لعباده وتهدّد، كقول القائل الذي يتهدّد غيره ويتوعده، ولا شغل له يشغله عن عقابه، لأتفرغنّ لك، وسأتفرّغ لك، بمعنى: سأجدّ في أمرك وأعاقبك، وقد يقول القائل للذي لا شغل له، قد فرغت لي، وقد فرغت لشتمي: أي أخذت فيه وأقبلت عليه، وكذلك قوله جلّ ثناؤه:"سَنَفْرُغُ لَكُمْ": سنحاسبكم، ونأخذ في أمركم أيها الإنس والجنّ، فنعاقب أهل المعاصي، ونثيب أهل الطاعة... عن ابن عباس، قوله: "سَنَفْرُغُ لَكُمْ أيّها الثّقَلانِ "قال: وَعيد من الله للعباد، وليس بالله شغل، وهو فارغ.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{سنفرغ لكم أيه الثقلان} [{فبأي آلاء ربكما تكذبان}]...إن الفراغ ليس يستعمل في الفراغ من الشغل خاصة، لكن يستعمل له ولغيره من نحو إنجاز ما وعد، وأوعد، كأنه قال: سننجز لكم ما أوعدتكم {أيه الثقلان}. وعندنا أن الفراغ هو اسم لانقضاء الفعل وتمامه لا للفراغ من الشغل؛ يقال: فلان فرغ من شغله، إذا فرغ من بناء داره، إذا أتمه، وانقضى ذلك. ألا ترى أنه، وإن فرغ من شغل تلك الدار وذلك العمل، فهو مشغول بغيره؟ دل أنه ليس باسم للفراغ من الشغل؛ إذ لو كان اسما للفراغ من الشغل لا يوصف به، وهو مشغول بغيره. دل أنه اسم للتمام والانقضاء. لكن فهم الخلق بعضهم من بعض الفراغ من الشغل لما أن فعلهم الشيء لا يلتئم إلا بالشغل في ذلك، ففهم ذلك من فعلهم. فأما الله سبحانه وتعالى حين لا يشغله فعل عن فعل ولا شيء عن شيء لم يجز أن يفهم من فراغه من الشغل فراغه، وبالله العصمة والتوفيق.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
الفراغ للفعل هو التوفر عليه دون غيره {أَيُّهَ الثَّقَلاَنِ} أي الجن والإنس، دليله قوله في عقبه {يمَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} سمّيا ثقلين؛ لأنهما ثقل أحياءً وأمواتاً، قال الله سبحانه: {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة: 2] وقال بعض أهل المعاني: كل شيء له قدر ينافس فيه فهو ثقل...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{سَنَفْرُغُ لَكُمْ}...ويجوز أن يراد: ستنتهي الدنيا وتبلغ آخرها، وتنتهي عند ذلك شؤون الخلق التي أرادها بقوله: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} فلا يبقى إلا شأن واحد وهو جزاؤكم، فجعل ذلك فراغاً لهم على طريق المثل.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{سنفرغ لكم}. عبارة عن إتيان الوقت الذي قدر فيه وقضى أن ينظر في أمور عباده وذلك يوم القيامة،...
.ويحتمل أن يكون التوعد بعذاب في الدنيا، والأول أبين.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{سنفرغ} أي بوعد قريب لا خلف فيه من جميع الشؤون التي ذكرت {لكم} أي نعمل علم من يفرغ للشيء فلا يكون له شغل سواه بفراغ جنودنا من الملائكة وغيرهم مما أمرناهم به مما سبقت به كلمتنا ومضت به حكمتنا من الآجال والأرزاق وغير ذلك فينتهي كله ولا يكون لهم حينئذ عمل إلا جمعكم ليقضي بينكم: {أيّه الثقلان} بالنصفة، والثقل هو ما يكون به قوام صاحبه، فكأنهما سميا بذلك تمثيلاً لهما بذلك إشارة إلى أنهما المقصودان بالذات من الخلائق...
تيسير التفسير لاطفيش 1332 هـ :
{سَنَفْرُغُ لكمْ أيُّها الثَّقَلاَنِ} هذه الآية أشد عليّ كما شد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- {فاستقم كما أُمرت} [هود: 112] وأهوال القيامة، لأَنها جاءت على شكل من له مملوك أنعم عليه ولم يشكر، فقال سأَترك الأَشغال كلها وأُعاملك بما تستحق...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يا للهول المرعب المزلزل، الذي لا يثبت له إنس ولا جان. ولا تقف له الجبال الرواسي ولا النجوم والأفلاك! الله. جل جلاله. الله القوي القادر، القهار الجبار، الكبير المتعال. الله -سبحانه- يفرغ لحساب هذين الخلقين الضعيفين الصغيرين: الجن والإنس، في وعيد وانتقام! إنه أمر. إنه هول. إنه فوق كل تصور واحتمال! والله -سبحانه- ليس مشغولا فيفرغ. وإنما هو تقريب الأمر للتصور البشري. وإيقاع الوعيد في صورة مذهلة مزلزلة، تسحق الكيان بمجرد تصورها سحقا...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وحرف التنفيس مستعمل في مطلق التقريب المكنَّى به عن التحقيق، كما تقدم في قوله تعالى: {قال سوف أستغفر لكم ربي} في سورة يوسف (98). والفراغ للشيء: الخلوُ عما يشغل عنه، وهو تمثيل للاعتناء بالشيء، شبّه حال المقبل على عمل دون عملٍ آخر بحال الوعاء الذي أُفْرغَ مما فيه ليُملأ بشيء آخر. وهذا التمثيل صالح للاستعمال في الاعتناء كما في قول أبي بكر الصديق لابنه عبد الرحمان افْرُغْ إلى أضيافك (أي تخل عن كل شغل لتشتغل بأضيافك وتتوفر على قِراهم)...والمناسب لسياق الآية باعتبار السابق واللاحق، أن تحمل على معنى الإِقبال على أمور الثقلين في الآخرة، لأن بعده {يعرف المجرمون بسيماهم} [الرحمن: 41]، وهذا لكفار الثقلين وهم الأكثر في حين نزول هذه الآية.وأحسب أن الثّقَل هو الإِنسان لأنه محمول على الأرض، فهو كالثقل على الدابة، وأن إطلاق هذا المثنى على الإنس والجن من باب التغليب، وقيل غير هذا مما لا يرتضيه المتأمل. وقد عد هذا اللفظ بهذا المعنى مما يستعمل إلا بصيغة التثنية فلا يطلق على نوع الإنسان بانفراده اسم الثقل ولذلك فهو مثنى اللفظ مفرد الإطلاق. وأظن أن هذا اللفظ لم يطلق على مجموع النوعين قبل القرآن فهو من أعلام الأجناس بالغلبة، ثم استعمله أهل الإسلام..