ثم فصل أوصاف التقوى . فقال { الصابرين } أنفسهم على ما يحبه الله من طاعته ، وعن معصيته ، وعلى أقداره المؤلمة ، { والصادقين } في إيمانهم وأقوالهم وأحوالهم { والمنفقين } مما رزقهم الله بأنواع النفقات على المحاويج من الأقارب وغيرهم { والمستغفرين بالأسحار } لما بين صفاتهم الحميدة ذكر احتقارهم لأنفسهم وأنهم لا يرون لأنفسهم ، حالا ولا مقاما ، بل يرون أنفسهم مذنبين مقصرين فيستغفرون ربهم ، ويتوقعون أوقات الإجابة وهي السحر ، قال الحسن : مدوا الصلاة إلى السحر ، ثم جلسوا يستغفرون ربهم . فتضمنت هذه الآيات حالة الناس في الدنيا وأنها متاع ينقضي ، ثم وصف الجنة وما فيها من النعيم وفاضل بينهما ، وفضل الآخرة على الدنيا تنبيها على أنه يجب إيثارها والعمل لها ، ووصف أهل الجنة وهم المتقون ، ثم فصل خصال التقوى ، فبهذه الخصال يزن العبد نفسه ، هل هو من أهل الجنة أم لا ؟
( الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ )
وفي كل صفة من صفاتهم تتحقق سمة ذات قيمة في حياة الإنسانية وفي حياة الجماعة المسلمة :
في الصبر ترفع على الألم واستعلاء على الشكوى ، وثبات على تكاليف الدعوة ، وأداء لتكاليف الحق ، وتسليم لله واستسلام لما يريد بهم من الأمر ، وقبول لحكمه ورضاء . .
وفي الصدق اعتزاز بالحق الذي هو قوام الوجود ، وترفع عن الضعف ؛ فما الكذب إلا ضعف عن كلمة الحق ، اتقاء لضرر أو اجتلابا لمنفعة .
وفي القنوت لله أداء لحق الألوهية وواجب العبودية ؛ وتحقيق لكرامة النفس بالقنوت لله الواحد الذي لا قنوت لسواه .
وفي الإنفاق تحرر من استذلال المال ؛ وانفلات من ربقة الشح ؛ وإعلاء لحقيقة الأخوة الإنسانية على شهوة اللذة الشخصية ؛ وتكافل بين الناس يليق بعالم يسكنه الناس !
والاستغفار بالأسحار بعد هذا كله يلقي ظلالا رفافة ندية عميقة . . ولفظة " الأسحار " بذاتها ترسم ظلال هذه الفترة من الليل قبيل الفجر . الفترة التي يصفو فيها الجو ويرق ويسكن ؛ وتترقرق فيها خواطر النفس وخوالجها الحبيسة ! فإذا انضمت إليها صورة الاستغفار ألقت تلك الظلال المنسابة في عالم النفس وفي ضمير الوجود سواء . وتلاقت روح الإنسان وروح الكون في الاتجاه لبارىء الكون وبارىء الإنسان .
هؤلاء الصابرون ، الصادقون ، القانتون ، المنفقون ، المستغفرون بالأسحار . . لهم ( رضوان من الله ) . . وهم أهل لهذا الرضوان : ظله الندي ومعناه الحاني . وهو خير من كل شهوة وخير من كل متاع . .
وهكذا يبدأ القرآن بالنفس البشرية من موضعها على الأرض . . وشيئا فشيئا يرف بها في آفاق وأضواء ، حتى ينتهي بها إلى الملإ الأعلى في يسر وهينة ، وفي رفق ورحمة . وفي اعتبار لكامل فطرتها وكامل نوازعها . وفي مراعاة لضعفها وعجزها ، وفي استجاشة لطاقاتها وأشواقها ، ودون ما كبت ولا إكراه . ودون ما وقف لجريان الحياة . . فطرة الله . ومنهج الله لهذه الفطرة . . ( والله بصير بالعباد ) . .
{ الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار } حصر لمقامات السالك على أحسن ترتيب ، فإن معاملته مع الله تعالى إما توسل وإما طلب ، والتوسل إما بالنفس وهو منعها عن الرذائل وحبسها على الفضائل والصبر يشملهما ، وإما بالبدن ، وهو إما قولي وهو الصدق وإما فعلي وهو القنوت الذي هو ملازمة الطاعة ، وإما بالمال وهو الإنفاق في سبل الخير ، وإما الطلب فبالاستغفار لأن المغفرة أعظم المطالب بل الجامع لها وتوسيط الواو بينهما للدلالة على استقلال كل واحد منهما وكمالهم فيها أو لتغاير الموصوفين بها ، وتخصيص الأسحار لأن الدعاء فيها أقرب إلى الإجابة ، لأن العبادة حينئذ أشق والنفس أصفى والروع أجمع للمجتهدين . قيل إنهم كانوا يصلون إلى السحر ثم يستغفرون ويدعون .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.