{ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ } وذلك حين يبعثون من قبورهم ويقومون منها ، يدعوهم الداعي إلى الحضور والاجتماع للموقف ، فيتبعونه مهطعين إليه ، لا يلتفتون عنه ، ولا يعرجون يمنة ولا يسرة ، وقوله : { لَا عِوَجَ لَهُ } أي : لا عوج لدعوة الداعي ، بل تكون دعوته حقا وصدقا ، لجميع الخلق ، يسمعهم جميعهم ، ويصيح بهم أجمعين ، فيحضرون لموقف القيامة ، خاشعة أصواتهم للرحمن ، { فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا } أي : إلا وطء الأقدام ، أو المخافتة سرا بتحريك الشفتين فقط ، يملكهم الخشوع والسكون والإنصات ، انتظارا لحكم الرحمن فيهم ، وتعنو وجوههم ، أي : تذل وتخضع ، فترى في ذلك الموقف العظيم ، الأغنياء والفقراء ، والرجال والنساء ، والأحرار والأرقاء ، والملوك والسوقة ، ساكتين منصتين ، خاشعة أبصارهم ، خاضعة رقابهم ، جاثين على ركبهم ، عانية وجوههم ، لا يدرون ماذا ينفصل كل منهم به ، ولا ماذا يفعل به ، قد اشتغل كل بنفسه وشأنه ، عن أبيه وأخيه ، وصديقه وحبيبه { لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } فحينئذ يحكم فيهم الحاكم العدل الديان ، ويجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بالحرمان .
والأمل بالرب الكريم ، الرحمن الرحيم ، أن يرى الخلائق منه ، من الفضل والإحسان ، والعفو والصفح والغفران ، ما لا تعبر عنه الألسنة ، ولا تتصوره الأفكار ، ويتطلع لرحمته إذ ذاك جميع الخلق لما يشاهدونه [ فيختص المؤمنون به وبرسله بالرحمة ]{[521]} فإن قيل : من أين لكم هذا الأمل ؟ وإن شئت قلت : من أين لكم هذا العلم بما ذكر ؟
قلنا : لما نعلمه من غلبة رحمته لغضبه ، ومن سعة جوده ، الذي عم جميع البرايا ، ومما نشاهده في أنفسنا وفي غيرنا ، من النعم المتواترة في هذه الدار ، وخصوصا في فصل القيامة ، فإن قوله : { وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ } { إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ } مع قوله { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ } مع قوله صلى الله عليه وسلم : " إن لله مائة رحمة أنزل لعباده رحمة ، بها يتراحمون ويتعاطفون ، حتى إن البهيمة ترفع حافرها عن ولدها خشية أن تطأه -أي : - من الرحمة المودعة في قلبها ، فإذا كان يوم القيامة ، ضم هذه الرحمة إلى تسع وتسعين رحمة ، فرحم بها العباد "
مع قوله صلى الله عليه وسلم : " لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها " فقل ما شئت عن رحمته ، فإنها فوق ما تقول ، وتصور ما شئت ، فإنها فوق ذلك ، فسبحان من رحم في عدله وعقوبته ، كما رحم في فضله وإحسانه ومثوبته ، وتعالى من وسعت رحمته كل شيء ، وعم كرمه كل حي ، وجل من غني عن عباده ، رحيم بهم ، وهم مفتقرون إليه على الدوام ، في جميع أحوالهم ، فلا غنى لهم عنه طرفة عين .
وكأنما تسكن العاصفة بعد ذلك النسف والتسوية ؛ وتنصت الجموع المحشودة المحشورة ، وتخفت كل حركة وكل نأمة ، ويستمعون الداعي إلى الموقف فيتبعون توجيهه كالقطيع صامتين مستسلمين ، لا يتلفتون ولا يتخلفون - وقد كانوا يدعون إلى الهدى فيتخلفون ويعرضون - ويعبر عن استسلامهم بأنهم ( يتبعون الداعي لا عوج له )تنسيقا لمشهد القلوب والأجسام مع مشهد الجبال التي لا عوج فيها ولا نتوء !
ثم يخيم الصمت الرهيب والسكون الغامر : ( وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا ) . . ( وعنت الوجوه للحي القيوم ) . .
وهكذا يخيم الجلال على الموقف كله ، وتغمر الساحة التي لا يحدها البصر رهبة وصمت وخشوع . فالكلام همس . والسؤال تخافت . والخشوع ضاف . والوجوه عانية . وجلال الحي القيوم يغمر النفوس بالجلال الرزين .
جملة { يتبعون الدّاعي } في معنى المفرعة على جملة { يَنسِفُهَا } [ طه : 105 ] . و { يَوْمَئِذٍ } ظرف متعلق ب { يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ } . وقدم الظرف على عامله للاهتمام بذلك اليوم ، وليكون تقديمه قائماً مقام العَطف في الوصل ، أي يتبعون الداعي يوم ينسف ربّك الجبال ، أي إذا نسفت الجبال نودوا للحشر فحضروا يتبعون الداعي لذلك .
والداعي ، قيل : هو المَلك إسرافيل عليه السلام يدعو بنداء التسخير والتكوين ، فتعود الأجساد والأرواح فيها وتهطع إلى المكان المدعوّ إليه . وقيل : الداعي الرسول ، أي يتبع كلّ قوم رسولهم .
و { عِوَجَ لَهُ } حال من { الدَّاعِيَ } . واللام على كلا القولين في المراد من الداعي للأجْل ، أي لا عوج لأجل الداعي ، أي لا يروغ المدعوون في سيرهم لأجل الداعي بل يقصدون متجهين إلى صَوبه . ويجيء على قول من جعل المراد بالداعي الرسول أن يرَاد بالعوج الباطل تعريضاً بالمشركين الذين نسبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم العِوج كقولهم { إن تتبعون إلاّ رجلاً مسحوراً } [ الفرقان : 8 ] ، ونحو ذلك من أكاذيبهم ، كما عُرض بهم في قوله تعالى : { الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً } [ الكهف : 1 ] .
فالمصدر المنفي أريد منه نفي جنس العوج في اتباع الداعي ، بحيث لا يسلكون غير الطريق القويم ، أو لا يسلك بهم غير الطريق القويم ، أو بحيث يعلمون براءة رسولهم من العِوج .
وبيْن قوله { لا ترى فيها عوجاً } [ طه : 107 ] وقوله { لا عِوَج له } مراعاة النظير ، فكما جعل الله الأرض يومئذ غير معوجة ولا ناتئة كما قال { فإذا هم بالساهرة } [ النازعات : 14 ] كذلك جعل سير النّاس عليها لا عوج فيه ولا مراوغة .
والخشوع : الخضوع ، وفي كلّ شيء من الإنسان مظهر من الخشوع ؛ فمظهر الخشوع في الصوت : الإسرار به ، فلذلك فرع عليه قوله { فلا تسمع إلاّ همساً } .
والخطاب بقوله { لا ترى فيها عوجاً } وقوله { فلا تسمع إلا همساً } خطاب لغير معين ، أي لا يرى الرائي ولا يسمع السامع .
وجملة { وخَشَعَتِ الأصوَاتُ } في موضع الحال من ضمير { يتّبعون وإسناد الخشوع إلى الأصوات مجاز عقلي ، فإن الخشوع لأصحاب الأصوات ؛ أو استعير الخشوع لانخفاض الصوت وإسراره ، وهذا الخشوع من هول المقام .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.