{ قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ } أي : مادتها من فضة ، [ وهي ] على صفاء القوارير ، وهذا من أعجب الأشياء ، أن تكون الفضة الكثيفة من صفاء جوهرها وطيب معدنها على صفاء القوارير .
{ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا } أي : قدروا الأواني المذكورة على قدر ريهم ، لا تزيد ولا تنقص ، لأنها لو زادت نقصت لذتها ، ولو نقصت لم تف بريهم{[1310]} . ويحتمل أن المراد : قدرها أهل الجنة بنفوسهم بمقدار يوافق لذاتهم ، فأتتهم على ما قدروا في خواطرهم .
وقوله{[29605]} : { قَوَارِيرَ قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ } فالأول منصوب بخبر " كان " أي : كانت قوارير . والثاني منصوب إما على البدلية {[29606]} أو تمييز ؛ لأنه بينه بقوله : { قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ }
قال ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن البصري ، وغير واحد : بياض الفضة في صفاء الزجاج ، والقوارير لا تكون إلا من زجاج . فهذه الأكواب هي من فضة ، وهي مع هذا شفافة يرى ما في باطنها من ظاهرها ، وهذا مما لا نظير له في الدنيا .
قال ابن المبارك ، عن إسماعيل ، عن رجل ، عن ابن عباس : ليس في الجنة شيء إلا قد أعطيتم في الدنيا شبهه إلا قوارير من فضة . رواه ابن أبي حاتم .
وقوله : { قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا } أي : على قدر ريّهم ، لا تزيد عنه ولا تنقص ، بل هي مُعَدّة لذلك ، مقدرة بحسب ريّ صاحبها . هذا معنى قول ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأبي صالح ، وقتادة ، وابن أبزى ، وعبد الله بن عُبَيد الله بن عمير ، وقتادة ، والشعبي ، وابن زيد . وقاله ابن جرير وغير واحد . وهذا أبلغ في الاعتناء والشرف والكرامة .
وقال العَوفي ، عن ابن عباس : { قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا } قدرت للكف . وهكذا قال الربيع بن أنس . وقال الضحاك : على قدر أكُفّ الخُدّام . وهذا لا ينافي القول الأول ، فإنها مقدرة في القَدْر والرّي .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَوَارِيرَاْ مِن فِضّةٍ قَدّرُوهَا تَقْدِيراً * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً * عَيْناً فِيهَا تُسَمّىَ سَلْسَبِيلاً } .
يقول تعالى ذكره : قَوَارِيرَ في صفاء الصفاء من فضة الفضة من البياض ، كما :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، قال : قال الحسن ، في قوله : كانَتْ قَوَارِيرَ قَوَارِيرَ مِنْ فِضّةٍ قال : صفاء القوارير في بياض الفضة .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يحيى بن كثير ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله الله : قَوَارِيرَ مِنْ فِضّةٍ قال : بياض الفضة في صفاء القوارير .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، قال : أخبرنا ابن أبي خالد ، عن أبي صالح ، في قوله : كانَتْ قَوَارِيرَ قَوَارِيرَ مِنْ فِضّةٍ قال : كان ترابها من فضة .
وقوله : قَوَارِيرَ مِنْ فِضّةٍ قال : صفاء الزجاج في بياض الفضة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا سليمان ، قال : حدثنا أبو هلال ، عن قتادة ، في قوله : قَوَارِيرَ قَوَارِيرَ مِن فِضّةٍ قال : لو احتاج أهل الباطل أن يعملوا إناء من فضة يرى ما فيه من خلفه ، كما يرى ما في القوارير ما قدروا عليه .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة قَوَارِيرَ مِنْ فِضّةٍ قال : هي من فضة ، وصفاؤها : صفاء القوارير في بياض الفضة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قَوَارِيرَ مِنْ فِضّة قال : على صفاء القوارير ، وبياض الفضة .
وقوله : قَدّرُوها تَقْدِيرا يقول : قدّروا تلك الاَنية التي يُطاف عليهم بها تقديرا على قَدْر رِيّهم لا تزيد ولا تنقص عن ذلك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : قدّرُوها تَقْدِيرا قال : قُدّرت لريّ القوم .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد ، في قوله : قَدّرُوها تَقْدِيرَا قال : قدر رِيّهم .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عمر بن عبيد ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : قَوَارِيرَ مِنْ فِضّةٍ قَدّرُوها تَقْدِيرا قال : لا تنقص ولا تفيض .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قَدّرُوها تَقْدِيرا قال : لا تتْرَع فتُهَراق ، ولا ينقصون من مائها فتنقص فهي ملأى .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة قَدّرُوها تَقْدِيرا لريّهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قَدّرُوها تَقْدِيرا قدرت على ريّ القوم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : مِنْ فِضّةٍ قَدّرُوها تَقْديرا قال : قدّروها لريهم على قدر شربهم أهل الجنة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله قَدّرُوها تَقْديرا قال : ممتلئة لا تُهَراق ، وليست بناقصة .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : قدّروها على قدر الكفّ . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قَدّرُوها تَقْدِيرا قال : قدرت للكفّ .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله قَدّرُوها تَقْدِيرا ، فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار : قَدّرُوها بفتح القاف ، بمعنى : قدّرها لهم السّقاة الذين يطوفون بها عليهم . ورُوي عن الشعبيّ وغيره من المتقدمين أنهم قرأوا ذلك بضمّ القاف ، بمعنى : قُدّرت عليهم ، فلا زيادة فيها ولا نقصان .
والقراءة التي لا أستجيز القراءة بغيرها فتح القاف ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه .
ولفظ { قواريرا } الثاني ، يجوز أن يكون تأكيداً لفظياً لنظيره لزيادة تحقيق أن لها رقة الزجاح فيكون الوقف على { قواريرا } الأول .
ويجوز أن يكون تكريراً لإِفادة التصنيف فإن حسن التنسيق في آنية الشراب من مكملات رونق مجلسه ، فيكون التكرير مثل ما في قوله تعالى : { والمَلكُ صَفّاً صفّاً } [ الفجر : 22 ] وقول الناس : قرأت الكتاب باباً باباً فيكون الوقف على { قواريراً } الثاني .
وكتب في المصحف { قواريرا قواريرا } بألف في آخر كلتا الكلمتين التي هي علامة تنوين .
وقرأ نافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر { قواريرا } الأول والثاني منونين وتنوين الأول لمراعاة الكلمات الواقعة في الفواصل السابقة واللاحقةِ من قوله { كافوراً } [ الإنسان : 5 ] إلى قوله { تقديرا } وتنوين الثاني للمزاوجة مع نظيره وهؤلاء وقفوا عليهما بالألف مثل أخواتهما وقد تقدم نظيره في قوله تعالى : { سلاسلا وأغلالاً } [ الإنسان : 4 ] .
وقرأ ابن كثير وخلف ورويس عن يعقوب { قوايراً } الأول بالتنوين ووقفوا عليه بالألف وهو جار على التوجيه الذي وجهنا به قراءة نافع والكسائي . وقرآ { قواريرا } الثاني بغير تنوين على الأصل ولم تراع المزاوجة ووقفا عليه بالسكون .
وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وحمزة وحفص عن عاصم بترك التنوين فيهما لمنع الصرف وعدم مراعاة الفواصل ولا المزاوجة .
والقراءات روايةٌ متواترة لا يناكدها رسم المصحف فلعلّ الذين كتبوا المصاحف لم تبلغهم إلاّ قراءة أهل المدينة .
وحدّث خلف عن يحيى بن آدم عن ابن إدريس قال : في المصاحف الأول ثبتَ { قواريرا } الأول بالألف والثاني بغير ألف ، يعني المصاحف التي في الكوفة فإن عبد الله ابن إدريس كوفي .
وقال أبو عبيد : لرأيتُ في مصحف عثمان { قواريرا } الأول بالألف وكان الثاني مكتوباً بالألف فحُكَّت فرأيتُ أثرها هناك بيناً اه . وهذا كلام لا يفيد إذ لو صحّ لما كان يُعرف من الذي كتَبه بالألف ، ولا مَن الذي مَحا الألف ولا متى كان ذلك فيما بين زمن كتابة المصاحف وزمن أبي عبيد ، ولا يُدرى ماذا عنى بمصحف عثمان أهو مصحفه الذي اختص به أم هو مصحف من المصاحف التي نسخت في خلافته ووزعها على الأمصار ؟ .
وقرأ يعقوب بغير تنوين فيهما في الوصل .
وأما في الوقف فحمزة وقف عليهما بدون ألف . وهشام عن ابن عامر وقفا عليهما بالألف على أنه صلة للفتحة ، أي إشباع للفتحة ووقف أبو عمرو وحفص وابن ذكوان عن ابن عامر ورويس عن يعقوب على الأول بالألف وعلى الثاني بدون ألف ووجهه ما وجهت به قراءة ابن كثير وخلف .
وقوله : { قدّروها تقديراً } يجوز أن يكون ضمير الجمع عائداً إلى { الأبرار } [ الإنسان : 5 ] أو { عباد الله } [ الإنسان : 6 ] الذي عادت إليه الضمائر المتقدمة من قوله { يفجرونها } [ الإنسان : 6 ] و { يوفون } [ الإنسان : 7 ] إلى آخر الضمائر فيكون معنى التقدير رغبتَهم أن تجيء على وفق ما يشتهون .
ويجوز أن يكون الضمير عائداً إلى نائب الفاعل المحذوف المفهوم من بناء { يطاف } للنائب ، أي الطائفون عليهم بها قدَّروا الآنية والأكوابَ ، أي قدروا ما فيها من الشراب على حسب ما يطلبه كل شارب منهم ومآله إلى معنى الاحتمال الأول . وكان مما يعد في العادة من حِذق الساقي أن يعطِيَ كلَّ أحد من الشَّرْب ما يناسب رغبته .
و { تقديراً } مفعول مطلق مؤكد لعامله للدلالة على وفاء التقدير وعدم تجاوزه المطلوب ولا تقصيره عنه .