{ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } أي : تنظر إلى ربها{[1296]} على حسب مراتبهم : منهم من ينظره كل يوم بكرة وعشيا ، ومنهم من ينظره كل جمعة مرة واحدة ، فيتمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم ، وجماله الباهر ، الذي ليس كمثله شيء ، فإذا رأوه نسوا ما هم فيه من النعيم وحصل لهم من اللذة والسرور ما لا يمكن التعبير عنه ، ونضرت وجوههم فازدادوا جمالا إلى جمالهم ، فنسأل الله الكريم أن يجعلنا معهم .
ثم نخلص إلى الموقف الذي يرسمه هذا النص القرآني الفريد :
( وجوه يومئذ ناضرة . إلى ربها ناظرة ) . .
إن هذا النص ليشير إشارة سريعة إلى حالة تعجز الكلمات عن تصويرها ؛ كما يعجز الإدراك عن تصورها بكل حقيقتها . ذلك حين يعد الموعودين السعداء بحالة من السعادة لا تشبهها حالة . حتى لتتضاءل إلى جوارها الجنة بكل ما فيها من ألوان النعيم !
هذه الوجوه الناضرة . . نضرها أنها إلى ربها ناظرة . .
إلى ربها . . ? ! فأي مستوى من الرفعة هذا ? أي مستوى من السعادة ?
إن روح الإنسان لتستمتع أحيانا بلمحة من جمال الإبداع الإلهي في الكون أو النفس ، تراها في الليلة القمراء . أو الليل الساجي . أو الفجر الوليد . أو الظل المديد . أو البحر العباب . أو الصحراء المنسابة . أو الروض البهيج . أو الطلعة البهية . أو القلب النبيل . أو الإيمان الواثق . أو الصبر الجميل . . إلى آخر مطالع الجمال في هذا الوجود . . فتغمرها النشوة ، وتفيض بالسعادة ، وترف بأجنحة من نور في عوالم مجنحة طليقة . وتتوارى عنها أشواك الحياة ، وما فيها من ألم وقبح ، وثقلة طين وعرامة لحم ودم ، وصراع شهوات وأهواء . .
فكيف ? كيف بها وهي تنظر - لا إلى جمال صنع الله - ولكن إلى جمال ذات الله ?
ألا إنه مقام يحتاج أولا إلى مد من الله . ويحتاج ثانيا إلى تثبيت من الله . ليملك الإنسان نفسه ، فيثبت ، ويستمتع بالسعادة ، التي لا يحيط بها وصف ، ولا يتصور حقيقتها إدراك !
( وجوه يومئذ ناضرة . . إلى ربها ناظرة ) . .
ومالها لا تتنضر وهي إلى جمال ربها تنظر ?
إن الإنسان لينظر إلى شيء من صنع الله في الأرض . من طلعة بهية ، أو زهرة ندية ، أو جناح رفاف ، أو روح نبيل ، أو فعل جميل . فإذا السعادة تفيض من قلبه على ملامحه ، فيبدو فيها الوضاءة والنضارة . فكيف بها حين تنظر إلى جمال الكمال . مطلقا من كل ما في الوجود من شواغل عن السعادة بالجمال ? فما تبلغ الكينونة الإنسانية ذلك المقام ، إلا وقد خلصت من كل شائبة تصدها عن بلوغ ذلك المرتقى الذي يعز على الخيال ! كل شائبة لا فيما حولها فقط ، ولكن فيها هي ذاتها من دواعي النقص والحاجة إلى شيء ما سوى النظر إلى الله . .
فأما كيف تنظر ? وبأي جارحة تنظر ? وبأي وسيلة تنظر ? . . فذلك حديث لا يخطر على قلب يمسه طائف من الفرح الذي يطلقه النص القرآني ، في القلب المؤمن ، والسعادة التي يفيضها على الروح ، والتشوف والتطلع والانطلاق !
فما بال أناس يحرمون أرواحهم أن تعانق هذا النور الفائض بالفرح والسعادة ? ويشغلونها بالجدل حول مطلق ، لا تدركه العقول المقيدة بمألوفات العقل ومقرراته ? !
إن ارتقاء الكينونة الإنسانية وانطلاقها من قيود هذه الكينونة الأرضية المحدودة ، هو فقط محط الرجاء في التقائها بالحقيقة الطليقة يومذاك . وقبل هذا الانطلاق سيعز عليها أن تتصور - مجرد تصور - كيف يكون ذلك اللقاء .
وإذن فقد كان جدلا ضائعا ذلك الجدل الطويل المديد الذي شغل به المعتزلة أنفسهم ومعارضيهم من أهل السنة والمتكلمين حول حقيقة النظر والرؤية في مثل ذلك المقام .
لقد كانوا يقيسون بمقاييس الأرض ؛ ويتحدثون عن الإنسان المثقل بمقررات العقل في الأرض ؛ ويتصورون الأمر بالمدارك المحدودة المجال .
إن مدلول الكلمات ذاته مقيد بما تدركه عقولنا وتصوراتنا المحدودة . فإذا انطلقت وتحررت من هذه التصورات فقد تتغير طبيعة الكلمات . فالكلمات ليست سوى رموز يختلف ما ترمز إليه بحسب التصورات الكامنة في مدارك الإنسان . فإذا تغيرت طاقته تغير معها رصيده من التصورات ، وتغيرت معها طبيعة مدلول الكلمات ونحن نتعامل في هذه الأرض بتلك الرموز على قدر حالنا ! فما لنا نخوض في أمر لا يثبت لنا منه حتى مدلول الكلمات ? !
فلنتطلع إلى فيض السعادة الغامر الهادئ ، وفيض الفرح المقدس الطهور ، الذي ينطلق من مجرد تصورنا لحقيقة الموقف على قدر ما نملك . ولنشغل أرواحنا بالتطلع إلى هذا الفيض ؛ فهذا التطلع ذاته نعمة . لا تفوقها إلا نعمة النظر إلى وجهه الكريم . .
وقوله تعالى : { إلى ربها ناظرة } جملة هي في موضع خبر بعد خبر ، وقال بعض النحويين : { ناضرة } نعت ل { وجوه } ، و { إلى ربها ناظرة } خبر عن { وجوه } ، فعلى هذا كثر تخصص الوجوه فحسن الابتداء بها . و { ناضرة } معناه ناعمة ، والنضرة النعمة وجمال البشرة ، قال الحسن : وحق لها أن تنضر وهي تنظر إلى الخالق ، وقوله تعالى : { إلى ربها ناظرة } حمل هذه الآية أهل السنة على أنها متضمنة رؤية المؤمنين لله تعالى ، وهي رؤية دون محاذاة ولا تكييف ولا تحديد كما هو معلوم ، موجود لا يشبه الموجودات كذلك هو لا يشبه المرئيات في شيء ، فإنه ليس كمثله شيء لا إله إلا هو ، وروى عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «حدثتكم عن الدجال أنه أعور وأن ربكم ليس بأعور وأنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا »{[11479]} ، وقال صلى الله عليه وسلم : «إنكم ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته »{[11480]} ، وقال الحسن : تنظرون إلى الله تعالى بلا إحاطة ، وأما المعتزلة الذين ينفون رؤية الله تعالى ، فذهبوا في هذه الآية إلى أن المعنى إلى رحمة ربها ناظرة أو إلى ثوابه أو ملكه ، فقدروا مضافاً محذوفاً ، وهذا وجه سائغ في العربية كما تقول ، فلا ناظر إليك في كذا ، أي إلى صنعك في كذا ، والرواية إنما تثبتها بأدلة قاطعة غير هذه الآية ، فإذا ثبتت حسن تأويل أهل السنة في هذه الآية وقوي ، وذهب بعض المعتزلة في هذه الآية إلى أن قوله { إلى } ليست بحرف الجر وإنما هي إلى واحد الآلاء فكأنه قال نعمة ربها منتظرة ، أو { ناظرة } من النظر بالعين ، ويقال نظرتك بمعنى انتظرتك ، ومنه قول الحطيئة : [ البسيط ]
وقد نظرتكم أبناء عائشة*** للخمس طال بها حبسي وتبساسي{[11481]}
والتبساس أن يقال للناقة بس بس لتدر على الحالب ، وفسر أبو عبيدة في غريبه هذا البيت على رواية أخرى وهي : طال بها حوزي وتنساسي بالنون وهو السير الشديد فتأمله .