المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ لَوۡ أَنَّ لَنَا كَرَّةٗ فَنَتَبَرَّأَ مِنۡهُمۡ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّاۗ كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ ٱللَّهُ أَعۡمَٰلَهُمۡ حَسَرَٰتٍ عَلَيۡهِمۡۖ وَمَا هُم بِخَٰرِجِينَ مِنَ ٱلنَّارِ} (167)

167- وهنا يتبين الأتباع أنهم كانوا في ضلال حين اتبعوا رؤساءهم في الباطل ويتمنون أن يعودوا إلى الدنيا فيتنكروا لرؤسائهم كما تبرأوا منهم في هذا اليوم ، وتبدو لهم أعمالهم السيئة فتكون حسرات عليهم ويندمون ، وقد ألقى بهم في النار فلا يبرحونها .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ لَوۡ أَنَّ لَنَا كَرَّةٗ فَنَتَبَرَّأَ مِنۡهُمۡ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّاۗ كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ ٱللَّهُ أَعۡمَٰلَهُمۡ حَسَرَٰتٍ عَلَيۡهِمۡۖ وَمَا هُم بِخَٰرِجِينَ مِنَ ٱلنَّارِ} (167)

وحينئذ يتمنى التابعون أن يردوا إلى الدنيا فيتبرأوا من متبوعيهم ، بأن يتركوا الشرك بالله ، ويقبلوا على إخلاص العمل لله ، وهيهات ، فات الأمر ، وليس الوقت وقت إمهال وإنظار ، ومع هذا ، فهم كذبة ، فلو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ، وإنما هو قول يقولونه ، وأماني يتمنونها ، حنقا وغيظا على المتبوعين لما تبرأوا منهم والذنب ذنبهم ، فرأس المتبوعين على الشر ، إبليس ، ومع هذا يقول لأتباعه لما قضي الأمر { إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ لَوۡ أَنَّ لَنَا كَرَّةٗ فَنَتَبَرَّأَ مِنۡهُمۡ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّاۗ كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ ٱللَّهُ أَعۡمَٰلَهُمۡ حَسَرَٰتٍ عَلَيۡهِمۡۖ وَمَا هُم بِخَٰرِجِينَ مِنَ ٱلنَّارِ} (167)

158

( وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا ) . .

وتبدى الحنق والغيظ من التابعين المخدوعين في القيادات الضالة . وتمنوا لو يردون لهم الجميل ! لو يعودون إلى الأرض فيتبرأوا من تبعيتهم لتلك القيادات العاجزة الضعيفة في حقيقتها ، التي خدعتهم ثم تبرأت منهم أمام العذاب !

إنه مشهد مؤثر : مشهد التبرؤ والتعادي والتخاصم بين التابعين والمتبوعين . بين المحبين والمحبوبين ! وهنا يجيء التعقيب الممض المؤلم :

( كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم ، وما هم بخارجين من النار ) . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ لَوۡ أَنَّ لَنَا كَرَّةٗ فَنَتَبَرَّأَ مِنۡهُمۡ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّاۗ كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ ٱللَّهُ أَعۡمَٰلَهُمۡ حَسَرَٰتٍ عَلَيۡهِمۡۖ وَمَا هُم بِخَٰرِجِينَ مِنَ ٱلنَّارِ} (167)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الّذِينَ اتّبَعُواْ لَوْ أَنّ لَنَا كَرّةً فَنَتَبَرّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرّءُواْ مِنّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النّارِ }

يعني بقوله تعالى ذكره : وَقالَ الّذِينَ اتّبَعُوا وقال أتباع الرجال الذين كانوا اتخذوهم أندادا من دون الله يطيعونهم في معصية الله ، ويعصون ربهم في طاعتهم ، إذ يرون عذاب الله في الاَخرة : لَوْ أن لنَا كَرة يعني بالكرّة : الرجعة إلى الدنيا ، من قول القائل : كررت على القوم أكرّ كرّا ، والكرّة : المرة الواحدة ، وذلك إذا حمل عليهم راجعا عليهم بعد الانصراف عنهم كما قال الأخطل :

وَلَقَدْ عَطَفْنَ على فَزَارَةَ عَطْفَةً كَرّ المَشيحِ وَجُلْنَ ثَمّ مَجَالاَ

وكما حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : وقال الّذِينَ اتّبَعُوا لَوْ أن لنَا كَرّةً فَنَتَبرّأ مِنْهُمْ كمَا تَبّرءوْا مِنّا ، أي لنا رجعة إلى الدنيا .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : وَقالَ الّذِينَ اتّبَعُوا لَوْ أنّ لنَا كَرّةً قال : قالت الأتباع : لو أن لنا كرّة إلى الدنيا فنتبرأ منهم كما تبرّءوا منا .

وقوله : فَنَتَبرّأَ مِنْهُمْ منصوب لأنه جواب للتمني بالفاء ، لأن القوم تمنوا رجعة إلى الدنيا ليتبرّءوا من الذين كانوا يطيعونهم في معصية الله كما تبرأ منهم رؤساؤهم الذين كانوا في الدنيا المتبوعون فيها على الكفر بالله إذْ عاينوا عظيم النازل بهم من عذاب الله ، فقالوا : يا ليت لنا كرّة إلى الدنيا فنتبرأ منهم ، ويا لَيَتَنا نُرَدّ ولا نُكَذّبُ بآياتِ رَبّنا ونَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ .

القول في تأويل قوله تعالى : كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أعْمالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِم .

ومعنى قوله : كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أعْمالَهُمْ يقول : كما أراهم العذاب الذي ذكره في قوله : وَرَأوُا العَذَابَ الذي كانوا يكذبون به في الدنيا ، فكذلك يريهم أيضا أعمالهم الخبيثة التي استحقوا بها العقوبة من الله حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ يعني ندامات . والحسرات جمع حسرة ، وكذلك كل اسم كان واحده على «فَعْلة » مفتوح الأول ساكن الثاني ، فإن جمعه على «فَعَلات » ، مثل شهوة وتمرة تجمع شهوات وتمرات ، مثقلة الثواني من حروفها . فأما إذا كان نعتا فإنك تدع ثانيه ساكنا مثل ضخْمة تجمعها ضخْمات ، وعَبْلة تجمعها عَبْلات ، وربما سكن الثاني في الأسماء كما قال الشاعر :

عَلّ صُرُوفَ الدّهْرِ أوْ دُولاتِهَا يُدِلْنَنا اللّمّةَ مِنْ لَمّاتِهَا فَتَسْتَرِيحَ النّفْسُ مِنْ زَفْرَاتِها

فسكن الثاني من «الزفْرات » وهي اسم وقيل إن الحسرة أشدّ الندامة .

فإن قال لنا قائل : فكيف يرون أعمالهم حسرات عليهم ، وإنما يتندم المتندم على ترك الخيرات وفوتها إياه ؟ وقد علمت أن الكفار لم يكن لهم من الأعمال ما يتندمون على تركهم الازدياد منه ، فيريهم الله قليلَه ، بل كانت أعمالهم كلها معاصي لله ، ولا حسرة عليهم في ذلك ، وإنما الحسرة فيما لم يعملوا من طاعة الله ؟ قيل : إن أهل التأويل في تأويل ذلك مختلفون ، فنذكر في ذلك ما قالوا ، ثم نخبر بالذي هو أولى بتأويله إن شاء الله .

فقال بعضهم : معنى ذلك : كذلك يريهم الله أعمالهم التي فرضها عليهم في الدنيا فضيعوها ولم يعملوا بها ، حتى استوجب ما كان الله أعدّ لهم لو كانوا عملوا بها في حياتهم من المساكن والنعم غيرُهم بطاعته ربّه فصار ما فاتهم من الثواب الذي كان الله أعدّه لهم عنده لو كانوا أطاعوه في الدنيا إذْ عاينوه عند دخول النار أو قبل ذلك ، أسى وندامة وحسرة عليهم . ذكر من قال ذلك :

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : كَذَلِكَ يُريهِمُ اللّهُ أعْمالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ زعم أنه يرفع لهم الجنة فينظرون إليها وإلى بيوتهم فيها لو أنهم أطاعوا الله ، فيقال لهم : تلك مساكنكم لو أطعتم الله ثم تقسم بين المؤمنين ، فيرثونهم ، فذلك حين يندمون .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل ، قال : حدثنا أبو الزعراء ، عن عبد الله في قصة ذكرها فقال : فليس نفس إلا وهي تنظر إلى بيت في الجنة وبيت في النار ، وهو يوم الحسرة . قال : فيرى أهل النار الذين في الجنة ، فيقال لهم : لو عملتم فتأخذهم الحسرة . قال : فيرى أهل الجنة البيت الذي في النار ، فيقال : لولا أن منّ الله عليكم

فإن قال قائل : وكيف يكون مضافا إليهم من العمل ما لم يعملوه على هذا التأويل ؟ قيل : كما يعرض على الرجل العمل فيقال له قبل أن يعمله : هذا عملك ، يعني هذا الذي يجب عليك أن تعمله ، كما يقال للرجل يُحضر غداؤه قبل أن يتغدى به : هذا غداؤك اليوم ، يعني به : هذا ما تتغدى به اليوم ، فكذلك قوله : كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أعمْالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ يعني : كذلك يريهم الله أعمالهم التي كان لازما لهم العمل بها في الدنيا حسرات عليهم .

وقال آخرون : كذلك يريهم الله أعمالهم السيئة حسرات عليهم : لم عملوها ، وهلا عملوا بغيرها مما يرضى الله تعالى ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : كَذَلِكَ يُريهِمُ اللّهُ أعمْالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ فصارت أعمالهم الخبيثة حسرة عليهم يوم القيامة .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : أعْمالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ قال : أو ليس أعمالهم الخبيثة التي أدخلهم الله بها النار حسرات عليهم ؟ قال : وجعل أعمال أهل الجنة لهم ، وقرأ قول الله : بمَا أسْلَفْتُمْ فِي الأيّامِ الخالِيَة .

قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالآية تأويل من قال : معنى قوله : كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أعْمالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ كذلك يري الله الكافرين أعمالهم الخبيثة حسرات عليهم لم عملوا بها ، وهلا عملوا بغيرها فندموا على ما فرط منهم من أعمالهم الرديئة إذْ رأوا جزاءها من الله وعقابها ؟ لأن الله أخبر أنه يريهم أعمالهم ندما عليهم . فالذي هو أولى بتأويل الآية ما دل عليه الظاهر دون ما احتمله الباطن الذي لا دلالة على أنه المعنيّ بها . والذي قال السدي في ذلك وإن كان مذهبا تحتمله الآية ، فإنه منزع بعيد ، ولا أثر بأن ذلك كما ذكر تقوم به حجة فيسلم لها ، ولا دلالة في ظاهر الآية أنه المراد بها . فإذْ كان الأمر كذلك لم يُحَلْ ظاهر التنزيل إلى باطن تأويل .

القول في تأويل قوله تعالى : وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النّارِ .

يعني تعالى ذكره بذلك : وما هؤلاء الذين وصفتهم من الكفار وإن ندموا بعد معاينتهم ما عاينوا من عذاب الله ، فاشتدّت ندامتهم على ما سلف منهم من أعمالهم الخبيثة ، وتمنوا إلى الدنيا كرّةً لينيبوا فيها ، ويتبرّءوا من مضليهم وسادتهم الذين كانوا يطيعونهم في معصية الله فيها ، بخارجين من النار التي أصلاهموها الله بكفرهم به في الدنيا ، ولا ندمهم فيها بمنجيهم من عذاب الله حينئذ ، ولكنهم فيها مخلدون . وفي هذه الآية الدلالة على تكذيب الله الزاعمين أن عذاب الله أهل النار من أهل الكفر منقض ، وأنه إلى نهاية ، ثم هو بعد ذلك فانٍ لأن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الآية ، ثم ختم الخبر عنهم أنهم غير خارجين من النار بغير استثناء منه وقتا دون وقت ، فذلك إلى غير حدّ ولا نهاية .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ لَوۡ أَنَّ لَنَا كَرَّةٗ فَنَتَبَرَّأَ مِنۡهُمۡ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّاۗ كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ ٱللَّهُ أَعۡمَٰلَهُمۡ حَسَرَٰتٍ عَلَيۡهِمۡۖ وَمَا هُم بِخَٰرِجِينَ مِنَ ٱلنَّارِ} (167)

قوله : { وقال الذين اتبعوا } أظهر في مقام الإضمار لأن ضميري الغيبة اللذيْن قبله عائدان إلى مجموع الفريقين ، على أن في صلة { الذين اتبعوا } تنبيهاً على إغاظة المتبوعين وإثارة حسرتهم وذلك عذاب نفساني يضاعِفُ العذاب الجثماني وقد نبه عليه قوله : { كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم } .

و ( لو ) في قوله : { لو أن لنا كرة } مستعملة في التمني وهو استعمال كثير لحرف ( لو ) وأصلها الشرطية حُذف شرطها وجوابُها واستعيرت للتمني بعلاقة اللزوم لأن الشيء العسير المَنال يكثر تمنيه ، وسَدَّ المصدر مسد الشرط والجواب ، وتقدير الكلام لو ثبتت لنا كرة لتبرأنا منهم وانتصب ما كان جواباً على أنه جواب التمني وشاع هذا الاستعمال حتى صار من معاني لو وهو استعمال شائع وأصله مجاز مرسل مركب وهو في الآية مرشح بنصب الجواب .

والكَرَّة الرَّجعة إلى محل كان فيه الراجع وهي مرة من الكر ولذلك تطلق في القرآن على الرجوع إلى الدنيا لأنه رجوع لمكان سابق ، وحذف متعلِّق ( الكرة ) هنا لظهوره .

والكاف في كما تبرءوا للتشبيه استعملت في المجازاة لأن شأن الجزاء أن يماثل الفعل المجازي قال تعالى : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } [ الشورى : 40 ] ، وهذه الكاف قريبة من كاف التعليل أو هي أصلها وأحسن ما يظهر فيه معنى المجازاة في غير القرآن قول أبي كبير الهذلي

أهُزُّ بهِ في ندوة الحي عطفه *** كما هَزَّ عِطفي بالهِجان الأوارك

ويمكن الفرق بين هذه الكاف وبين كاف التعليل أن المذكور بعدها إن كان من نوع المشبه كما في الآية وبيت أبي كبير جُعلت للمجازاة ، وإن كان من غير نوعه وما بعد الكاف باعثٌ على المشبه كانت للتعليل كما في قوله تعالى : { واذكروه كما هداكم } [ البقرة : 198 ] .

والمعنى أنهم تمنوا أن يعودوا إلى الدنيا بعدما علموا الحقيقة وانكشف لهم سوء صنيعهم فيدعوهم الرؤساء إلى دينهم فلا يجيبونهم ليَشفوا غيظهم من رؤسائهم الذين خذلوهم ولتحصل للرؤساء خيبة وانكسار كما خيبوهم في الآخرة .

فإن قلت هم إذا رجعوا رجعوا جميعاً عالمين بالحق فلا يدعوهم الرؤساء إلى عبادة الأوثان حتى يمتنعوا من إجابتهم ، قلتُ باب التمني واسع فالأتباع تمنوا أن يعودوا إلى الدنيا عالمين بالحق ويعود المتبوعون في ضلالهم السابق وقد يقال اتهم الأتباع متبوعيهم بأنهم أضلوهم على بصيرة لعلمهم غالباً والأتباع مغرورون لجهلهم فهم إذا رجعوا جميعاً إلى الدنيا رجع المتبوعون على ما كانوا عليه من التضليل على علم بناء على أن ما رأوه يوم القيامة لم يزعهم لأنهم كانوا من قبل موقنين بالمصير إليه ورجع الأتباع عالمين بمكر المتبوعين فلا يطيعونهم .

وجملة { كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم } تذييل وفذلكة لقصة تبَري المتبوعين من أتباعهم .

والإشارة في قوله : { كذلك يريهم الله } للإراءة المأخوذة من { يريهم } على أسلوب { وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً } [ البقرة : 143 ] .

والمعنى أن الله يريهم عواقب أعمالهم إراءً مثل هذا الإراءِ إذ لا يكون إراءٌ لأعمالهم أوقعَ منه فهو تشبيه الشيء بنفسه باختلاف الاعتبار كأنه يُرام أن يريهم أعمالهم في كيفية شنيعة فلم يوجد أشنعُ من هذه الحالة ، وهذا مثل الإخبار عن المبتدأ بلفظه في نحو شِعْرِي شِعْرى ، أو بمرادفه نحو والسفاهة كاسمها ، وقد تقدم تفصيله عند قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً } .

والإراءة هنا بصرية ولذلك فقوله : { حسرات عليهم } حال من { أعمالهم } ومعنى { يريهم الله أعمالهم } يريهم ما هو عواقب أعمالهم لأن الأعمال لا تدرك بالبصر لأنها انقضت فلا يحسُّون بها .

والحسرة حزن في ندامة وتلهف وفعله كفرِح واشتقاقها من الحَسْر وهو الكشف لأن الكشف عن الواقع هو سبب الندامة على ما فات من عدم الحيطة له .

وقوله : { وما هم بخارجين من النار } حال أو اعتراض في آخر الكلام لقصد التذييل لمضمون { كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم } لأنهم إذا كانوا لا يخرجون من النار تعيَّن أن تمنيهم الرجوع إلى الدنيا وحدوثَ الخيبة لهم من صنع رؤسائهم لا فائدة فيه إلاّ إدخالُ ألم الحسرات عليهم وإلاّ فهم باقون في النار على كل حال .

وعُدل عن الجملة الفعلية بأن يقال « وما يخرجون » إلى الاسمية للدلالة على أن هذا الحكم ثابت أنه من صفاتهم ، وليس لتقديم المسند إليه هنا نكتة ، إلاّ أنه الأصل في التعبير بالجملة الإسمية في مثل هذا إذ لا تتأتَّى بسوى هذا التقديم ، فليس في التقديم دلالة على اختصاص لما علمت ولأن التقديم على المسند المشتق لا يفيد الاختصاص عند جمهور أئمة المعاني ، بل الاختصاص مفروض في تقديمه على المسند الفعلي خاصة ، ولأجل ذلك صرح صاحب « الكشاف » تبعاً للشيخ عبد القاهر بأن موقع الضمير هنا كموقعه في قول المعذَّل البكري :

هْم يَفْرِشُون اللِّبْد كُلَّ طِمِرَّةٍ *** وأجرَدَ سَبَّاقٍ يَبُذ المُغَالِيا

في دلالته على قوة أمرهم فيما أسند إليهم لا على الاختصاص اهـ .

وادعى صاحب « المفتاح » أن تقديم المستند إليه على المسند المشتق قد يفيد الاختصاص كقوله تعالى : { وما أنت علينا بعزيز } [ هود : 91 ] { وما أنا بطارد الذين أمنوا } [ هود : 29 ] { وما أنت عليهم بوكيل } [ الأنعام : 107 ] فالوجه أن تقديم المسند إليه على المسند المشتق لا يفيد بذاته التخصيص وقد يستفاد من بعض مواقعه مَعنى التخصيص بالقرائن ، وليس في قوله تعالى : { وما هم بخارجين من النار } . ما يفيد التخصيص ولا يدعو إليه .