المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{لَعَلِّيٓ أَعۡمَلُ صَٰلِحٗا فِيمَا تَرَكۡتُۚ كَلَّآۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَاۖ وَمِن وَرَآئِهِم بَرۡزَخٌ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ} (100)

100- لأعمل عملا صالحاً فيما تركته من مالي أو حياتي وعمري ، ولن يجاب إلي طلبه ، فهذا كلام يقوله دون فائدة لا يقبل منه ، ولو استُجيب له لم يعمل به ، ومع ذلك فلن يعود أبداً ، فالموت حاجز بينهم وبين ما يتمنون إلي أن يبعثهم الله .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{لَعَلِّيٓ أَعۡمَلُ صَٰلِحٗا فِيمَا تَرَكۡتُۚ كَلَّآۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَاۖ وَمِن وَرَآئِهِم بَرۡزَخٌ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ} (100)

{ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ } من العمل ، وفرطت في جنب الله . { كَلَّا } أي : لا رجعة له ولا إمهال ، قد قضى الله أنهم إليها لا يرجعون ، { إِنَّهَا } أي : مقالته التي تمنى فيها الرجوع إلى الدنيا { كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا } أي : مجرد قول باللسان ، لا يفيد صاحبه إلا الحسرة والندم ، وهو أيضا غير صادق في ذلك ، فإنه لو رد لعاد لما نهي عنه .

{ وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } أي : من أمامهم وبين أيديهم برزخ ، وهو الحاجز بين الشيئين ، فهو هنا : الحاجز بين الدنيا والآخرة ، وفي هذا البرزخ ، يتنعم المطيعون ، ويعذب العاصون ، من موتهم إلى يوم يبعثون ، أي : فليعدوا له عدته ، وليأخذوا له أهبته .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لَعَلِّيٓ أَعۡمَلُ صَٰلِحٗا فِيمَا تَرَكۡتُۚ كَلَّآۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَاۖ وَمِن وَرَآئِهِم بَرۡزَخٌ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ} (100)

99

لتدارك ما فات ، والإصلاح فيما ترك وراءه من أهل ومال . . وكأنما المشهد معروض اللحظة للأنظار ، مشهود كالعيان ! فإذا الرد على هذا الرجاء المتأخر لا يوجه إلى صاحب الرجاء ، إنما يعلن على رؤوس الأشهاد :

( كلا . إنها كلمة هو قائلها . . . )

كلمة لا معنى لها ، ولا مدلول وراءها ، ولا تنبغي العناية بها أو بقائلها . إنها كلمة الموقف الرهيب ، لا كلمة الإخلاص المنيب . كلمة تقال في لحظة الضيق ، ليس لها في القلب من رصيد !

وبها ينتهي مشهد الاحتضار . وإذا الحواجز قائمة بين قائل هذه الكلمة والدنيا جميعا . فلقد قضي الأمر ، وانقطعت الصلات ، وأغلقت الأبواب ، وأسدلت الأستار :

( ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ) . .

فلا هم من أهل الدنيا ، ولا هم من أهل الآخرة . إنما هم في ذلك البرزخ بين بين ، إلى يوم يبعثون .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{لَعَلِّيٓ أَعۡمَلُ صَٰلِحٗا فِيمَا تَرَكۡتُۚ كَلَّآۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَاۖ وَمِن وَرَآئِهِم بَرۡزَخٌ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ} (100)

يخبر تعالى عن حال المحتضر عند الموت ، من الكافرين أو المفرطين في أمر الله تعالى ، وقيلهم عند ذلك ، وسؤالهم الرجعة إلى الدنيا ، ليصلح ما كان أفسده في مدة حياته ؛ ولهذا قال : { رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا } كما قال تعالى : { وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ . وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [ المنافقون : 10 ، 11 ] ، وقال تعالى : { وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ } [ إبراهيم : 44 ] ، وقال تعالى : { يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ } [ الأعراف : 53 ] ، وقال تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ } [ السجدة : 12 ] ، وقال تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ . بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ الأنعام : 27 ، 28 ] ، وقال تعالى : { وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ } [ الشورى : 44 ] ، وقال تعالى : { قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ } [ غافر : 11 ، 12 ] ، وقال تعالى : { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ } [ فاطر : 37 ] ، فذكر تعالى أنهم يسألون الرجعة ، فلا يجابون ، عند الاحتضار ، ويوم النشور ووقت العرض على الجبار ، وحين يعرضون على النار ، وهم في غمرات عذاب الجحيم .

وقوله : هاهنا : { كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا } : كلا حرف ردع وزجر ، أي : لا نجيبه إلى ما طلب ولا نقبل منه .

وقوله : { كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا } : قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أي لا بد أن يقولها لا محالة كل محتضر ظالم .

ويحتمل أن يكون ذلك علة لقوله : " كلا " ، أي : لأنها كلمة ، أي : سؤاله الرجوع ليعمل صالحا هو كلام منه ، وقول لا عمل معه ، ولو رد لما عمل صالحا ، ولكان يكذب في مقالته هذه ، كما قال تعالى : { وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }

وقال محمد بن كعب القرظي : { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ } قال : فيقول الجبار : { كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا } .

وقال عمر بن عبد الله مولى غُفْرَة : إذا سمعت الله يقول : { كَلا } فإنما يقول : كذب{[20662]} .

وقال قتادة في قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ } : قال : كان العلاء بن زياد يقول : لينزل أحدكم نفسه أنه قد حضره الموت ، فاستقال ربه فأقاله ، فليعمل بطاعة الله عز وجل .

وقال قتادة : والله ما تمنى أن يرجع إلى أهل ولا إلى عشيرة ، ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله ، فانظروا أمنية الكافر المفرط فاعملوا بها ، ولا قوة إلا بالله . وعن محمد بن كعب القرظي نحوه .

وقال محمد بن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن يوسف ، حدثنا فضيل - يعني : ابن عياض - عن لَيْث ، عن طلحة بن مُصَرِّف ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة قال : إذا وضع - يعني : الكافر - في قبره ، فيرى مقعده من النار . قال : فيقول : رب ، ارجعون أتوب وأعمل صالحا . قال : فيقال : قد عُمِّرت ما كنت مُعَمَّرا . قال : فيضيق عليه قبره ، قال : فهو كالمنهوش ، ينام ويفزع ، تهوي{[20663]} إليه هَوَامّ الأرض وحياتها وعقاربها .

وقال أيضا : حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن علي ، حدثني سلمة بن تمام ، حدثنا علي بن زيد{[20664]} . عن سعيد بن المسيب ، عن عائشة ، أنها قالت : ويل لأهل المعاصي من أهل القبور ! ! تدخل{[20665]} عليهم في قبورهم حيات سود - أو : دُهُم - حية عند رأسه ، وحية عند رجليه ، يقرصانه حتى يلتقيا{[20666]} في وسطه ، فذلك العذاب في البرزخ الذي قال الله تعالى : { وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }

وقال أبو صالح وغيره في قوله تعالى : { وَمِنْ وَرَائِهِمْ } يعني : أمامهم .

وقال مجاهد : البرزخ : الحاجز ما بين الدنيا والآخرة .

وقال محمد بن كعب : البرزخ : ما بين الدنيا والآخرة . ليسوا{[20667]} مع أهل الدنيا يأكلون ويشربون ، ولا مع أهل الآخرة يجازون بأعمالهم .

وقال أبو صخر : البرزخ : المقابر ، لا هم في الدنيا ، ولا هم في الآخرة ، فهم مقيمون إلى يوم يبعثون .

وفي قوله : { وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ } : تهديد لهؤلاء المحتضرين من الظلمة بعذاب البرزخ ، كما قال : { مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ } [ الجاثية : 10 ] وقال { وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ } [ إبراهيم : 17 ] .

وقوله : { إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } أي : يستمر به العذاب إلى يوم البعث ، كما جاء في الحديث : " فلا يزال معذبا فيها " {[20668]} ، أي : في الأرض .


[20662]:- في ف : "كذبت".
[20663]:- في ف ، أ : "ويهوي".
[20664]:- في أ : "يزيد".
[20665]:- في ف ، أ : "يدخل".
[20666]:- في ف : "تقرصانه حتى تلتقيا".
[20667]:- في ف ، أ : "ليس".
[20668]:- رواه الترمذي في السنن برقم (1071) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وقال : "حديث حسن غريب".

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{لَعَلِّيٓ أَعۡمَلُ صَٰلِحٗا فِيمَا تَرَكۡتُۚ كَلَّآۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَاۖ وَمِن وَرَآئِهِم بَرۡزَخٌ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ} (100)

القول في تأويل قوله تعالى : { حَتّىَ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبّ ارْجِعُونِ * لَعَلّيَ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاّ إِنّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } .

يقول تعالى ذكره : حتى إذا جاء أحدَ هؤلاء المشركين الموتُ ، وعاين نزول أمر الله به ، قال لعظيم ما يعاين مما يَقْدَم عليه من عذاب الله تندّما على ما فات وتلهّفا على ما فرّط فيه قبل ذلك من طاعة الله ومسئلته للإقالة : رَبّ ارْجِعُونِ إلى الدنيا فردّوني إليها ، لَعَلّي أعْمَلُ صَالِحا يقول : كي أعمل صالحا فيما تركت قبل اليوم من العمل فضيعته وفرّطت فيه .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي معشر ، قال : كان محمد بن كعب القُرَظيّ يقرأ علينا : حتى إذَا جاءَ أحَدَهُمْ المَوْتُ قالَ رَبّ ارْجِعُون قال محمد : إلى أيّ شيء يريد ؟ إلى أيّ شيء يرغب ؟ أجمع المال ، أو غَرْس الغِراس ، أو بَنْي بُنيان ، أو شقّ أنهار ؟ ثم يقول : لَعَلّي أعْمَلُ صَالِحا فِيما تَرَكْتُ يقول الجبار : كلاّ .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : رَبّ ارْجِعُونِ قال : هذه في الحياة الدنيا ، ألا تراه يقول : حتى إذَا جاءَ أحَدَهُمُ المَوْتُ قال : حين تنقطع الدنيا ويعاين الاَخرة ، قبل أن يذوق الموت .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لعائشة : «إذَا عايَنَ المُؤْمِنُ المَلائِكَةَ قالُوا : نُرْجِعُكَ إلى الدّنْيا ؟ فَيَقَولُ : إلى دار الهُمُومِ وَالأحْزَانِ ؟ فَيَقُولُ : بَل قَدّمانِي إلى اللّهِ . وأمَا الكافِرُ فَيُقالُ : نُرْجِعُكَ ؟ فيَقُولُ : لَعَلّي أعْمَلُ صَالِحا فِما تَرَكْتُ » . . . الاَية .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : حتّى إذَا جاءَ أحَدَهُمُ المَوْتُ قالَ ربّ ارْجِعُونِ : يعني أهل الشرك .

وقيل : «رب ارجعون » ، فابتدأ الكلام بخطاب الله تعالى ، ثم قيل : «ارجعون » ، فصار إلى خطاب الجماعة ، والله تعالى ذكره واحد . وإنما فعل ذلك كذلك ، لأن مسألة القوم الردّ إلى الدنيا إنما كانت منهم للملائكة الذين يَقبِضون روحهم ، كما ذكر ابن جُرَيج أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قاله . وإنما ابتُدِىء الكلام بخطاب الله جلّ ثناؤه ، لأنهم استغاثوا به ، ثم رجعوا إلى مسئلة الملائكة الرجوع والردّ إلى الدنيا .

وكان بعض نحويّي الكوفة يقول : قيل ذلك كذلك ، لأنه مما جرى على وصف الله نفسه من قوله : وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ ولَمْ تَكُ شَيْئا في غير مكان من القرآن ، فجرى هذا على ذاك .

وقوله : كَلاّ يقول تعالى ذكره : ليس الأمر على ما قال هذا المشرك لن يُرْجع إلى الدنيا ولن يُعاد إليها . إنّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها يقول : هذه الكلمة ، وهو قوله : رَبّ ارْجِعُونِ كلمة هو قائلها يقول : هذا المشرك هو قائلها . كما :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : كَلاّ إنّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها لا بد له أن يقولها .

وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ يقول : ومن أمامهم حاجز يحجُز بينهم وبين الرجوع ، يعني إلى يوم يبعثون من قبورهم ، وذلك يوم القيامة والبرزخ والحاجز والمُهْلة متقاربات في المعنى .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ يقول : أجل إلى حين .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد ، في قوله : وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ قال : ما بعد الموت .

حدثني أبو حميد الحِمْصيّ أحمد بن المغيرة ، قال : حدثنا أبو حَيْوة شريح بن يزيد ، قال : حدثنا أرطاة ، عن أبي يوسف ، قال : خرجت مع أبي أمامة في جنازة ، فلما وُضِعت في لحدها ، قال أبو أمامة : هذا برزخ إلى يوم يُبعثون .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا مطر ، عن مجاهد ، قوله : وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قال : ما بين الموت إلى البعث .

حدثني محمدبن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قال : حِجاب بين الميت والرجوع إلى الدنيا .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد مثله .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قال : برزخ بقية الدنيا .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، مثله .

حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قال : البرزخ ما بين الموت إلى البعث .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عُبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول : البرزخ : ما بين الدنيا والاَخرة .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{لَعَلِّيٓ أَعۡمَلُ صَٰلِحٗا فِيمَا تَرَكۡتُۚ كَلَّآۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَاۖ وَمِن وَرَآئِهِم بَرۡزَخٌ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ} (100)

الترك هنا مستعمل في حقيقته وهو معنى التخلية والمفارقة . وما صدق { ما تركت } عالم الدنيا . ويجوز أن يراد بالترك معناه المجازي وهو الإعراض والرفض ، على أن يكون ما صدق الموصول الإيمان بالله وتصديق رسوله ، فذلك هو الذي رفضه كل من يموت على الكفر ، فالمعنى : لعلي أسلم وأعمل صالحاً في حالة إسلامي الذي كنت رفضته ، فاشتمل هذا المعنى على وعد بالامتثال واعتراف بالخطأ فيما سلف . ورُكب بهذا النظم الموجز قضاءً لحق البلاغة .

و { كلاّ } ردع للسامع ليعلم إبطال طلبة الكافر .

وقوله : { إنها كلمة هو قائلها } تركيب يجري مجرى المثل وهو من مبتكرات القرآن . وحاصل معناه : أن قول المشرك { رب ارجعون } إلخ لا يتجاوز أن يكون كلاماً صدر من لسانه لا جدوى له فيه ، أي لا يستجاب طلبه به .

فجملة { هو قائلها } وصف ل { كلمة } ، أي هي كلمة هذا وصفها . وإذ كان من المحقق أنه قائلها لم يكن في وصف { كلمة } به فائدة جديدة فتعين أن يكون الخبر مستعملاً في معنى أنه لا وصف لكلمته غير كونها صدرت من في صاحبها .

وبذلك يعلم أن التأكيد بحرف ( إن ) لتحقيق المعنى الذي استعمل له الوصف .

والكلمة هنا مستعمل في الكلام كقول النبي صلى الله عليه وسلم " أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد : { ألا كل شيء ما خلا الله باطل »

وكما في قولهم : كلمة الشهادة وكلمة الإسلام . وتقدم قوله تعالى { ولقد قالوا كلمة الكفر } في سورة براءة ( 74 ) .

والوراء هنا مستعار للشيء الذي يصيب المرء لا محالة ويناله وهو لا يظنه يصيبه . شبه ذلك بالذي يريد اللحاق بالسائر فهو لاحقه ، وهذا كقوله تعالى { والله من ورائهم محيط } [ البروج : 20 ] وقوله { ومن ورائهم جهنم } [ الجاثية : 10 ] وقوله { من ورائهم عذاب غليظ } [ إبراهيم : 17 ] . وتقدم قوله : { وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً } [ الكهف : 79 ] .

وقال لبيد :

أليس ورائي أن تراخت منيتي *** لزوم العصا تُحنى عليها الأصابع

والبرزخ : الحاجز بين مكانين . قيل : المراد به في هذه الآية القبر ، وقيل : هو بقاء مدة الدنيا ، وقيل : هو عالم بين الدنيا والآخرة تستقر فيه الأرواح فتكاشف على مقرها المستقبل ، وإلى هذا مال الصوفية . وقال السيد في « التعريفات » : البرزخ العالم المشهود بين عالم المعاني المجردة وعالم الأجسام المادية ، أعني الدنيا والآخرة ويعبر به عن عالم المثال اه ، أي عند الفلاسفة القدماء .

ومعنى { إلى يوم يبعثون } أنهم غير راجعين إلى الحياة إلى يوم البعث . فهي إقناط لهم لأنهم يعلمون أن يوم البعث الذي وُعدوه لا رجوع بعده إلى الدنيا فالذي قال لهم { إلى يوم يبعثون } هو الذي أعلمهم بما هو البعث .