اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ لَوۡ أَنَّ لَنَا كَرَّةٗ فَنَتَبَرَّأَ مِنۡهُمۡ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّاۗ كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ ٱللَّهُ أَعۡمَٰلَهُمۡ حَسَرَٰتٍ عَلَيۡهِمۡۖ وَمَا هُم بِخَٰرِجِينَ مِنَ ٱلنَّارِ} (167)

قوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ } ، يعني : الأَتْبَاع : { لَوْ أَنْ لنَا كَرَّةً } أي : رجعةً إلى الدُّنيا ، والكرَّةُ : العودَة ، وفِعْلُها كَرَّ يَكُرُّ كَرّاً ؛ قال القائل في ذلك : [ الوافر ]

884 - أَكُرُّ عَلَى الْكِتيبَةِ لاَ أُبَالِي *** أَفِيهَا كَانَ حَتْفِي أَمْ سِوَاهَا{[16]}

قوله تعالى : " فَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ " منصوبٌ بعد الفاءِ ب " أنْ " مضمرة في جواب التمنِّي الَّذي أُشْرِبَتْهُ " لَوْ " ولذلك أجيبت بجواب " لَيْتَ " الذي في قوله : { يا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً } [ النساء : 73 ] وإذا أُشْرِبَتْ معنى التمنِّي ، فهلْ هي الامتناعيَّةُ المفتقرة إلى جوابٍ ، أم لا تحتاجُ إلى جوابٍ .

الصحيحُ : أنها تحتاجُ إلى جوابٍ ، وهو مقدّر في الآية الكريمة تقديرُهُ تَبَرَّأْنَا ونحو ذلك ، وأَمَّا مَنْ قال بأنَّ " لَو " الَّتي للتمنِّي لا جوابَ لها ؛ فاستدَلَّ بقول الشَّاعر : [ الوافر ]

885 - وَلَوْ نُبِشَ المَقَابِرُ عَنْ كُلَيْبٍ *** فَيُخْبَرَ بالذَّنائِبِ أَيُّ زِيرِ{[17]}

وهذا لا يدلُّ فإنَّ جوابها في البيتِ بعده ، وهو قوله [ الوافر ]

886 - بِيَوْمِ الشَّعْثَمَين ، لَقَرَّ عَيْناً *** وَكَيْفَ لِقَاءُ مَنْ تَحْتَ الْقُبُورِ{[18]}

واستدلَّ أيضاً بأنَّ " أَنْ " تُفْتَحُ بعْد " لَوْ " ؛ كما تفتحُ بَعْد لَيْتَ في قوله [ الرجز ]

887 - يَا لَيْتَ أَنَّا ضَمَّنَا سَفِينَهْ *** حَتَّى يَعُودَ الْبَحْرُ كَيَّنُونَهْ{[19]}

وها هنا فائدة ينبغي أنْ يُنْتَبَهَ لها ، وهيَ : أَنَّ النُّحاة قالُوا : كلُّ موضعٍ نُصِبَ فيه المضارعُ بإضمار " أنْ " بعد الفَاءِ [ إذا سقَطَتِ الفاءُ ، جزم إلاَّ في النَّفسِ ، ينبغي أن يزاد هذا الموضع أيضاً ؛ فيقال : و " إلاَّ " في جواب التَّمَنِّي ب " لَوْ " ؛ فإنَّه ينصب المضارع فيه بإضمار " أَنْ " بعد الفاء الواقعة جواباً له ، ومع ذلك ، لو سَقَطَتْ هذه الفاءُ ]{[20]} لم يُجزم .

قال أَبُو حَيَّانَ{[21]}والسَّبب في ذلك : أَنَّها محمولةٌ على حَرْف التمنِّي ، وهو " لَيْتَ " والجزمُ في جواب " لَيْتَ " إنما هو لتضمنها معنى الشَّرْط ، أو لدلاَلَتها على كونه محذوفاً على اختلاف القولَيْن ؛ فصارت " لَوْ " فَرَعَ الفَرْعِ ، فضَعُفَ ذلك فيها .

وقيلَ : " لَوْ " في هذه الآية الكريمة ونظَائِرِها لِما كانَ سيقعُ لِوُقُوع غيره ، وليس فيها معنى التمنِّي ، والفعلُ منصوب ب " أَنْ " مضمرَة ؛ على تأويل عَطف اسْمٍ على اسمٍ ، وهو " كَرَّة " والتقديرُ : " لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً ، فنتبرَّأَ " فهو مِنْ باب قوله : [ الوافر ]

888 - لَلُبْسُ عَباءَةٍ وَتَقَرَّ عَيْنِي *** . . . {[22]}

ويكون جواب " لَوْ " محذوفاً أيضاً ؛ كما تقدَّم .

وقال أبو البقاء{[23]} رحمه الله تعالى : " فَنَتَبَرَّأَ " منصوبٌ بإضمارِ " أَنْ " ، تقديره : { لَوْ أَنَّ لَنَا أنْ نَرْجِعَ فَنَتَبَرَّأَ } فحلَّ " كرَّة " إلى قوله : " أَنْ نَرْجِعَ " ؛ لأنَّه بمعناه ، وهو قريبٌ ، إلاَّ أنَّ النحاة يأوّلون الفعل المنصوب بمصدرٍ ؛ ليعطفُوه على الاسم قَبْله ، ويتركُون الاسم على حالِهِ ؛ وذلك لأنه قد يكُون اسْماً صَرِيحاً غير مَصْدر ؛ نحو " لَوْلاَ زَيْدٌ وَيَخْرُج ، لأَكْرَمْتُكَ " فلا يتأتَّى تأويله بحرفٍ مصدريٍّ وفعلٍ .

قولُهُ تعالى : " كَمَا " الكافُ في موضعها نصبٌ : إِمَّا على كونها نعت مصدرٍ محذوف ، أي : " تَبَرُّؤاً " وإِمَّا على الحال مِنْ ضمير المصدر المعرَّف المحذوف أي " نتبرّأهُ ، أي : التَّبَرُّؤَ ، مُشَابِهاً لِتَبَرُّئِهِمْ " ؛ كما تقرَّر غير مرَّة .

وقال ابن عطيَّة : الكاف في قوله : " كَمَا " في موضع نصب على النَّعت : إمّا لِمَصدرٍ : أو لحال ، تقديره : مُتَبَرِّئِينَ ، كما قال أبو حَيَّان . أمَّا قوله " لِحَالٍ " تقديرُهُ : " مُتَبَرِّئِينَ كما " فغيرُ واضحٍ ، لأنَّ " ما " مصدرية ، فصارتِ الكافُ الداخلة عليها مِن صفات الأَفعال و " مُتَبرِّئين " : من صفات الأَعْيَان ، فكيف يُوصف بصفات الأَفعال .

قال : وأَيضاً لا حاجة لتقدير هذه الحال ، لأنَّها إذ ذاك تكون حالاً مؤكِّدة ، وهي خلافُ الأَصل ، وأيضاً : فالمؤكَّد ينافِيهِ الحَذفُ ؛ لأنَّ التوكيد يُقَوِّيه ، فالحَذْفُ يناقضه .

فصل في معنى التبرؤ

قال ابن الخطيب{[24]} - رحمه الله - قولهم : { لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا } ذلك تمنٍّ منهم للرجعة إلى الدُّنْيا ، وإلى حال التَّكليف ، ويكون الاختيارُ لهم ؛ حَتَّى يتبرءوا منهم في الدُّنيا ، كما تبرءوا يَوْمَ القيامة منهم ومفهوم الكلام : أَنَّهُمْ تمنَّوا لهم في الدُّنيا ما يُقَاربُ العذابَ ، فيتبرّءُونَ منهم ، ولا يخلصونهم ، كما فعلوا بهم يومَ القيامة ، وتقديرُه : فلو أنَّ لنا كَرَّةً فنتبرَّأَ منهم ، وقد دَهَمَهُمْ مثلُ هذا الخَطْب ، كما تبرءوا منَّا ، والحالُ هذه ؛ لأنَّهم إِنْ تَمَنَّوا التبرُّؤ منهم ، مع سلامةٍ ، فأيُّ فائدة ؟ .

قال القُرطبي : التبرُّؤُ : الانفصال{[25]} .

قوله تعالى : { كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ } في هذه " الكافِ " قولان :

أحدهما : أنَّ موضعها نصبٌ : إِمَّا نعتُ مصدرٍ محذوفٍ ، أو حالاً من المَصدر المعرَّفِ ، أي : يُريهمْ رؤية كذلك ، أو يَحْشُرُهُمْ حَشْراً كَذَلِكَ ، أوْ يَجزِيهم جَزَاءً كذلك ، أو يُريهم الإراءة مشبهةً كذلك ونحو هذا .

الثاني : أن يكون في موضع رفع ، على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : الأمر كذلك ، أو حَشْرُهُمْ كذلك ، قاله أبو البقاء{[26]} .

قال أبو حيَّان{[27]} : وهو ضعيفٌ ؛ لأنَّه يقتضي زيادة الكاف ، وحذف مبتدأ ، وكلاهما على خلاف الأَصل والإشارة بذلك إلى رأيهم تلك الأهوال والتقديرُ : مثل إراءتهم الأهوال ، يريهمُ اللَّهُ أعمالَهُمْ حسَرَاتٍ .

وقيل : الإشارةُ إلى تبرُّؤ بعضهم من بعض والتقديرُ : كَتَبَرُّؤ بعضهم من بعض ، يريهمُ اللَّهُ أعمالهُم حسَراتٍ عليهم ؛ وذلك لانقطاع الرَّجَاء منْ كُلِّ أحدٍ .

والرؤيةُ تحتملُ وجهَين :

أحدهما : أن تكون بَصَريَّة ، فتتعدّى لاثنين بنقل الهمزة أولهُما الضميرُ ، والثاني " أَعْمَالَهُمْ " و " حَسَرَاتٍ " على هذا حالٌ مِنْ " أَعْمَالَهُمْ " .

والثاني : أَنْ تكونُ قلبيَّةً ؛ فتتعدَّى لثلاثةٍ ؛ ثالثُها " حَسَرَاتٍ " و " عَلَيْهِمْ " يجوزُ فيه وجْهَان :

أن يتعلَّق ب " حَسَرَاتٍ " ؛ لأنَّ " يحْسَرُ " يُعدَّى ب " عَلَى " ويكونُ ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ . أي : على تَفْرِيطهِمْ .

والثاني : أنْ يتعلَّق بمحذوف ؛ لأنَّها صفةٌ ل " حَسَرَاتٍ " ، فهي في محلّ نصْبٍ ؛ لكونها صفةً لمنصوبٍ .

فصل في المراد ب " الأعمال " في الآية

اختلفوا في المراد بالأََعمالِ .

فقال السُّدِّيُّ : الطاعاتُ ، لِمَ ضَيَّعُوها ؟ وقال الربيعُ وابنُ زَيْدٍ ، المعاصي والأَعْمَال الخبيثَةُ يتحسَّرون لِمَ عَمِلُوها{[28]} ؟

وقال الأَصَمُّ : ثوابُ طاعاتهم الَّتي أتَوْا بها ، فأحْبَطُوها بالكُفْرِ ، قال السُّدِّيُّ : تُرفع لهم الجَنَّة ، فينظرُون إليها وإلى بيوتهم فيها ، لو أطاعُوا الله ، فيقال لهم : تِلْكَ مساكنُكمْ ، لو أطعتُمُ الله تعالى ، ثمَّ تقسَّم بين المؤمِنين ، فذلك حين يتحسَّرُون .

وقيل : أعمالُهُمْ الَّتي تقرَّبوا بها إلى رؤسائهم والانقياد لأَمرهم ، قال ابن كَيْسَان : إِنَّهُمْ أشركُوا بالله الأوثان ، رجاءَ أن تقرِّبهم إلى الله تعالى ، فلما عُذِّبوا على ما كانوا يَرْجُون ثوابه ، تحسَّروا ونَدِمُوا .

قال ابن الخطيب{[29]} : والظاهرُ أنَّ الأعمال الَّتي اتَّبَعُوا فيها السَّادَة ، وهو كُفْرُهُم . ومعاصِيهِمْ ، وإنما تكون حَسْرةً بأن رأوها في صحيفَتهِمْ ، وأيقنوا بالجزاءِ عليها ، وكان يمكنُهُمْ تركُها ، والعدولُ إلى الطَّاعات ، وفي هذا الوجه الإضافة وفي الثاني : مجازٌ بمعنى لزومِهِم ، فَلَمْ يَقُومُوا بها . و " الحَسْرَة " واحدةُ الحَسَرَاتِ ؛ كَتَمْرَةٍ وَتَمَرَاتٍ ، وَجَفْنَةٍ وَجَفَنَاتٍ وشَهْوَةٍ وشَهَوَاتٍ .

هذا إذا كان اسماً . [ فإنْْ ] نَعتَّهُ سكَّنت ؛ كقوله ضَخْمَة وضَخْمَات وعَبْلَة وعَبْلاَت نقله القرطبي{[30]} رحمه الله تعالى قال الزَّجَّاج : هي شِدَّة الندامة ، وهو تألُّم القَلب بانحسارِهِ عمّا تؤلمه واشتقاقها إِمَّا من قولهم : بعير حَسيرٌ أي منقطعُ القوَّة والحُسُور الإِعياء ، وقال تبارك وتعالى : { لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ } [ الأنبياء : 19 ] أو من الحسر وهو الكشف يقال : حسر عن ذراعيه ، والحسرة : انشكافٌ عن حالة النَّدَامة ؛ [ والمحسرة ]{[31]} المنكسة ؛ لأنها تكشف عن الأرض ؛ والطير تنحسر لأنها تنكشف بذهاب الريش .

قوله تعالى : { وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } .

احتجَّ به على أن أصحاب الكبائِرِ منْ أهْل القبلة يخرجُون من النَّار ، فقالوا :

لأنَّ قوله : " وَمَا هُمْ " تخصيصٌ لهم بعَدَم الخروج على سبيل الحَصر ؛ فوجب أن يكُون عدَمُ الخروج مخصُوصاً بهم ، وهذه الآية الكريمة تكشف عن المراد بقوله : { وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ } [ الانفطار : 14 - 16 ] فبيَّن أنَّ المراد بالفُجَّار ها هنا الكفَّار ؛ لدلالة هذه الآية الكريمة عليه والله أعلم .


[16]:ينظر: الدر المصون 2/35.
[17]:ينظر: السبعة 200، والكشف 1/334، والحجة، 3/6 والبحر المحيط 2/389، والدر المصون 2/5.
[18]:قال سيبويه 3/25 "فإن قلت: ما بالي أقول: واحد اثنان، فأشم الواحد، ولا يكون ذلك في هذه الحروف فلأن الواحد اسم متمكن، وليس كالصوت، وليست هذه الحروف مما يدرج وليس أصلها الإدراج...".
[19]:ينظر: المشكل 1/ 123.
[20]:ينظر: الكتاب 2/107.
[21]:ينظر: البحر المحيط 2/391.
[22]:سقط في ب.
[23]:ينظر: الدر المصون 2/6.
[24]:ينظر ديوانه ص 216، ولسان العرب (ثور)، وخزانة الأدب 7/210، ورصف المباني ص 41 والمصنف 1/68، والدر المصون 2/6.
[25]:قرأ بها عيسى بن عمر كما في الشواذ 129، وستأتي في سورة "ص" آية 1،2.
[26]:تقدمت.
[27]:سقط في أ.
[28]:سقط في أ.
[29]:ينظر: المشكل 1/123.
[30]:ينظر: الكتاب 3/324.
[31]:ينظر:الإملاء 1/ 122.