ثم هدد من جادل بآيات الله ليبطلها ، كما فعل من قبله من الأمم من قوم نوح وعاد والأحزاب من بعدهم ، الذين تحزبوا وتجمعوا على الحق ليبطلوه ، وعلى الباطل لينصروه ، { و } أنه بلغت بهم الحال ، وآل بهم التحزب إلى أنه { هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ } من الأمم { بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ } أي : يقتلوه . وهذا أبلغ ما يكون الرسل الذين هم قادة أهل الخير الذين معهم الحق الصرف الذي لا شك فيه ولا اشتباه ، هموا بقتلهم ، فهل بعد هذا البغي والضلال والشقاء إلا العذاب العظيم الذي لا يخرجون منه ؟ ولهذا قال في عقوبتهم الدنيوية والأخروية : { فَأَخَذْتُهُمْ } أي : بسبب تكذيبهم وتحزبهم { فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } كان أشد العقاب وأفظعه ، ما هو إلا صيحة أو حاصب ينزل عليهم أو يأمر الأرض أن تأخذهم ، أو البحر أن يغرقهم فإذا هم خامدون .
ولقد سبقتهم أقوام وأحزاب على شاكلتهم ، توحي عاقبتهم بعاقبه كل من يقف في وجه القوة الطاحنة العارمة التي يتعرض لها من يعرض نفسه لبأس الله :
( كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم ، وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه ، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم . فكيف كان عقاب ? ) . .
فهي قصة قديمة من عهد نوح . ومعركة ذات مواقع متشابهة في كل زمان . وهذه الآية تصور هذه القصة . قصة الرسالة والتكذيب والطغيان على مدى القرون والأجيال كما تصور العاقبة في كل حال .
رسول يجيء . فيكذبه طغاة قومه . ولا يقفون عند مقارعة الحجة بالحجة ، إنما هم يلجأون إلى منطق الطغيان الغليظ ، فيهمون أن يبطشوا بالرسول ، ويموهون على الجماهير بالباطل ليغلبوا به الحق . . هنا تتدخل يد القدرة الباطشة ، فتأخذهم أخذاً يعجب ويدهش ، ويستحق التعجيب والاستعراض :
ولقد كان عقاباً مدمراً قاضياً عنيفاً شديداً ، تشهد به مصارع القوم الباقية آثارها ، وتنطق به الأحاديث والروايات .
ثم قال تعالى مسليًا لنبيه {[25416]} محمد صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذبه من قومه ، بأن له أسوة من سلف من الأنبياء ؛ فإنه قد كذبهم {[25417]} أممهم وخالفوهم ، وما آمن بهم منهم إلا قليل{[25418]} ، فقال : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ } وهو أول رسول بَعَثه الله ينهى عن عبادة الأوثان ، { وَالأحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ } أي : من كل أمة ، { وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ } أي : حرصوا على قتله بكل ممكن ، ومنهم من قتل رسوله {[25419]} ، { وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ } أي : مَاحَلُوا بالشبهة {[25420]} ليردوا الحق الواضح الجلي .
وقد قال أبو القاسم الطبراني : حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا عارم أبو النعمان ، حدثنا مُعْتَمِر ابن سليمان قال : سمعت أبي يحدث عن حَنَش ، عن عكرمة ، عن ابن عباس {[25421]} [ رضي الله عنه ] {[25422]} ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أعان باطلا ليدحض بباطله حقًّا ، فقد برئت منه ذمة الله وذمة رسوله " {[25423]} .
وقوله : { فَأَخَذْتُهُمْ } أي : أهلكتهم على ما صنعوا من هذه الآثام والذنوب العظام ، { فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } أي : فكيف بلغك عذابي لهم ، ونكالي بهم ؟ قد كان شديدًا موجعًا مؤلمًا .
يقول تعالى ذكره : ما يخاصم في حجج الله وأدلته على وحدانيته بالإنكار لها ، إلا الذين جحدوا توحيده .
وقوله : فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلّبُهُمْ في البِلادِ يقول جلّ ثناؤه : فلا يخدعك يا محمد تصرّفهم في البلاد وبقاؤهم ومكثهم فيها ، مع كفرهم بربهم ، فتحسب أنهم إنما أمهلوا وتقلبوا ، فتصرّفوا في البلاد مع كفرهم بالله ، ولم يعاجلوا بالنقمة والعذاب على كفرهم لأنهم على شيء من الحق فإنا لم نمهلهم لذلك ، ولكن ليبلغ الكتاب أجله ، ولتحقّ عليهم كلمة العذاب ، عذاب ربك ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فلا يَغْرُرْكَ تَقَلّبُهُمْ فِي البِلاد أسفارهم فيها ، ومجيئهم وذهابهم .
ثم قصّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم قصص الأمم المكذّبة رسلها ، وأخبره أنهم كانوا من جدالهم لرسله على مثل الذي عليه قومه الذين أرسل إليهم ، وإنه أحلّ بهم من نقمته عند بلوغهم أمدهم بعد إعذار رسله إليهم ، وإنذارهم بأسه ما قد ذكر في كتابه إعلاما منه بذلك نبيه ، أن سنته في قومه الذين سلكوا سبيل أولئك في تكذيبه وجداله سنته من إحلال نقمته بهم ، وسطوته بهم ، فقال تعالى ذكره : كذبت قبل قومك المكذّبين لرسالتك إليهم رسولاً ، المجادليك بالباطل قوم نوح والأحزاب من بعدهم ، وهم الأمم الذين تحزّبُوا وتجمّعوا على رسلهم بالتكذيب لها ، كعاد وثمود ، وقوم لوط ، وأصحاب مَدْيَن وأشباههم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : كَذّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ والأحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ قال : الكفار .
وقوله : وَهمّتْ كُلّ أُمّةٍ برَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ يقول تعالى ذكره : وهمت كلّ أمة من هذه الأمم المكذبة رسلها ، المتحزّبة على أنبيائها ، برسولهم الذي أُرسل إليهم ليأخذوه فيقتلوه ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَهَمّتْ كُلّ أُمّةٍ بِرَسُولِهِمْ لَيأْخُذُوهُ : أي ليقتلوه ، وقيل برسولهم وقد قيل : كلّ أمة ، فوجّهت الهاء والميم إلى الرجل دون لفظ الأمة ، وقد ذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله «برسولها » ، يعني برسول الأمة .
وقوله : وجَادَلُوا بالباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الحَقَ يقول : وخاصموا رسولهم بالباطل من الخصومة ليبطلوا بجدالهم إياه وخصومتهم له الحقّ الذي جاءهم به من عند الله ، من الدخول في طاعته ، والإقرار بتوحيده ، والبراءة من عبادة ما سواه ، كما يخاصمك كفار قومك يا محمد بالباطل .
وقوله : فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقَابِ يقول تعالى ذكره : فأخذت الذين هموا برسولهم ليأخذوه بالعذاب من عندي ، فكيف كان عقابي إياهم ، ألم أهلكهم فأجعلهم للخلق عبرة ، ولمن بعدهم عظة ؟ وأجعل ديارهم ومساكنهم منهم خلاء ، وللوحوش ثواء . وقد :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فَأَخَذَتْهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقَابِ قال : شديد والله .
ثم مثل لهم بمن تقدمهم من الأمم ، أي كما حل بأولئك كذلك ينزل بهؤلاء . { الأحزاب } : يريد بهم عاداً وثمود أو أهل مدين وغيرهم ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود : «برسولها » ، رداً على الأمة ، وضمير الجماعة هو على معنى الأمة لا على لفظها .
وقوله : { ليأخذوه } معناه ليهلكوه كما قال تعالى : { فأخذتهم }{[9964]} والعرب تقول للقتيل : أخيذ ، وللأسير كذلك ، ومنه قولهم : أكذب من الأخيذ الصبحان{[9965]} . وقال قتادة : { ليأخذوه } معناه : ليقتلوه . و { ليدحضوا } معناه : ليزلقوا وليذهبوا ، والمدحضة المزلة والمزلقة{[9966]} .
وقوله : { فكيف كان عقاب } تعجيب وتعظيم ، وليس باستفهام عن كيفية وقوع الأمر .