94- سيعتذر هؤلاء المتخلفون المقصرون إليكم - أيها المؤمنون المجاهدون - إذا رجعتم من ميدان الجهاد والتقيتم بهم ، فقل لهم - أيها الرسول - : لا تعتذروا فإنا لن نصدقكم ، لأن اللَّه قد كشف حقيقة نفوسكم ، وأوحى إلى نبيه بشيء من أكاذيبكم ، وسيعلم اللَّه ورسوله ما يكون منكم بعد ذلك من عمل ، ثم يكون مصيركم بعد الحياة الدنيا إلى اللَّه الذي يعلم السر والعلانية ، فيخبركم بما كنتم تعملون ، ويجازيكم بما تستحقون .
{ 94 - 96 ْ } { يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ْ }
لما ذكر تخلف المنافقين الأغنياء ، وأنهم لا عذر لهم ، أخبر أنهم س { يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ ْ } من غزاتكم .
{ قُلْ ْ } لهم { لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ ْ } أي : لن نصدقكم في اعتذاركم الكاذب .
{ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ ْ } وهو الصادق في قيله ، فلم يبق للاعتذار فائدة ، لأنهم يعتذرون بخلاف ما أخبر اللّه عنهم ، ومحال أن يكونوا صادقين فيما يخالف خبر اللّه الذي هو أعلى مراتب الصدق .
{ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ْ } في الدنيا ، لأن العمل هو ميزان الصدق من الكذب ، وأما مجرد الأقوال ، فلا دلالة فيها على شيء من ذلك .
{ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ْ } الذي لا تخفى عليه خافية ، { فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ْ } من خير وشر ، ويجازيكم بعدله أو بفضله ، من غير أن يظلمكم مثقال ذرة .
واعلم أن المسيء المذنب له ثلاث حالات : إما [ أن ] يقبل قوله وعذره ، ظاهرا وباطنا ، ويعفى عنه بحيث يبقى كأنه لم يذنب . فهذه الحالة هي المذكورة هنا في حق المنافقين ، أن عذرهم غير مقبول ، وأنه قد تقررت أحوالهم الخبيثة وأعمالهم السيئة ، وإما أن يعاقبوا بالعقوبة والتعزير الفعلي على ذنبهم ، وإما أن يعرض عنهم ، ولا يقابلوا بما فعلوا بالعقوبة الفعلية ، وهذه الحال الثالثة هي التي أمر اللّه بها في حق المنافقين ، ولهذا قال :
ويمضى السياق يصف حال هؤلاء الأغنياء القادرين الذين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف . .
إن وراء حب الدعة وإيثار السلامة ، سقوط الهمة ، وذلة النفس ، وانحناء الهامة ، والتهرب من المواجهة والمصارحة :
( يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم ) . .
وهذا من إنباء اللّه لرسوله - [ ص ] - وللمؤمنين الخلص بما سيكون من أمر هؤلاء المتخلفين من المنافقين بعد الرجوع من الغزوة . مما يدل على أن هذه الآيات نزلت في أثناء العودة وقبل الوصول إلى المدينة .
يعتذرون إليكم عن تخلفهم وقعودهم ، ذلك أنهم يخجلون من الظهور بفعلتهم هذه عارية ، ومن الكشف عن أسبابها الحقيقية ؛ وهي ضعف الإيمان ، وإيثار السلامة ، والإشفاق من الجهاد !
قل : لا تعتذروا . لا نؤمن لكم . قد نبأنا اللّه من أخباركم !
قل : وفروا عليكم معاذيركم . فلن نطمئن إليكم ، ولن نصدقكم ، ولن نأخذ بظاهر إسلامكم كما كنا نفعل . ذلك أن اللّه قد كشف لنا حقيقتكم ، وما تنطوي عليه صدوركم ؛ وقص علينا دوافع أعمالكم ؛ وحدثنا عن حالكم ، فلم تعد مستورة لا نرى إلا ظاهرها كما كنا من قبل معكم .
والتعبير عن عدم التصديق والثقة والائتمان والاطمئنان بقوله تعالى : ( لن نؤمن لكم )ذو دلالة خاصة .
فالإيمان تصديق وثقة وائتمان واطمئنان . تصديق بالقول وائتمان بالعقل واطمئنان بالقلب ، وثقة من المؤمن بربه ، وثقة متبادلة بينه وبين المؤمنين معه . وللتعبير القرآني دائماً دلالته وايحاؤه .
قل : لا تعتذروا . فلا جدوى للقول ولا معول على الكلام . ولكن اعملوا فإن صدق عملكم ما تقولون فذاك ، وإلا فلا ثقة بالقول ولا ائتمان ولا اطمئنان :
( وسيرى اللّه عملكم ورسوله ) . .
واللّه لا تخفى عليه الأعمال ولا النوايا المخبوءة وراءها ؛ ورسول اللّه - [ ص ] - سيزن قولكم بعملكم . وعلى أساسه سيكون التعامل معكم في المجتمع المسلم .
ولن ينتهي الأمر - على كل حال - بما يجري في هذه الأرض في فترة الحياة الدنيا . فوراء ذلك حساب وجزاء ، يقومان على علم اللّه المطلق بالظواهر والسرائر :
( ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ) . .
والغيب ما غاب عن الناس علمه ، والشهادة ما يشهدونه ويعرفونه . واللّه سبحانه عالم الغيب والشهادة بهذا المعنى . وبمعنى أشمل وأكبر . فهو سبحانه يعلم ما في هذا العالم المشهود ويعلم ما وراءه من العوالم المغيبة . . وفي قوله تعالى لأولئك المخاطبي : ( فينبئكم بما كنتم تعملون ) . . إيماءة مقصودة . فهم يعلمون ما كانوا يعملون . ولكن اللّه - سبحانه - أعلم منهم بها حتى لينبئهم هو بها ! وكم من دافع خفي للعمل يخفى حتى على صاحبه وهو يفعله ، واللّه أعلم به منه ! وكم من نتيجة لهذا العمل لا يدري صاحبه وقوعها ، واللّه يعلمها دون صاحبها ! . . والمقصود - بطبيعة الحال - هو نتيجة الإنباء . وهي الحساب والجزاء الحق على الأعمال . ولكن هذه النتيجة لا ينص عليها ، إنما ينص على الإنباء ذاته لمناسبة هذه الإيماءة في هذا السياق .
أخبر تعالى عن المنافقين بأنهم إذا رجعوا إلى المدينة أنهم يعتذرون إليهم ، { قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ } أي : لن نصدقكم ، { قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ } أي : قد أعلمنا الله أحوالكم ، { وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } أي : سيظهر أعمالكم للناس في الدنيا ، { ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }{[13789]} أي : فيخبركم بأعمالكم ، خيرها وشرها ، ويجزيكم عليها .
{ يعتذرون إليكم } في التخلف . { إذا رجعتم إليهم } من هذه السفرة . { قل لا تعتذروا } بالمعاذير الكاذبة لأنه : { لن نؤمن لكم } لن نصدقكم لأنه : { قد نبأنا الله من أخباركم } أعلمنا بالوحي إلى نبيه بعض أخباركم وهو ما في ضمائركم من الشر والفساد . { وسيرى الله عملكم ورسوله } أتتوبون عن الكفر أم تثبتون عليه فكأنه استتابة وإمهال للتوبة . { ثم تردّون إلى عالم الغيب والشهادة } أي إليه فوضع الوصف موضع الضمير للدلالة على أنه مطلع على سرهم وعلنهم لا يفوت عن علمه شيء من ضمائرهم وأعمالهم . { فينبّئكم بما كنتم تعملون } بالتوبيخ والعقاب عليه .
قوله : { يعتذرون إليكم } الآية ، هذه المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم ، وشرك معه المسلمون في بعض لأن المنافقين كانوا يعتذرون أيضاً إلى المؤمنين ولأن أنباء الله أيضاً تحصل للمؤمنين وقوله : { رجعتم } يريد من غزوة تبوك ، وقوله : { لن نؤمن لكم }{[5837]} معناه لن نصدقكم ، ولكن لفظة { نؤمن } تتصل بلام أحياناً كما تقدم في قوله { يؤمن للمؤمنين }{[5838]} ، و «نبأ » في هذه الآية قيل هي بمعنى عرف لا تحتاج إلى أكثر من مفعولين ، فالضمير مفعول أول ، وقوله { من أخباركم } مفعول ثان على مذهب أبي الحسن في زيادة { من } في الواجب ، فالتقدير قد نبأنا الله أخباركم ، وهو على مذهب سيبويه نعت لمحذوف هو المفعول الثاني تقديره قد نبأنا الله جلية من أخباركم ، وقيل «نبأ » بمعنى أعلم يحتاج إلى ثلاثة مفاعيل ، فالضمير واحد و { من أخباركم } ثان حسب ما تقدم من القولين ، والثالث محذوف يدل الكلام عليه ، تقديره قد نبأنا الله من أخباركم كذباً أو نحوه .
وحذف هذا المفعول مع الدلالة عليه جائز بخلاف الاقتصار ، وذلك أن الاقتصار إنما يجوز إما على المفعول الأول ويسقط الاثنان إذ هما الابتداء والخبر ، وإما على الاثنين الأخيرين ويسقط الأول ، وإما أن يقتصر على المفعولين الأولين ويسقط الثالث دون دلالة عليه ، فذلك لا يجوز ، ويجوز حذفه مع الدلالة عليه والإشارة بقوله : { قد نبأنا الله } إلى قوله { ما زادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة }{[5839]} ونحو هذا ، وقوله { وسيرى الله } توعد معناه وسيراه في حال وجوده ويقع الجزاء منه عليه إن خيراً فخير وإن شراً فشر ، وقوله { ثم تردون إلى عالم الغيب } يريد البعث من القبور ، و { الغيب } والشهادة يعمان جميع الأشياء وقوله : { فينبئكم } معناه التخويف ممن لا تخفى عليه خافية .
استئناف ابتدائي لأن هذا الاعتذار ليس قاصراً على الذين يستأذنون في التخلف فإن الإذن لهم يُغنيهم عن التبرؤ بالحلف الكاذب ، فضمير { يعتذرون } عائد إلى أقرب معاد وهو قوله : { وقعد الذين كذبوا الله ورسوله } [ التوبة : 90 ] فإنهم فريق من المنافقين فهم الذين اعتذروا بعد رجوع الناس من غزوة تبوك وجعل المسند فعلاً مضارعاً لإفادة التجدد والتكرير .
و { إذا } هنا مستعملة للزمان الماضي لأن السورة نزلت بعد القفول من غزوة تبوك وجعل الرجوع إلى المنافقين لأنهم المقصود من الخبر عند الرجوع .
والخطاب للمسلمين لأن المنافقين يقصدون بأعذارهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويعيدونها مع جماعات المسلمين . والنهي في قوله : { لا تعتذروا } مستعمل في التأييس .
وجملة : { لن نؤمن } في موضع التعليل للنهي عن الاعتذار لعدم جدوى الاعتذار ، يقال : آمن له إذا صدقه . وقد تقدم في هذه السورة ( 61 ) قوله تعالى : { ويؤمن للمؤمنين }
وجملة : { قد نبأنا الله من أخباركم } تعليل لنفي تصديقهم ، أي قد نبأنا الله من أخباركم بما يقتضي تكذيبكم ، فالإبهام في المفعول الثاني ل { نبأنا } الساد مسد مفعولين تعويل على أن المقام يبينه .
و { مِن } اسم بمعنى بعض ، أو هي صفة لمحذوف تقديره : قد نبأنا الله اليقين من أخباركم .
وجملة : { وسيرى الله عملكم } عطف على جملة { لا تعتذروا } ، أي لا فائدة في اعتذاركم فإن خشيتم المؤاخذة فاعملوا الخيرَ للمستقبل فسيرى الله عملكم ورسوله إن أحسنتم ؛ فالمقصود فتح باب التوبة لهم ، والتنبيه إلى المكنة من استدراك أمرهم . وفي ذلك تهديد بالوعيد إن لم يتوبوا .
فالإخبار برُؤية الله ورسوله عملهم في المستقبل مستعمل في الكناية عن الترغيب في العمل الصالح ، والترهيب من الدوام على حالهم . والمراد : تمكنهم من إصلاح ظاهر أعمالهم ، ولذلك أردف بقوله : { ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة } ، أي تصيرون بعد الموت إلى الله . فالرد بمعنى الإرجاع ، كما في قوله تعالى : { ثم ردّوا إلى الله مولاهم الحق } في سورة الأنعام ( 62 ) .
والرد : الإرجاع . والمراد به هنا مصير النفوس إلى عالم الخلد الذي لا تصرف فيه لغير الله ولو في ظاهر الأمر . ولما كانت النفوس من خلق الله وقد أنزلها إلى عالم الفناء الدنيوي فاستقلت بأعمالها مدة العمر كان مصيرها بعد الموت أو عند البعث إلى تصرف الله فيها شبيهاً برد شيء إلى مقره أو إرجاعه إلى مالكه .
والغيب : ما غاب عن علم الناس . والشهادة : المشاهدة . واللام في { الغيب } و { الشهادة } للاستغراق ، أي كل غيب وكل شهادة .
والعدول عن أن يقال : لم تردون إليه ، أي إلى الله ، لما في الإظهار من التنبيه على أنه لا يعزب عنه شيء من أعمالهم ، زيادة في الترغيب والترهيب ليعلموا أنه لا يخفى على الله شيء .
والإنباء : الإخبار . وما كنتم تعملون : علم كل عمل عملوه .
واستعمل { فينبئكم بما كنتم تعملون } في لازم معناه ، وهو المجازاة على كل ما عملوه ، أي فتجدونه عالماً بكل ما عملتموه . وهو كناية ؛ لأن ذكر المجازاة في مقام الإجرام والجناية لازم لعموم علم مَلك يوم الدين بكل ما عملوه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أخبر عنهم، فقال: {يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم} من غزاتكم، {قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم}، يعني لن نصدقكم بما تعتذرون، {قد نبأنا الله من أخباركم} يقول: قد أخبرنا الله عنكم وعن ما قلتم حين قال لنا: {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة...} [التوبة:47] فهذا الذي نبأنا الله من أخباركم، ثم قال: {وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة}، يعني شهادة كل نجوى، {فينبئكم} في الآخرة، {بما كنتم تعملون} في الدنيا...
... روى ابن القاسم عن مالك في الآية: أنه كان يقول: ابن آدم، اعمل وأغلق عليك سبعين بابا، يخرج الله عملك إلى الناس...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: يعتذر إليكم، أيها المؤمنون بالله، هؤلاء المتخلفون خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، التاركون جهاد المشركين معكم من المنافقين، بالأباطيل والكذب، إذا رجعتم إليهم من سفركم وجهادكم "قل"، لهم، يا محمد: (لا تعتذروا لن نؤمن لكم)، يقول: لن نصدِّقكم على ما تقولون: (قد نبأنا الله من أخباركم)، يقول: قد أخبرنا الله من أخباركم، وأعلمنا من أمركم ما قد علمنا به كذبَكم، (وسيرى الله عملكم ورسوله)، يقول: وسيرى الله ورسوله فيما بعدُ عملكم، أتتوبون من نفاقكم، أم تقيمون عليه؟ (ثم تردّون إلى عالم الغيب والشهادة)، يقول: ثم ترجعون بعد مماتكم (إلى عالم الغيب والشهادة)، يعني: الذي يعلم السرَّ والعلانية، الذي لا يخفى عليه بواطن أموركم وظواهرها، (فينبئكم بما كنتم تعملون): فيخبركم بأعمالكم كلها سيِّئها وحسنها؛ فيجازيكم بها: الحسنَ منها بالحسن، والسيئَ منها بالسيئ.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقوله تعالى: (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) فيه إنباء عما يقول لهم المنافقون إذا رجعوا إليهم وتعليم من الله لرسوله والمؤمنين ما يقول لهم وماذا يجيبون لهم، فقال: (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) أي لن نصدقكم بما تعتذرون أي بما تظهرون لأنفسكم من العدو.
وقوله: (قل لا تعتذروا) ليس على النهي، ولكن على التوبيخ...
(وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) أي سيرى الله عملكم باطلا، أو يقول: سيرى الله عملكم؛ أي يجزيكم جزاء عملكم، ورسوله والمؤمنون يشهدون عليكم بذلك.
وقوله تعالى: (فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) يخرج على الوعيد.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
الاعتذار: إظهار ما يقتضي العذر، ويمكن أن يكون صحيحا ويمكن أن يكون فاسدا كاعتذار هؤلاء المنافقين. والفرق بين الاعتذار والتوبة أن التوبة إقلاع عن سيئة قد وقعت، والاعتذار: إظهار ما يقتضي أنها لم تقع...
والاعتذار الذي له قبول هو ما كان صاحبه محقا، فأما الاعتذار بالباطل فهو أسوء لحال صاحبه..
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أراد إذا تَقَوَّلُوا بما هم فيه كاذبون، وضللوا عما كانوا في تخلفهم به يتَّصِفون -فأَخْبِرُوهم أنَّا عَرَّفَنَا اللهُ كَذبَكم فيما تقولون، واتضحت لَنَا فضائحُكم، وتَمَيَّزَ- بما أظهره الله لنا -سَيِّئُكُم وصالِحُكم، فإِنَّ اللهَ تعالى لا يَخْفَى عليه شيءٌ مِنْ أحوالكم، وسَتَلْقَوْنَ غِبَّ أعمالكم في آجلكم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ويحسن {لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ} علة للنهي عن الاعتذار؛ لأن غرض المعتذر أن يصدق فيما يعتذر به، فإذا علم أنه مكذب وجب عليه الإخلال..
{قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ} علة لانتفاء تصديقهم لأنّ الله عزّ وجلّ إذا أوحى إلى رسوله الإعلام بأخبارهم وما في ضمائرهم من الشرّ والفساد، لم يستقم مع ذلك تصديقهم في معاذيرهم..
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قوله: {يعتذرون إليكم} الآية، هذه المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وشرك معه المسلمون في بعض لأن المنافقين كانوا يعتذرون أيضاً إلى المؤمنين ولأن أنباء الله أيضاً تحصل للمؤمنين..
و «نبأ» في هذه الآية قيل هي بمعنى عرف... وقيل «نبأ» بمعنى أعلم... وقوله {ثم تردون إلى عالم الغيب} يريد البعث من القبور...و {الغيب} والشهادة يعمان جميع الأشياء.
{وسيرى الله عملكم ورسوله}، والمعنى أنهم كانوا يظهرون من أنفسهم عند تقرير تلك المعاذير حبا للرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين وشفقة عليهم ورغبة في نصرتهم، فقال تعالى: {وسيرى الله عملكم} أنكم هل تبقون بعد ذلك على هذه الحالة التي تظهرونها من الصدق والصفاء، أو لا تبقون عليها؟
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم شرع يخبر عن أشياء تقع منهم عند الرجوع دلالة على أن هذا كلامه وأنه عالم بالمغيبات كليها وجزئيها، يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، فقال مبيناً لعدم علمهم: {يعتذرون} أي يثبتون الأعذار لأنفسهم: وأشار إلى بعدهم بالقلوب بقوله: {إليكم} أي عن التخلف {إذا رجعتم إليهم} أي من هذه الغزوة، كأنه قيل: فماذا يقال في جوابهم؟ فقال للرأس الذي لا تأخذه في الله لومة لائم: {قل لا تعتذروا} أي فإن أعذاركم كاذبة، ولذلك علل النهي بقوله: {لن نؤمن لكم} أي نصدقكم في شيء منها، ثم علل عدم تصديقهم بما أوجب لهم القطع بذلك فقال: {قد نبأنا الله} أي أعلمنا الملك الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء إعلاماً جليلاً {من أخباركم} أي التي ظننتم جهلاً بالله أنها تخفى فقد علمناها؛ ثم هددهم بقوله: {وسيرى الله} أي لأنه عالم بكل شيء وإن دق قادر على كل شيء {عملكم} أي بعد ذلك أتتبينون أم تثبتون على حالكم هذا الخبيث كما رأى الذي قبل {ورسوله} أي بما يعلمه به سبحانه وحياً أو تفرساً، ولما كان الكلام في المنافقين، فكانت الرؤية لنفاقهم الذي يجتهدون في إخفائه، وكان المؤمنون لا اطلاع لجميعهم عليهم، لم يذكرهم بخلاف من يأتي بعد فإنهم مؤمنون.
ولما كان هذا ربما أوهمهم أنه لا يعلم إلا ما أوقعوه بالفعل، نفى ذلك بإظهار وصفه في موضع الإضمار مهدداً بقوله مشيراً بأداة التراخي إلى استبعادهم لقيامهم إلى معادهم: {ثم تردون} أي براد قاهر لا تقدرون على دفاعه بعد استيفاء آجالكم بالموت وإن طالت ثم البعث {إلى عالم الغيب} وهو ما غاب عن الخلق {والشهادة} وهو ما اطلع عليه أحد منهم. فصار بحيث يطلعون عليه وهذا ترجمة عن الذي يعلم الشيء قبل كونه ما يعلم بعد كونه {فينبئكم} أي يخبركم إخباراً عظيماً جليلاً مستوعباً {بما كنتم} أي بجبلاتكم {تعملون} أي مما أبرزتموه إلى الخارج ومما كان في جبلاتكم، ولو تأخرتم لبرز، وهو تهديد عظيم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذه الآيات بيان لما سيكون من أمر المنافقين الذين تخلفوا في المدينة وما حولها عن غزوة تبوك مع الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بعد عودتهم إليهم.
قال عزّ وجلّ: {يعتذرون إليكم} يعتذر إليكم ّأيها المؤمنون أولئك الذين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وهم أغنياء أصحاء لا عذر لهم.
{إذا رجعتم إليهم} من سفركم هذا عن جميع سيئاتهم.
{قل} أيها الرسول لهم حينئذ. {لا تعتذروا لن نؤمن لكم} لن نصدقكم تصديق جنوح وائتمان، لكن بتلبسكم بالإسلام تحسينا للظن، ولا عملا بالظواهر، ولماذا؟
{قد نبأنا الله} بوحيه إلى رسوله المهم. {من أخباركم} التي تسرونها في ضمائركم، وهي مخالفة لظواهركم التي تعتذرون بها، ونبأ الله هو الحق اليقين، ومن عرف الحق لا يقبل الباطل، ولا يصدق الكاذب، ولم يقل:"نبأني" وهو صلى الله عليه وسلم المنبَّأ من الله وحده لأن المراد أنه أمره أن ينبئ بذلك أصحابه، ولم يكن هذا النبأ خاصا به. واعتذارهم للجميع يقتضي أن يعلموا أن الجميع عالمون بما فضحهم الله به، وإن كان المبلغ لهم هو الرسول صلى الله عليه وسلم بما له من الرياسة، وما لخبره من الثقة التي لا يشك فيها أحد، والتأثير الذي يحسب له كل حساب، فهو من قبيل التبليغات الرسمية العليا الصادرة عن الملوك والسلاطين، دع كونه أسمى وأعلى؛ لأنه نبأ الرسول المعصوم عن الله عز وجل.
{وسيرى الله عملكم ورسوله} بعد الآن، وهو الذي يدل إما على الإصرار على النفاق، وإما على التوبة والإذعان في الإيمان، الذي تترتب عليه الأعمال. وأما أقوالكم فلا قيمة لها وإن أكدتموها بالإيمان. فإن تبتم وأنبتم وشهد لكم عملكم بصلاح سريرتكم فإن الله يقبل توبتكم، ويعاملكم رسوله بما يعامل به المؤمنين الذين تشهد لهم أعمالهم بإخلاصهم وصدقهم، وإن أبيتم إلا الإصرار على نفاقكم، والاعتماد على نفاق سوق كذبكم بأعذاركم وأيمانكم، فسيعاملكم رسوله بما أمره الله به في هذه السورة من جهادكم والإغلاظ عليكم كإخوانكم الكفار المجاهدين، وعدم السماح لكم بالخروج معه أبدا، ولا بأن تقاتلوا معه عدوا، وما يتعلق بذلك من إهانة واحتقار.
{ثم تردون} من هذه الحياة على الذل والموت عليه.
{إلى عالم الغيب والشهادة} الذي يعلم ما تسرون وما تعلنون، وما تكتمون وما تظهرون. والغيب ما غاب عن المخاطبين علمه، والشهادة ما يشهدونه ويعرفونه.
{فينبئكم بما كنتم تعملون} عندما تحشرون وتحاسبون، ويجازيكم عليه بما تستحقون، وهو ما أوعدكم به في هذه السورة وفي غيرها كقوله: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} [النساء: 145].
من الفقه في الآية أن من آداب الإسلام تحامي كل ذنب أو تقصير يحتاج فاعله إلى الاعتذار، وورد في بعض الأحاديث المرفوعة: "إياك وكل أمر يعتذر منه"، رواه الضياء في الأحاديث المختارة عن أنس، وروى غيره مثله في أثناء حديث آخر.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ْ} في الدنيا، لأن العمل هو ميزان الصدق من الكذب، وأما مجرد الأقوال، فلا دلالة فيها على شيء من ذلك. واعلم أن المسيء المذنب له ثلاث حالات: إما [أن] يقبل قوله وعذره، ظاهرا وباطنا، ويعفى عنه بحيث يبقى كأنه لم يذنب. فهذه الحالة هي المذكورة هنا في حق المنافقين، أن عذرهم غير مقبول، وأنه قد تقررت أحوالهم الخبيثة وأعمالهم السيئة، وإما أن يعاقبوا بالعقوبة والتعزير الفعلي على ذنبهم، وإما أن يعرض عنهم، ولا يقابلوا بما فعلوا بالعقوبة الفعلية، وهذه الحال الثالثة هي التي أمر اللّه بها في حق المنافقين...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويمضى السياق يصف حال هؤلاء الأغنياء القادرين الذين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف.. إن وراء حب الدعة وإيثار السلامة، سقوط الهمة، وذلة النفس، وانحناء الهامة، والتهرب من المواجهة والمصارحة: (يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم).. وهذا من إنباء اللّه لرسوله -[ص]- وللمؤمنين الخلص بما سيكون من أمر هؤلاء المتخلفين من المنافقين بعد الرجوع من الغزوة. مما يدل على أن هذه الآيات نزلت في أثناء العودة وقبل الوصول إلى المدينة. يعتذرون إليكم عن تخلفهم وقعودهم، ذلك أنهم يخجلون من الظهور بفعلتهم هذه عارية، ومن الكشف عن أسبابها الحقيقية؛ وهي ضعف الإيمان، وإيثار السلامة، والإشفاق من الجهاد! "قل: لا تعتذروا. لا نؤمن لكم. قد نبأنا اللّه من أخباركم"! قل: وفروا عليكم معاذيركم. فلن نطمئن إليكم، ولن نصدقكم، ولن نأخذ بظاهر إسلامكم كما كنا نفعل. ذلك أن اللّه قد كشف لنا حقيقتكم، وما تنطوي عليه صدوركم؛ وقص علينا دوافع أعمالكم؛ وحدثنا عن حالكم، فلم تعد مستورة لا نرى إلا ظاهرها كما كنا من قبل معكم. والتعبير عن عدم التصديق والثقة والائتمان والاطمئنان بقوله تعالى: (لن نؤمن لكم) ذو دلالة خاصة. فالإيمان تصديق وثقة وائتمان واطمئنان. تصديق بالقول وائتمان بالعقل واطمئنان بالقلب، وثقة من المؤمن بربه، وثقة متبادلة بينه وبين المؤمنين معه. وللتعبير القرآني دائماً دلالته وايحاؤه. قل: لا تعتذروا. فلا جدوى للقول ولا معول على الكلام. ولكن اعملوا فإن صدق عملكم ما تقولون فذاك، وإلا فلا ثقة بالقول ولا ائتمان ولا اطمئنان: (وسيرى اللّه عملكم ورسوله).. واللّه لا تخفى عليه الأعمال ولا النوايا المخبوءة وراءها؛ ورسول اللّه -[ص]- سيزن قولكم بعملكم. وعلى أساسه سيكون التعامل معكم في المجتمع المسلم. ولن ينتهي الأمر -على كل حال- بما يجري في هذه الأرض في فترة الحياة الدنيا. فوراء ذلك حساب وجزاء، يقومان على علم اللّه المطلق بالظواهر والسرائر: (ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون).. والغيب ما غاب عن الناس علمه، والشهادة ما يشهدونه ويعرفونه. واللّه سبحانه عالم الغيب والشهادة بهذا المعنى. وبمعنى أشمل وأكبر. فهو سبحانه يعلم ما في هذا العالم المشهود ويعلم ما وراءه من العوالم المغيبة.. وفي قوله تعالى لأولئك المخاطبين: (فينبئكم بما كنتم تعملون).. إيماءة مقصودة. فهم يعلمون ما كانوا يعملون. ولكن اللّه -سبحانه- أعلم منهم بها حتى لينبئهم هو بها! وكم من دافع خفي للعمل يخفى حتى على صاحبه وهو يفعله، واللّه أعلم به منه! وكم من نتيجة لهذا العمل لا يدري صاحبه وقوعها، واللّه يعلمها دون صاحبها!.. والمقصود -بطبيعة الحال- هو نتيجة الإنباء. وهي الحساب والجزاء الحق على الأعمال. ولكن هذه النتيجة لا ينص عليها، إنما ينص على الإنباء ذاته لمناسبة هذه الإيماءة في هذا السياق...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
ما كانوا يتوقعون أن يعود النبي صلى الله عليه وسلم موفورا منصورا، بل كانوا يتوقعون أن ينال منه الرومان هو ومن معه من المؤمنين، حتى لقد كانوا يقولون في مجالسهم، إن الرومان سيكبلون العرب، والمنافق مسرف في القوم دائما، ولكنهم رأوهم قد جاءوا منتصرين، وتخاذل الرومان عن لقائهم، وقد راعهم ذلك، فبدأوا يعتذرون كاذبين، كما اعتذروا في التخلف كاذبين، ولذا قال تعالى: {يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم} سالمين أقوياء مسيطرين على أنفسكم أحرارا غير مكبلين..
{قد نبأنا الله من أخباركم} النبأ: الخبر الخطير..
{وسيرى الله عملكم ورسوله}... وهذا الكلام السامي يفيد أمورا ثلاثة: أولها – أنه لا يصح أن تشغلوا أنفسكم بما استدبرتم من أمور، بل أشغلوها بما تستقبلون من أموركم، وثانيها – التهديد بأن الله تعالى ورسوله يعلمان أموركم في المستقبل علما مؤكدا لا مناص من أن تتخلصوا من تبعاته، وإن الله تعالى سيحبط أعمالكم، وثالثها- رجاء أن يدخل الخير قلوبكم، فتتوبوا عما أنتم عليه، ويصلح بالكم، فلا تعتذروا عن التخلف كاذبين.
والحق هنا يقول: {يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم} وفي آية سابقة يقول مخاطبا النبي صلى الله عليه وسلم: {فإن رجعك الله إلى طائفة منهم (83)} (التوبة). وهكذا نلاحظ أنه سبحانه حين نسب الرجوع إلى الصحابة والمجاهدين قال: {رجعتم}، وعندما نسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {فإن رجعك الله} مما يدلنا على أن زمام محمد صلى الله عليه وسلم بيد ربه وحده، ولكن زمام أتباعه يكون باختيارهم.
وهنا يقول الحق: {يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم} ويأتي بعدها ذلك الرد الواضح على محاولة المنافقين في الاعتذار: {قل لا تعتذروا}، وفي هذا رد حاسم، فأنت حين يعتذر إليك إنسان فقد تستمع لعذره ولكنك لا تقبله، ومجرد استماعك للعذر معناه أن هناك احتمالا في أن يكون هذا العذر مقبولا أو مرفوضا. ولكن حين ترفض سماع العذر، فمعنى ذلك ألا وجه للمعذرة.
ف "آمن "إن تعدت بالباء فيكون معناها الاعتقاد الإيماني، وإن تعدت باللام فمعناها التصديق، وإن تعدت بنفسها إلى الفعل فهي إعطاء الأمان والسلام والاطمئنان، وإن تعدت بالمفعول أيضا، معناها القدرة على أداء الأمانات، مصداقا لقول الحق: {ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما} (آل عمران 75) وفي الآية التي نحن بصددها يقول الحق سبحانه وتعالى: {قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم} أي: لن نصدقكم.
وهكذا نجد أن كل علم في هذا الكون بني على نظريات أو مقدمات بديهية، ثم تطورت بعد اكتشاف ما أودعه الله في كونه من أسرار. أما الحق سبحانه وتعالى فهو يقول عن نفسه: {عالم الغيب والشهادة} أي أنه سبحانه عالم بالغيب المطلق، الذي لا توجد له مقدمات توصلنا إليه؛ ولذلك لا نستطيع أن نعرف الغيب المطلق؛ لأنه ليس معروفا عند البعض، ومجهولا عند غيرهم، وليس له مقدمات توصلنا إليه، لأنه الغيب الذي ينفرد به الحق عز وجل. ونجد الحق سبحانه يقول: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا (26) إلا من ارتضى من رسول (27)} (الجن)..فسبحانه عالم الغيب المطلق...