افتتحت هذه السورة بإخباره تعالى أنه يسبح له ما في السماوات وما في الأرض ، وقد امتن جل شأنه على العرب الأميين أنه بعث رسولا منهم يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ، وإن هذا فضل الله يؤتيه من يشاء .
وقد نعى الله تعالى على اليهود تركهم العمل بالتوراة مع علمهم بما فيها ، وأنكر عليهم دعواهم أنهم أولياء الله من دون الناس ، وتحداهم أن يتمنوا الموت إن كانوا صادقين . وختمت السورة بأمر المؤمنين أن يبادروا إلى صلاة الجمعة إذا سمعوا النداء ، وأن يذروا البيع ، وإذا قضيت الصلاة ينتشرون في الأرض ويبتغون من فضل الله ، وأنكر عليهم أن يشغلهم عن سماع خطبتها شاغل من تجارة أو لهو ، وتكفل لهم بالرزق ، والله خير الرازقين .
1- يُسبح لله وينزِّهه عما لا يليق به كل ما في السماوات وما في الأرض . المالك لكل شيء . المتصرف فيه بلا منازع ، المنزه تنزيهاً كاملاً عن كل نقص ، الغالب على كل شيء ، ذي الحكمة البالغة .
{ 1 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ }
أي : يسبح لله ، وينقاد لأمره ، ويتألهه ، ويعبده ، جميع ما في السماوات والأرض ، لأنه الكامل الملك ، الذي له ملك العالم العلوي والسفلي ، فالجميع مماليكه ، وتحت تدبيره ، { الْقُدُّوسُ } المعظم ، المنزه عن كل آفة ونقص ، { الْعَزِيزُ } القاهر للأشياء كلها ، { الْحَكِيمُ } في خلقه وأمره .
فهذه الأوصاف العظيمة مما تدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له .
سورة الجمعة مدنية وآياتها إحدى عشرة
نزلت هذه السورة بعد سورة " الصف " السابقة . وهي تعالج الموضوع الذي عالجته سورة الصف ، ولكن من جانب آخر ، وبأسلوب آخر ، وبمؤثرات جديدة .
إنها تعالج أن تقر في أخلاد الجماعة المسلمة في المدينة أنها هي المختارة أخيرا لحمل أمانة العقيدة الإيمانية ؛
وأن هذا فضل من الله عليها ؛ وأن بعثة الرسول الأخير في الأميين - وهم العرب - منة كبرى تستحق الالتفات والشكر ، وتقتضي كذلك تكاليف تنهض بها المجموعة التي استجابت للرسول ، واحتملت الأمانة ؛ وأنها موصولة على الزمان غير مقطوعة ولا منبتة ، فقد قدر الله أن تنمو هذه البذرة وتمتد . بعدما نكل بنو إسرائيل عن حمل هذه الأمانة وانقطعت صلتهم بأمانة السماء ؛ وأصبحوا يحملون التوراة كالحمار يحمل أسفارا ، ولا وظيفة له في إدراكها ، ولا مشاركة له في أمرها !
تلك هي الحقيقة الرئيسية التي تعالج السورة إقرارها في قلوب المسلمين . من كان منهم في المدينة يومذاك على وجه الخصوص ، وهم الذين ناط الله بهم تحقيق المنهج الإسلامي في صورة واقعة . ومن يأتي بعدهم ممن أشارت إليهم السورة ، وضمتهم إلى السلسلة الممتدة على الزمان .
وفي الوقت ذاته تعالج السورة بعض الحالات الواقعة في تلك الجماعة الأولى ؛ في أثناء عملية البناء النفسي العسيرة المتطاولة الدقيقة . وتخلصها من الجواذب المعوقة من الحرص والرغبة العاجلة في الربح ، وموروثات البيئة والعرف . وبخاصة حب المال وأسبابه الملهية عن الأمانة الكبرى ، والاستعداد النفسي لها . وتشير إلى حادث معين . حيث كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يخطبهم في المسجد للجمعة حين حضرت قافلة من قوافلهم التجارية ؛ فما إن أعلن نبأ قدومها حتى انفض المستمعون منصرفين إلى التجارة واللهو الذي كانت القافلة تحاط به - على عادة الجاهلية - من ضرب بالدفوف وحداء وهيصة ! وتركوا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قائما . فيما عدا اثني عشر من الراسخين فيهم أبو بكر وعمر بقوا يستمعون ! كما تذكر الروايات ، التي قد لا تكون دقيقة من حيث العدد ، ولكنها ثابتة من حيث وقوع هذه الحركة من عدد من الحاضرين اقتضى التنبيه إليها في القرآن الكريم .
وهي حادثة تكشف بذاتها عن مدى الجهد الذي بذل في تربية تلك الجماعة الأولى حتى انتهت إلى ما انتهت إليه ؛ وحتى صارت ذلك النموذج الفريد في تاريخ الإسلام وفي تاريخ البشرية جميعا . وتلهمنا الصبر على مشقة بناء النفوس في أي جيل من الأجيال ، لتكوين الجماعة المسلمة التي تنهض بحمل أمانة هذه العقيدة ، وتحاول تحقيقها في عالم الواقع كما حققتها الجماعة الأولى .
وفي السورة مباهلة مع اليهود ، بدعوتهم إلى تمني الموت للمبطلين من الفريقين وذلك ردا على دعواهم أنهم أولياء الله من دون الناس ، وأنهم شعب الله المختار ، وأن بعثة الرسول في غيرهم لا تكون ! كما كانوا يدعون ! مع جزم القرآن بأنهم لن يقبلوا هذه المباهلة التي دعوا إليها فنكلوا عنها لشعورهم ببطلان دعواهم . وتعقب السورة على هذا بتقرير حقيقة الموت الذي يفرون منه ، وأنه ملاقيهم مهما فروا ، وأنهم مردودون إلى عالم الغيب والشهادة فمنبئهم بما كانوا يعملون . . وهو تقرير لا يخص اليهود وحدهم ، إنما يلقيه القرآن ويدعه يفعل فعله في نفوس المؤمنين كذلك . فهذه الحقيقة لا بد أن تستقر في نفوس حملة أمانة الله في الأرض ، لينهضوا بتكاليفها وهم يعرفون الطريق !
هذا هو اتجاه السورة ، وهو قريب من اتجاه سورة الصف قبلها ، مع تميز كل منهما بالجانب الذي تعالجه ، وبالأسلوب الذي تأخذ القلوب به ، والظلال التي تلقيها هذه وتلك في الإتجاه الواحد العام . فلننظر كيف يتناول الأسلوب القرآني هذا الاتجاه . .
( يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض ، الملك القدوس العزيز الحكيم ) . .
هذا المطلع يقرر حقيقة التسبيح المستمرة من كل ما في الوجود لله ؛ ويصفه - سبحانه - بصفات ذات علاقة لطيفة بموضوع السورة . السورة التي اسمها " الجمعة " وفيها تعليم عن صلاة الجمعة ، وعن التفرغ لذكر الله في وقتها ، وترك اللهو والتجارة ، وابتغاء ما عند الله وهو خير من اللهو ومن التجارة . ومن ثم تذكر : ( الملك ) . . الذي يملك كل شيء بمناسبة التجارة التي يسارعون إليها ابتغاء الكسب . وتذكر( القدوس )الذي يتقدس ويتنزه ويتوجه إليه بالتقديس والتنزيه كل ما في السماوات والأرض ، بمناسبة اللهو الذي ينصرفون إليه عن ذكره . وتذكر( العزيز ) . . بمناسبة المباهلة التي يدعى إليها اليهود والموت الذي لا بد أن يلاقي الناس جميعا والرجعة إليه والحساب . وتذكر( الحكيم ) . . بمناسبة اختياره الأميين ليبعث فيهم رسولا يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة . . وكلها مناسبات لطيفة المدخل والاتصال .
عن ابن عباس ، وأبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين . رواه مسلم في صحيحه{[1]} .
يخبر تعالى أنه يُسبّح له ما في السموات وما في الأرض ، أي : من جميع المخلوقات ناطقها وجامدها ، كما قال : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } [ الإسراء : 44 ]
ثم قال : { الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ } أي : هو مالك السموات والأرض المتصرف فيهما بحكمه ، وهو { الْقُدُّوسِ } أي : المنزه عن النقائص ، الموصوف بصفات الكمال { الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } تقدم تفسيره غير مرة .
القول في تأويل قوله تعالى : { يُسَبّحُ لِلّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ الْمَلِكِ الْقُدّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } .
يقول تعالى ذكره : يسبح لله كلّ ما في السموات السبع ، وكلّ ما في الأرضين من خلقه ، ويعظمه طوعا وكرها المَلِكِ القُدّوسِ الذي له ملك الدنيا والاَخرة وسلطانهما ، النافذ أمره في السموات والأرض وما فيهما ، القدّوس : وهو الطاهر من كلّ ما يضيف إليه المشركون به ، ويصفونه به مما ليس من صفاته المبارك العَزِيزِ يعني الشديد في انتقامه من أعدائه الْحَكِيمِ في تدبيره خلقه ، وتصريفه إياهم فيما هو أعلم به من مصالحهم .
تفسير سورة الجمعة{[1]}
وهي مدنية وذكر النقاش قولا إنها مكية وذلك خطأ ممن قاله لأن أمر اليهود لم يكن إلا بالمدينة وكذلك أمر الجمعة لم يكن قط بمكة أعني إقامتها وصلاتها وأما أمر الانفضاض فلا مرية في كونه بالمدينة وذكر النقاش عن أبي هريرة قال كنا جلوسا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت سورة الجمعة{[2]} وهذا أيضا ضعيف لأن أبا هريرة إنما أسلم أيام خيبر .
تقدم القول في لفظ الآية الأولى ، واختلفت القراءة في إعراب الصفات في آخرها .
فقرأ جمهور الناس : «الملكِ » بالخفض نعتاً { لله } ، وكذلك ما بعده ، وقرأ أبو وائل شقيق{[11088]} بن سلمة وأبو الدينار : «الملكُ » بالرفع على القطع ، وفتح أبو الدينار القاف من «القَدوس » .