ولما أمره بما فيه كمال نفسه ، أمره بتكميل غيره فقال : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } .
الذين هم أقرب الناس إليك ، وأحقهم بإحسانك الديني والدنيوي ، وهذا لا ينافي أمره بإنذار جميع الناس ، كما إذا أمر الإنسان بعموم الإحسان ، ثم قيل له " أحسن إلى قرابتك " فيكون هذا خصوصا{[584]} دالا على التأكيد ، وزيادة الحق ، فامتثل صلى الله عليه وسلم ، هذا الأمر الإلهي ، فدعا سائر بطون قريش ، فعمم وخصص ، وذكرهم ووعظهم ، ولم يُبْق صلى الله عليه وسلم من مقدوره شيئا ، من نصحهم ، وهدايتهم ، إلا فعله ، فاهتدى من اهتدى ، وأعرض من أعرض .
وهنا يلتفت بالخطاب إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يحذره من الشرك - وهو أبعد من يكون عنه - ليكون غيره أولى بالحذر . ويكلفه إنذار عشيرته الأقربين . ويأمره بالتوكل على الله ، الذي يلحظه دائما ويرعاه :
( فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين . وأنذر عشيرتك الأقربين . واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين . فإن عصوك فقل : إني بريء مما تعملون . وتوكل على العزيز الرحيم . الذي يراك حين تقوم . وتقلبك في الساجدين . إنه هو السميع العليم ) . .
وحين يكون الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] متوعدا بالعذاب مع المعذبين ، لو دعا مع الله إلها آخر . وهذا محال ولكنه فرض للتقريب . فكيف يكون غيره ? وكيف ينجو من العذاب من يدعو هذه الدعوة من الآخرين ? ! وليس هنالك محاباة ، والعذاب لا يتخلف حتى عن الرسول ، لو ارتكب هذا الإثم العظيم !
وبعد إنذار شخصه [ صلى الله عليه وسلم ] يكلف إنذار أهله . لتكون لمن سواهم عبرة ، أن هؤلاء يتهددهم العذاب لو بقوا على الشرك لا يؤمنون : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) . .
روى البخاري ومسلم أنه لما نزلت هذه الآية أتى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] الصفا فصعد عليه ثم نادى : يا صباحاه ! فاجتمع الناس إليه ، بين رجل يجيء إليه ، وبين رجل يبعث رسوله . فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " يا بني عبد المطلب . يا بني فهر . يا بني لؤي . أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني ? " قالوا : نعم . قال : " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " . فقال أبو لهب : تبا لك سائر اليوم ! أما دعوتنا إلا لهذا ? وأنزل الله : ( تبت يدا أبي لهب وتب . . . ) .
وأخرج مسلم - بإسناده - عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : لما نزلت : ( وأنذر عشيرتك الأقربين )قام رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : " يا فاطمة ابنة محمد . يا صفية ابنة عبد المطلب . يا بني عبد المطلب . لا أملك لكم من الله شيئا . سلوني من مالي ماشئتم " .
وأخرج مسلم والترمذي - بإسناده عن أبي هريرة - قال : لما نزلت هذه الآية . دعا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قريشا فعم وخص فقال : " يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار . يا معشر بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار . يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار . فإني والله لا أملك لكم من الله شيئا . إلا أن لكم رحما سأبلها ببلالها " . . .
فهذه الأحاديث وغيرها تبين كيف تلقى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] الأمر ، وكيف أبلغه لعشيرته الأقربين ، ونفض يده من أمرهم ، ووكلهم إلى ربهم في أمر الآخرة ، وبين لهم أن قرابتهم له لا تنفعهم شيئا إذا لم ينفعهم عملهم ، وأنه لا يملك لهم من الله شيئا ، وهو رسول الله . . وهذا هو الإسلام في نصاعته ووضوحه ، ونفي الوساطة بين الله وعباده حتى عن رسوله الكريم .
وأمره بنذارة عشيرته تخصيصاً لهم إذ العشيرة مظنة المقاربة والطواعية . وإذ يمكنه معهم من الإغلاظ عليهم ما لا يحتمله غيره فإن البر بهم في مثل هذا الحمل عليهم والإنسان غير متهم على عشيرته . وكان هذا التخصيص مع الأمر العام بنذارة العالم . وروي عن ابن جريج أن المؤمنين من غير عشيرته في ذلك الوقت نالهم من هذا التخصيص وخروجهم منه فنزلت { واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين } ، ولما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه النذارة عظم موقع الأمر عليه وصعب ولكنه تلقاه بالجلد ، وصنع أشياء مختلفة كلها بحسب الأمر ، فمن ذلك أنه أمر علياً رضي الله عنه بأن يصنع طعاماً وجمع عليه بني جده عبد المطلب وأراد نذارتهم ودعوتهم في ذلك الجمع وظهر منه عليه السلام بركة في الطعام ، قال علي وهم يومئذ أربعون رجلاً ينقصون رجلاً أو يزيدونه ، فرماه أبو لهب بالسحر فوجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وافترق جمعهم من غير شيء ، ثم جمعهم كذلك ثانية وأنذرهم ووعظهم فتضاحكوا ولم يجيبوا{[1]} ، ومن ذلك أنه نادى عمه العباس وصفية عمته وفاطمة ابنته وقال لهم : «لا أغنى عنكم من الله شيئاً إني لكم نذير بين يدي عذاب شديد » في حديث مشهور{[2]} ، ومن ذلك أنه صعد على الصفا أو أبي قبيس ونادى «يا بني عبد مناف واصباحاه » فاجتمع إليه الناس من أهل مكة فقال يا بني فلان حتى أتى على بطون قريش جميعاً ، فلما تكامل خلق كثير من كل بطن . قال لهم «رأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل تريد الغارة عليكم أكنتم مصدقي » قالوا نعم ، فإنا لم نجرب عليك كذباً ، فقال لهم «فإني لكم نذير بين يدي عذاب شديد » ، فقال له أبو لهب ألهذا جمعتنا تباً لك سائر اليوم فنزلت { تبت يدا أبي لهب }{[3]} [ المسد : 1 ] السورة ، و «العشيرة » قرابة الرجل وهي في الرتبة تحت الفخذ وفوق الفصيلة ، وخفض الجناح استعارة معناه لين الكلمة وبسط الوجه والبر .
عطف على قوله : { نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين } [ الشعراء : 193 - 194 ] ، فهو تخصيص بعد تعميم للاهتمام بهذا الخاص . ووجه الاهتمام أنهم أولى الناس بقبول نصحه وتعزيز جانبه ولئلا يسبق إلى أذهانهم أن ما يلقيه الرسول من الغلظة في الإنذار وأهوال الوعيد لا يقع عليهم لأنهم قرابة هذا المنذر وخاصته . ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم في ندائه لهم : " لا أغني عنكم من الله شيئاً " ، وأن فيه تعريضاً بقلة رعي كثير منهم حق القرابة إذ آذاه كثير منهم وعصَوْه مثل أبي لهب فلا يحسبوا أنهم ناجون في الحالتين وأن يعلموا أنهم لا يكتفَى من مؤمنهم بإيمانه حتى يضم إليه العمل الصالح ؛ فهذا مما يدخل في النذارة ، ولذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول هذه الآية قرابتَه مؤمنين وكافرين .
ففي حديث عائشة وابن عباس وأبي هريرة في « صحيحي البخاري ومسلم » يجمعها قولهم : « لمّا نزلت { وأنذر عشيرتك الأقربين } قام رسول الله على الصَّفا فدعا قريشاً فجعل ينادي : يا بني فهر يا بني عديّ ، لبطون قريش حتى اجتمعوا ، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو ، فقال : يا معشر قريش ، فعَمَّ وخص ، يا بني كعب بنِ لؤي أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني مُرَّة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار ، اشتروا أنفسكم من الله لا أُغني عنكم من الله شيئاً ، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً ، يا صفيةُ عمةَ رسول الله لا أغني عنكِ من الله شيئاً ، يا فاطمة بنت رسول الله سليني من مالي ما شئتِ لا أُغني عنك من الله شيئاً ، غيرَ أنَّ لكم رَحِماً سأبُلُّها ببلاَلها » وكانت صفية وفاطمة من المؤمنين وكان إنذارهما إعمالاً لفعل الأمر في معانيه كلها من الدعوة إلى الإيمان وإلى صالح الأعمال ؛ فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الإنذار من الشرك والإنذار من المعاصي لأنه أنذر صفية وفاطمة وكانتا مسلمتين .
وفي « صحيح البخاري » عن ابن عباس قال : لما نزلت : { وأنذر عشيرتك الأقربين } صعد النبي ( صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي : يا بني فهر يا بني عديّ ، لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو ، فجاء أبو لهب وقريش فقال : أرأيتكُم لو أخبرتُكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تُغير عليكم أكنتم مصدّقِيَّ ؟ قالوا : نعم ما جربنا عليك إلا صدقاً .
قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد . فقال أبو لهب : تبّاً لك سائرَ اليوم ألهذا جمعتنا ؟ فنزلت { تبت يَدا أبي لهب وتبَّ ما أغنى عنه ماله وما كسب } [ المسد : 1 - 2 ] .
وهذا الحديث يقتضي أن سورة الشعراء نزلت قبل سورة أبي لهب مع أن سورة أبي لهب عُدّت السادسة في عداد نزول السور ، وسورة الشعراء عُدّت السابعة والأربعين . فالظاهر أن قوله : { وأنذر عشيرتك الأقربين } نزل قبل سورة الشعراء مفرداً ، فقد جاء في بعض الروايات عن ابن عباس في « صحيح مسلم » : لمّا نزلت « وأنذر عشيرتك الأقربين ورهطَك منهم المخلصين » وأن ذلك نسخ . فلعل الآية نزلت أول مرة ثم نسخت تلاوتها ثم أعيد نزول بعضها في جملة بسورة الشعراء .
والعشيرة : الأدْنَوْن من القبيلة ، فوصف { الأقربين } تأكيد لمعنى العشيرة واجتلاب لقلوبهم إلى إجابة ما دعاهم إليه وتعريض بأهل الإدانة منهم .
وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة *** على المرء من وقع الحسام المهنّد .
وإلى هذا يشير قول النبي صلى الله عليه وسلم لهم في آخر الدعوة المتقدمة « غير أن لكم رحماً سأبُلُّها ببلالها » أي ذلك منتهى ما أملك لكم حين لا أملك لكم من الله شيئاً ، فيحق عليكم أن تبُلُّوا لي رحمي مما تملكون ، فإنكم تملكون أن تستجيبوا لي .
وتقدم ذكر العشيرة في قوله تعالى : { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم } في سورة [ براءة : 24 ] .