4- والذين يصدقون بالقرآن المنزل عليك من الله ، وبما فيه من أحكام وأخبار ، ويعملون بمقتضاه ، ويصدقون بالكتب الإلهية التي نزلت على من سبقك من الأنبياء والرسل كالتوراة والإنجيل وغيرهما ، لأن رسالات الله واحدة في أصولها ، ويتميزون بأنهم يعتقدون اعتقاداً جازماً بمجيء يوم القيامة وبما فيه من حساب وثواب وعقاب .
ثم قال : { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ } وهو القرآن والسنة ، قال تعالى : { وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } فالمتقون يؤمنون بجميع ما جاء به الرسول ، ولا يفرقون بين بعض ما أنزل إليه ، فيؤمنون ببعضه ، ولا يؤمنون ببعضه ، إما بجحده ، أو تأويله على غير مراد الله ورسوله ، كما يفعل ذلك من يفعله من المبتدعة ، الذين يؤولون النصوص الدالة على خلاف قولهم ، بما حاصله عدم التصديق بمعناها ، وإن صدقوا بلفظها ، فلم يؤمنوا بها إيمانا حقيقيا .
وقوله : { وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } يشمل الإيمان بالكتب{[34]} السابقة ، ويتضمن الإيمان بالكتب الإيمان بالرسل وبما اشتملت عليه ، خصوصا التوراة والإنجيل والزبور ، وهذه خاصية المؤمنين يؤمنون بجميع الكتب السماوية{[35]} وبجميع الرسل فلا يفرقون بين أحد منهم .
ثم قال : { وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } و " الآخرة " اسم لما يكون بعد الموت ، وخصه [ بالذكر ] بعد العموم ، لأن الإيمان باليوم الآخر ، أحد أركان الإيمان ، ولأنه أعظم باعث على الرغبة والرهبة والعمل ، و " اليقين " هو العلم التام الذي ليس فيه أدنى شك ، الموجب للعمل .
( والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ) . وهي الصفة اللائقة بالأمة المسلمة ، وارثة العقائد السماوية ، ووارثة النبوات منذ فجر البشرية ، والحفيظة على تراث العقيدة وتراث النبوة ، وحادية موكب الإيمان في الأرض إلى آخر الزمان . وقيمة هذه الصفة هي الشعور بوحدة البشرية ، ووحدة دينها ، ووحدة رسلها ، ووحدة معبودها . . قيمتها هي تنقية الروح من التعصب الذميم ضد الديانات والمؤمنين بالديانات ما داموا على الطريق الصحيح . . قيمتها هي الاطمئنان إلى رعاية الله للبشرية على تطاول أجيالها وأحقابها . هذه الرعاية البادية في توالي الرسل والرسالات بدين واحد وهدى واحد . قيمتها هي الاعتزاز بالهدى الذي تتقلب الأيام والأزمان ، وهو ثابت مطرد ، كالنجم الهادي في دياجير الظلام .
( وبالآخرة هم يوقنون ) . . وهذه خاتمة السمات . الخاتمة التي تربط الدنيا بالآخرة ، والمبدأ بالمصير ، والعمل بالجزاء ؛ والتي تشعر الإنسان أنه ليس لقى مهملا ، وأنه لم يخلق عبثا ، ولن يترك سدى ؛ وأن العدالة المطلقة في انتظاره ، ليطمئن قلبه ، وتستقر بلابله ، ويفيء إلى العمل الصالح ، وإلى عدل الله روحمته في نهاية المطاف .
واليقين بالآخرة هو مفرق الطريق بين من يعيش بين جدران الحس المغلقة ، ومن يعيش في الوجود المديد الرحيب . بين من يشعر أن حياته على الأرض هي كل ما له في هذا الوجود ، ومن يشعر أن حياته على الأرض ابتلاء يمهد للجزاء ، وأن الحياة الحقيقية إنما هي هنالك ، وراء هذا الحيز الصغير المحدود .
وكل صفة من هذه الصفات - كما رأينا - ذات قيمة في الحياة الإنسانية ، ومن ثم كانت هي صفات المتقين . وهناك تساوق وتناسق بين هذه الصفات جميعا ، هو الذي يؤلف منها وحدة متناسقة متكاملة . فالتقوى شعور في الضمير ، وحالة في الوجدان ، تنبثق منها اتجاهات وأعمال ؛ وتتوحد بها المشاعر الباطنة والتصرفات الظاهرة ؛ وتصل الإنسان بالله في سره وجهره . وتشف معها الروح فتقل الحجب بينها وبين الكلي الذي يشمل عالمي الغيب والشهادة ، ويلتقي فيه المعلوم والمجهول . ومتى شفت الروح وانزاحت الحجب بين الظاهر والباطن ، فإن الإيمان بالغيب عندئذ يكون هو الثمرة الطبيعية لإزالة الحجب الساترة ، واتصال الروح بالغيب والاطمئنان إليه . ومع التقوى والإيمان بالغيب عبادة الله في الصورة التي اختارها ، وجعلها صلة بين العبد والرب . ثم السخاء بجزء من الرزق اعترافا بجميل العطاء ، وشعورا بالإخاء . ثم سعة الضمير لموكب الإيمان العريق ، والشعور بآصرة القربى لكل مؤمن ولكل نبي ولكل رسالة . ثم اليقين بالآخرة بلا تردد ولا تأرجح في هذا اليقين . . وهذه كانت صورة الجماعة المسلمة التي قامت في المدينة يوم ذاك ، مؤلفة من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار . وكانت هذه الجماعة بهذه الصفات شيئا عظيما . شيئا عظيما حقا بتمثل هذه الحقيقة الإيمانية فيها . ومن ثم صنع الله بهذه الجماعة أشياء عظيمة في الأرض ، وفي حياة البشر جميعا . . ومن ثم كان هذا التقرير : ( أولئك على هدى من ربهم ، وأولئك هم المفلحون )
{ والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } هم مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه وأضرابه ، معطوفون على { الذين يؤمنون بالغيب } ، داخلون معهم في جملة المتقين دخول أخصين تحت أعم ، إذ المراد بأولئك الذين آمنوا عن شرك وإنكار ، وبهؤلاء مقابلوهم فكانت الآيتان تفصيلا { للمتقين } ، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما . أو على المتقين وكأنه قال { هدى للمتقين } عن الشرك ، والذين آمنوا من أهل الملل . ويحتمل أن يراد بهم الأولون بأعيانهم ، ووسط العاطف كما وسط في قوله : إلى الملك القرم وابن الهمام *** وليث الكتيبة في المزدحم
يا لهف ذؤابة للحارث الص *** ائح فالغانم فالآيب
على معنى أنهم الجامعون بين الإيمان بما يدركه العقل جملة والإتيان بما يصدقه من العبادات البدنية والمالية وبين الإيمان بما لا طريق إليه عبر السمع . وكرر الموصول تنبيها على تغاير القبيلين وتباين السبيلين . أو طائفة منهم وهم مؤمنو أهل الكتاب ، ذكرهم مخصصين عن الجملة كذكر جبريل وميكائيل بعد الملائكة تعظيما لشأنهم وترغيبا لأمثالهم .
والإنزال نقل الشيء من الأعلى إلى الأسفل وهو إنما يلحق المعاني بتوسط لحوقه الذوات الحاملة لها ، ولعل نزول الكتب الإلهية على الرسل بأن يلتقفه الملك من الله تعالى .
تلقفا روحانيا ، أو يحفظه من اللوح المحفوظ فينزل به فيبلغه إلى الرسول . والمراد { بما أنزل إليك } القرآن بأسره والشريعة عن آخرها ، وإنما عبر عنه بلفظ الماضي وإن كان بعضه مترقبا تغليبا للموجود على ما لم يوجد . أو تنزيلا للمنتظر منزلة الواقع ، ونظيره قوله تعالى : { إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى } . فإن الجن لم يسمعوا جميعه ولم يكن الكتاب كله منزلا حينئذ . وبما { أنزل من قبلك } التوراة والإنجيل وسائر الكتب السابقة ، والإيمان بها جملة فرض عين ، وبالأول دون الثاني تفصيلا من حيث إنا متعبدون بتفاصيله فرض ، ولكن على الكفاية . لأن وجوبه على كل أحد يوجب الحرج وفساد المعاش .
{ وبالآخرة هم يوقنون } أي يوقنون إيقانا زال معه ما كانوا عليه من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى ، وأن النار لم تمسهم إلا أياما معدودة ، واختلافهم في نعيم الجنة : أهو من جنس نعيم الدنيا أو غيره ؟ وفي دوامه وانقطاعه ، وفي تقديم الصلة وبناء يوقنون على هم تعريض لمن عداهم من أهل الكتاب ، وبأن اعتقادهم في أمر الآخرة غير مطابق ولا صادر عن إيقان . واليقين : إتقان العلم بنفي الشك والشبهة عنه نظرا واستدلالا ، ولذلك لا يوصف به علم البارئ ، ولا العلوم الضرورية . والآخرة تأنيث الآخر ، صفة الدار بدليل قوله تعالى : { تلك الدار الآخرة } فغلبت كالدنيا ، وعن نافع أنه خففها بحذف الهمزة إلقاء حركتها على اللام ، وقرئ يوقنون بقلب الواو همزة لضم ما قبلها إجراء لها مجرى المضمومة في وجوه ووقتت ونظيره :
قوله : { بما أنزل إليك } يعني القرآن { وما أنزل من قبلك } يعني الكتب السالفة . وقرأ أبو حيوة ويزيد بن قطيب . «بما أنزل . . . وما أنزل » بفتح الهمزة فيهما خاصة . والفعل على هذا يحتمل أن يستند إلى الله تعالى ، ويحتمل إلى جبريل ، والأول أظهر وألزم .
{ وبالآخرة }( {[173]} ) قيل معناه بالدار الآخرة ، وقيل بالنشأة الآخرة .
و { يوقنون } معناه يعلمون علماً متمكناً في نفوسهم . واليقين أعلى درجات العلم ، وهو الذي لا يمكن أن يدخله شك بوجه .
وقول مالك رحمه الله : «فيحلف على يقينه ثم يخرج الأمر على خلاف ذلك » تجوّز منه في العبارة على عرف تجوّز العرب ، ولم يقصد( {[174]} ) تحرير الكلام في اليقين .