وحين يصل السياق إلى هذا الحد ، يتجه بالخطاب إلى الرسول [ ص ] أن يمضي في طريقه . يجهر بما أمره الله أن يبلغه . ويسمى هذا الجهر صدعا - أي شقا - دلالة على القوة والنفاذ . لا يقعده عن الجهر والمضي شرك مشرك فسوف يعلم المشركون عاقبة أمرهم . ولا استهزاء مستهزيء فقد كفاه الله شر المستهزئين :
( فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ؛ إنا كفيناك المستهزئين ، الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون ) . .
يقول تعالى آمرًا رسوله ، صلوات الله وسلامه عليه ، بإبلاغ ما بعثه به وبإنفاذه{[16290]} والصَّدع به ، وهو مواجهة المشركين به ، كما قال ابن عباس : { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } أي : أمضه . وفي رواية : افعل ما تؤمر .
وقال مجاهد : هو الجهر بالقرآن في الصلاة .
وقال أبو عبيدة ، عن{[16291]} عبد الله بن مسعود : ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفيا ، حتى نزلت : { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } فخرج هو وأصحابه{[16292]}
وقوله : { وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ } أي : بلغ ما أنزل إليك من ربك ، ولا تلتفت إلى المشركين الذين يريدون أن يصدوك عن آيات الله . { وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } [ القلم : 9 ] ولا تخفْهم ؛ فإن الله كافيك إياهم ، وحافظك منهم ، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } [ المائدة : 67 ]
قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن رجل ، عن ابن عباس قال : كان رأسُهم الوليد بن المغيرة ، وهو الذي جمعهم .
وهكذا روي عن سعيد بن جبير وعكرمة ، نحو سياق محمد بن إسحاق ، عن يزيد ، عن عروة ، بطوله ، إلا أن سعيدًا يقول : الحارث بن غيطلة . وعكرمة يقول : الحارث بن قيس .
قال الزهري : وصدقا ، هو الحارث بن قيس ، وأمه غيطلة .
وكذا روي عن مجاهد ، ومقسم ، وقتادة ، وغير واحد ، أنهم كانوا خمسة .
ويعني بقوله : فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ : فأمض وافرُق ، كما قال أبو ذُؤَيب :
وكأنّهُنّ رِبابَةٌ وكأنّهُ *** يَسَرٌ يُفيضُ على القِداح ويَصْدَعُ
يعني بقوله : «يَصْدَع » يُفَرّق بالقداح .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ يقول : فامْضِهْ .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ يقول : افعل ما تؤمر .
حدثني الحسين بن يزيد الطحان ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله : فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ قال : بالقرآن .
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأَوْديّ ، قال : حدثنا يحيى بن إبراهيم ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد : فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ قال : هو القرآن .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله : فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ قال : بالقرآن .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله : فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ قال : الجهر بالقرآن في الصلاة .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن ليث ، عن مجاهد : فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ قال : بالقرآن في الصلاة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ قال : اجهر بالقرآن في الصلاة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو أسامة ، قال : حدثنا موسى بن عبيدة ، عن أخيه عبد الله بن عبيدة قال : ما زال النبيّ صلى الله عليه وسلم مستخفيا حتى نزلت : فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَر وأعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ فخرج هو وأصحابه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ قال : بالقرآن الذي يوحى إليه أن يبلغهم إياه .
وقال تعالى ذكره : فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ولم يقل : بما تؤمر به ، والأمر يقتضي الباء لأن معنى الكلام : فاصدع بأمرنا ، فقد أمرناك أن تدعو إلى ما بعثناك به من الدين خَلقي وأذنّا لك في إظهاره .
ومعنى «ما » التي في قوله بِمَا تُؤْمَرُ معنى المصدر ، كما قال تعالى ذكره يا أبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ معناه : افعل الأمر الذي تؤمر به . وكان بعض نحويّي أهل الكوفة يقول في ذلك : حذفت الباء التي يوصل بها تؤمر من قوله : فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ على لغة الذين يقولون : أمرتك أمرا . وكان يقول : للعرب في ذلك لغتان : إحداهما أمرتك أمرا ، والأخرى أمرتك بأمر ، فكان يقول : إدخال الباء في ذلك وإسقاطها سواء . واستشهد لقولك ذلك بقول حصين بن المنذر الرقاشي ليزيد بن المهلّب :
أمَرْتُكَ أمْرا جازِما فَعَصَيْتَنِي *** فأصْبَحْتَ مَسلُوبَ الإمارَةِ نادِما
فقال : أمرتك أمرا ، ولم يقل : أمرتك بأمر ، وذلك كما قال تعالى ذكره : ألا إنّ عادا كَفَرُوا رَبّهُمْ .
ولم يقل : بربهم ، وكما قالوا : مددت الزمام ، ومددت بالزمام ، وما أشبه ذلك من الكلام .
وأما قوله : وأعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ ويقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : بلغ قومك ما أرسلتَ به ، واكفف عن حرب المشركين بالله وقتالهم . وذلك قيل أن يفرض عليه جهادهم ، ثم نَسَخَ ذلك بقوله : فَاقْتُلُو المُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ، كما :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وأعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ وهو من المنسوخ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : اخبرنا ابن المبارك ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : وأعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ قُلْ للّذِينَ آمَنُوا يَغْفروا للّذِينَ لا يَرْجُونَ أيّامَ اللّهِ وهذا النحو كله في القرآن أمر الله تعالى ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم أن يكون ذلك منه ، ثم أمره بالقتال ، فنَسَخَ ذلك كله ، فقال : خُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ . . . الاَية .
{ فاصدع } معناه فانفد وصرح بما بعثت به ، والصدع التفريق بين ملتئم كصدع الزجاجة ونحوه ، فكأن المصرح بقول يرجع إليه ، يصدع به ما سواه مما يضاده ، والصديع الصبح{[7230]} لأنه يصدع الليل ، وقال مجاهد : نزلت في أن يجهر بالقرآن في الصلاة ، وفي { تؤمر } ضمير عائد على { ما } ، تقديره ما تؤمر به أو تؤمره وفي هذين تنازع ، وقوله { وأعرض عن المشركين } من آيات المهادنات التي نسختها آية السيف .
تفريع على جملة { ولقد آتيناك سبعاً من المثاني } [ سورة الحجر : 87 ] بصريحه وكنايته عن التسلية على ما يلاقيه من تكذيب قومه .
نزلت هذه الآية في السنة الرابعة أو الخامسة من البعثة ورسول الله عليه الصلاة والسلام مختف في دار الأرقم بن أبي الأرقم . رُوي عن عبد الله بن مسعود قال : ما زال النبي مستخفياً حتى نزلتْ : { فاصدع بما تؤمر } فخرج هو وأصحابه . يعني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت سورة المدثّر كان يدعو النّاس خفية وكان من أسلم من النّاس إذا أراد الصّلاة يذهب إلى بعْض الشّعاب يستخفي بصلاته من المشركين ، فلحقهم المشركون يستهزئون بهم ويعِيبون صلاتهم ، فحدث تضارب بينهم وبين سعد بن أبي وقاص أدمَى فيه سعد رجلاً من المشركين . فبعد تلك الوقعة دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه دار الأرقم عند الصّفا فكانوا يقيمون الصّلاة بها واستمروا كذلك ثلاث سنين أو تزيد ، فنزل قوله تعالى : { فاصدع بما تؤمر } الآية . وبنزولها ترك الرسول صلى الله عليه وسلم الاختفاء بدار الأرقم وأعلن بالدّعوة للإسلام جهراً .
والصدع : الجهر والإعلان . وأصله الانشقاق . ومنه انصداع الإناء ، أي انشقاقه . فاستعمل الصدع في لازم الانشقاق وهو ظهور الأمر المحجوب وراء الشيء المنصدع ؛ فالمراد هنا الجهر والإعلان .
وما صدقُ « ما تؤمر » هو الدّعوة إلى الإسلام .
وقَصْدُ شمول الأمر كلّ ما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بتبليغه هو نكتة حذف متعلّق { تؤمر } ، فلم يصرح بنحو بتبليغه أو بالأمر به أو بالدّعوة إليه . وهو إيجاز بديع .
والإعراض عن المشركين الإعراض عن بعض أحوالهم لا عن ذواتهم . وذلك إبايتهم الجهر بدعوة الإسلام بين ظهرانيهم ، وعن استهزائهم ، وعن تصدّيهم إلى أذى المسلمين . وليس المراد الإعراض عن دعوتهم لأن قوله تعالى : { فاصدع بما تؤمر } مانع من ذلك ، وكذلك جملة { إنا كفيناك المستهزئين } .