الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{سَنَفۡرُغُ لَكُمۡ أَيُّهَ ٱلثَّقَلَانِ} (31)

قوله تعالى : " سنفرغ لكم أيها الثقلان " يقال : فرغت من الشغل أفرغ فروغا وفراغا وتفرغت لكذا واستفرغت مجهودي في كذا أي بذلته . والله تعالى ليس له شغل يفرغ منه ، إنما المعنى سنقصد لمجازاتكم أو محاسبتكم ، وهذا وعيد وتهديد لهم كما يقول القائل لمن يريد تهديده : إذا أتفرغ لك أي أقصدك . وفرغ بمعنى قصد ، وأنشد ابن الأنباري في مثل هذا لجرير :

ألاَنَ وقد فَرَغْتُ إلى نُمَيْرٍ *** فَهذَا حين كُنْتُ لها عَذابَا

يريد وقد قصدت . وقال أيضا{[14547]} وأنشده النحاس :

فَرَغْتُ إلى العبد المُقَيَّدِ في الحِجْلِ

وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بايع الأنصار ليلة العقبة ، صاح الشيطان : يا أهل الجُبَاجِب{[14548]} ! هذا مُذَمَّمٌ يبايع بني قيلة على حربكم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " هذا إِزْبُ{[14549]} العقبة أما والله يا عدو الله لأتفرغن لك " أي أقصد إلى إبطال أمرك . وهذا اختيار القتبي والكسائي وغيرهما . وقيل : إن الله تعالى وعد على التقوى وأوعد على الفجور ، ثم قال : " سنفرغ لكم " مما وعدناكم ونوصل كلا إلى ما وعدناه ، أي أقسم ذلك وأتفرغ منه . قاله الحسن ومقاتل وابن زيد . وقرأ عبدالله وأبي " سنفرغ إليكم " وقرأ الأعمش وإبراهيم " سيفرغ لكم " بضم الياء وفتح الراء على ما لم يسم فاعله . وقرأ ابن شهاب والأعرج " سنفرغ لكم " بفتح النون والراء ، قال الكسائي : هي لغة تميم يقولون فرغ يفرغ ، وحكى أيضا فرغ يفرغ ورواهما هبيرة عن حفص عن عاصم . وروى الجعفي عن أبي عمرو " سيفرغ " بفتح الياء والراء ، ورويت عن ابن هرمز . وروي عن عيسى الثقفي " سنفرغ لكم " بكسر النون وفتح الراء ، وقرأ حمزة والكسائي " سيفرغ لكم " بالياء . الباقون بالنون وهي لغة تهامة . والثقلان الجن والإنس ، سميا بذلك لعظم شأنهما بالإضافة إلى ما في الأرض من غيرهما بسبب التكليف - وقيل : سموا بذلك لأنهم ثقل على الأرض أحياء وأمواتا ، قال الله تعالى : " وأخرجت الأرض أثقالها{[14550]} " [ الزلزلة : 2 ] ومنه قولهم : أعطه ثقله أي وزنه . وقال بعض أهل المعاني : كل شيء له قدر ووزن ينافس فيه فهو ثقل . ومنه قيل لبيض النعام ثقل ؛ لأن واجده وصائده يفرح به إذا ظفر به . وقال جعفر الصادق : سُمّيَا ثقلين ، لأنهما مثقلان بالذنوب . وقال : " سنفرغ لكم " فجمع ، ثم قال : " أيه الثقلان " لأنهما فريقان وكل فريق جمع ، وكذا قوله تعالى : " يا معشر الجن والإنس إن استطعتم " ولم يقل إن استطعتما ؛ لأنهما فريقان في حال الجمع ، كقوله تعالى : " فإذا هم فريقان يختصمون{[14551]} " [ النمل : 45 ] و " هذان خصمان اختصموا في ربهم{[14552]} " [ الحج : 19 ] ولو قال : سنفرغ لكما{[14553]} ، وقال : إن استطعتما لجاز . وقرأ أهل الشام " أيهُ الثقلان " بضم الهاء . الباقون بفتحها وقد تقدم{[14554]} .

مسألة : هذه السورة و " الأحقاف " و " قل أوحي " دليل على أن الجن مخاطبون مكلفون مأمورون منهيون مثابون معاقبون كالإنس سواء ، مؤمنهم كمؤمنهم ، وكافرهم ككافرهم ، لا فرق بيننا وبينهم في شيء من ذلك .


[14547]:أي جرير.
[14548]:الجباجب: منازل منى.
[14549]:الإزب: ضبطه الحلبي في سيرته بكسر الهمزة وإسكان الزاي، وهو هنا اسم شيطان.
[14550]:راجع جـ 20 ص 147.
[14551]:راجع جـ 13 ص 214.
[14552]:راجع جـ 12 ص 25 وص 238 وجـ 16 ص 97.
[14553]:أي في غير القرآن.
[14554]:راجع جـ 12 ص 25 وص 238 وجـ 16 ص 97.