{ لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا }
لما ذكر أن الله أوحى إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم كما أوحى إلى إخوانه من المرسلين ، أخبر هنا بشهادته تعالى على رسالته وصحة ما جاء به ، وأنه { أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ } يحتمل أن يكون المراد أنزله مشتملا على علمه ، أي : فيه من العلوم الإلهية والأحكام الشرعية والأخبار الغيبية ما هو من علم الله تعالى الذي علم به عباده .
ويحتمل أن يكون المراد : أنزله صادرا عن علمه ، ويكون في ذلك إشارة وتنبيه على وجه شهادته ، وأن المعنى : إذا كان تعالى أنزل هذا القرآن المشتمل على الأوامر والنواهي ، وهو يعلم ذلك ويعلم حالة الذي أنزله عليه ، وأنه دعا الناس إليه ، فمن أجابه وصدقه كان وليه ، ومن كذبه وعاداه كان عدوه واستباح ماله ودمه ، والله تعالى يمكنه ويوالي نصره ويجيب دعواته ، ويخذل أعداءه وينصر أولياءه ، فهل توجد شهادة أعظم من هذه الشهادة وأكبر ؟ " ولا يمكن القدح في هذه الشهادة إلا بعد القدح بعلم الله وقدرته وحكمته وإخباره تعالى بشهادة الملائكة على ما أنزل على رسوله ، لكمال إيمانهم ولجلالة هذا المشهود عليه .
فإن الأمور العظيمة لا يستشهد عليها إلا الخواص ، كما قال تعالى في الشهادة على التوحيد : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } وكفى بالله شهيدا .
ونقف عند هذا الحد - المناسب لسياق الظلال - في الحديث عن الإيحاءات القوية العميقة ، التي يثيرها في النفس قول الله تعالى :
( رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) . .
لنمضي بعدها مع السياق القرآني :
( لكن الله يشهد بما أنزل إليك . أنزله بعلمه . والملائكة يشهدون . وكفى بالله شهيدًا ) .
فإذا أنكر أهل الكتاب هذه الرسالة الأخيرة - وهي جارية على سنة الله في إرسال الرسل لعباده ( مبشرين ومنذرين ، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) وأهل الكتاب يعترفون بالرسل قبل محمد [ ص ] اليهود يعترفون بمن قبل عيسى - عليه السلام - والنصارى يعترفون بهم ، وبعيسى الذي ألهوه كما سيجيء . . فإذا أنكروا رسالتك - يا محمد - فلا عليك منهم . فلينكروا :
لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه . والملائكة يشهدون . وكفى بالله شهيدًا . .
وفي هذا الشهادة من الله . . ثم من ملائكته ومنهم من حملها إلى رسوله . . إسقاط لكل ما يقوله أهل الكتاب . فمن هم والله يشهد ؟ والملائكة تشهد ؟ وشهادة الله وحدها فيها الكفاية ؟ !
وفي هذه الشهادة تسرية عن الرسول [ ص ] وما يلقاه من كيد اليهود وعنتهم .
وفيها كذلك تصديق وتثبيت وتطمين للمسلمين - في أول عهدهم بالإسلام بالمدينة - أمام حملة يهود التي يدل على ضخامتها هذه الحملة القرآنية المنوعة الأساليب والإيحاءات في ردها والقضاء عليها .
{ لكن الله يشهد } استدراك عن مفهوم ما قبله فكأنه لما تعنتوا علي بسؤال كتاب ينزل عليهم من السماء ، واحتج عليهم بقوله { إنا أوحينا إليك } قال : إنهم لا يشهدون ولكن الله يشهد ، أو أنهم أنكروه ولكن الله يثبته ويقرره . { بما أنزل إليك } من القرآن المعجز الدال على نبوتك . روي أنه لما نزل إنا أوحينا إليك قالوا ما نشهد لك فنزلت . { أنزله بعلمه } أنزله متلبسا بعلمه الخاص به ، وهو العلم بتأليفه على نظم يعجز عنه كل بليغ ، أو بحال من يستعد للنبوة ويستاهل نزول الكتاب عليه ، أو بعلمه الذي يحتاج إليه الناس في معاشهم ومعادهم فالجار والمجرور على الأولين حال من الفاعل وعلى الثالث حال من المفعول ، والجملة كالتفسير لما قبلها { والملائكة يشهدون } أيضا بنبوتك . وفيه تنبيه على أنهم يودون أن يعلموا صحة دعوى النبوة على وجه يستغني عن النظر والتأمل ، وهذا النوع من خواص الملك ولا سبيل للإنسان إلى العلم بأمثال ذلك سوى الفكر والنظر ، فلو أتى هؤلاء بالنظر الصحيح لعرفوا نبوتك وشهدوا بها كما عرفت الملائكة وشهدوا . { وكفى بالله شهيدا } أي وكفى بما أقام من الحجج على صحة نبوتك عن الاستشهاد بغيره .
هذا استدراك على معنًى أثارهُ الكلام : لأنّ ما تقدّم من قوله : { يسألك أهل الكتاب } [ النساء : 153 ] مسوق مساق بيان تعنّتهم ومكابرتهم عن أن يشهدوا بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم وصحّة نسبة القرآن إلى الله تعالى ، فكان هذا المعنى يستلزم أنَّهم يأبون من الشهادة بصدق الرسول ، وأنّ ذلك يحزن الرسول صلى الله عليه وسلم فجاء الاستدراك بقوله : { لكن الله يشهد } . فإنّ الاستدراك تعقيب الكلام برفع ما يُتوهَّم ثبوتُه أو نفيُه . والمعنى : لم يشهد أهلُ الكتاب لكن الله شهد وشهادة الله خير من شهادتهم .
وقد مضى عند قوله تعالى : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } في سورة البقرة ( 282 ) ، أنّ حقيقة الشهادة إخبار لتصديق مخبر ، وتكذيب مخبر آخر . وتقدّم أنّها تطلق على الخبر المحقّق الذي لا يتطرّقه الشكّ عند قوله تعالى : { شهد الله أنّه لا إله إلاّ هو } في سورة آل عمران ( 18 ) . فالشهادة في قوله : { لكن الله يشهد } أطلقت على الإخبار بنزول القرآن من الله إطلاقاً مجازياً ، لأنّ هذا الخبر تضمّن تصديق الرسول وتكذيب معانديه ، وهو إطلاق على وجه الاستعارة من الإطلاق الحقيقي هو غير الإطلاق الذي في قوله : { شهد الله أنّه لا إله إلاّ هو } [ آل عمران : 18 ] فإنّه على طريقة المجاز المرسل . وعطف شهادة الملائكة على شهادة الله : لزيادة تقرير هذه الشهادة بتعدّد الشهود ، ولأنّ شهادة الله مجاز في العلم وشهادة الملائكة حقيقة . وإظهار فعل { يشهدون } مع وجود حرف العطف للتّأكيد . وحَرف ( لكنْ ) بسكون النون مخفّف لكنَّ المشدّدة النون التي هي من أخوات ( إنّ ) وإذا خفّفت بطل عملها .
وقَوله : { وكفى بالله شهيداً } يَجري على الاحتمالين .
وقوله : { بما أنزل إليك أنزله بعلمه } وقع تحويل في تركيب الجملة لقصد الإجمال الذي يعقبه التفصيل ، ليكون أوقع في النفس . وأصل الكلام : يشهد بإنزال ما أنزله إليك بعلمه ؛ لأنّ قوله : { بما أنزل إليك } لم يُفد المشهود به إلاّ ضمناً مع المشهود فيه إذ جيء باسم الموصول ليوصل بصلة فيها إيماء إلى المقصود ، ومع ذلك لم يذكر المقصود من الشهادة الذي هو حقّ مدخولِ الباء بعد مادّة شهد ، فتكون جملة { أنزله بعلمه } مكمّلة معنى الشهادة . وهذا قريب من التحويل الذي يستعمله العرب في تمييز النسبة . وقال الزمخشري : « موقع قوله : { أنزله بعلمه } من قوله : { لكن الله يشهد بما أنزل إليك } موقع الجملة المفسّرة لأنّه بيان للشهادة وأنّ شهادته بصحّته أنّه أنزله بالنظم المعجز » . فلعلّه يجعل جملة { لكن الله يشهد بما أنزل إليك } مستقلة بالفائدة ، وأنّ معنى { بما أنزل إليك } بصحّة ما أنزل إليك ، وما ذكرتُه أعرق في البلاغة .
ومعنى { أنزله بعلمه } أي متلبّساً بعلمه ، أي بالغاً الغاية في باب الكتب السماوية ، شأن ما يكون بعلم من الله تعالى ، ومعنى ذلك أنّه معجز لفظاً ومعنى ، فكما أعجز البلغاء من أهل اللّسان أعجز العلماءَ من أهل الحقائق العالية .
والباء في قوله : { وكفَى بالله شهيداً } زائدة للتَّأكيد ، وأصله : كفى الله شهيداً كقوله :