الكرّة : العودة إلى الحالة التي كان فيها ، والفعل كر يكر كراً ، قال الشاعر :
أكر على الكتيبة لا أبالي *** أحتفي كان فيها أم سواها
الحسرة : شدة الندم ، وهو تألم القلب بانحساره عن مأموله .
{ وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا } ، المعنى : أنهم تمنوا الرجوع إلى الدنيا حتى يطيعوا الله ويتبرؤوا منهم في الآخرة إذا حشروا جميعاً ، مثل ما تبرأ المتبوعون أولاً منهم .
قيل : وليست التي لما كان سيقع لوقوع غيره ، ولذلك جاء جوابها بالفاء في قوله : { فنتبرأ } ، كما جاء جواب ليت في قوله : { يا ليتني كنت معهم فأفوز } ، وكما جاء في قول الشاعر :
فلو نبش المقابر عن كليب *** فتخبر بالذنائب أي زير
والصحيح أن لو هذه هي التي لما كان سيقع لوقوع غيره ، وأشربت معنى التمني ، ولذلك جاء بعد هذا البيت جوابها ، وهو قوله :
بيوم الشعثمين لقر عيناً *** وكيف لقاء من تحت القبور
وأن مفتوحة بعد لو ، كما فتحت بعد ليت في نحو قوله :
يا ليت أنا ضمنا سفينه *** حتى يعود البحر كينونه
وينبغي أن يستثنى من المواضع التي تنتصب بإضمار أن بعد الجواب بالفاء ، وأنها إذا سقطت الفاء ، انجزم الفعل هذا الموضع ، لأن النحويين إنما استثنوا جواب النفي فقط ، فينبغي أن يستثنى هذا الموضع أيضاً ، لأنه لم يسمع الجزم في الفعل الواقع جواباً للو التي أشربت معنى التمني إذا حذفت الفاء .
والسبب في ذلك أن كونها مشربة معنى التمني ، ليس أصلها ، وإنما ذلك بالحمل على حرف التمني الذي هو ليت .
والجزم في جواب ليت بعد حذف الفاء ، إنما هو لتضمنها معنى الشرط ، أو دلالتها على كونه محذوفاً بعدها ، على اختلاف القولين ، فصارت لو فرع فرع ، فضعف ذلك فيها .
والكاف في كما : في موضع نصب ، إما نعتاً لمصدر محذوف ، أو على الحال من ضمير المصدر المحذوف على القولين السابقين ، في غير ما موضع من هذا الكتاب .
وما في كما : مصدرية ، التقدير : تبرأوا مثل تبرئهم ، أو فنتبرأه ، أي فنتبرأ التبرؤ مشابهاً لتبرئهم .
وقال ابن عطية : الكاف من قوله : كما في موضع نصب على النعت ، إما لمصدر ، أو لحال ، تقديرها : متبرئين .
أما قوله على النعت ، إما لمصدر ، فهو كلام واضح ، وهو الإعراب المشهور في مثل هذا .
وأما قوله : أو لحال ، تقديرها : متبرئين كما ، فغير واضح ، لأنا لو صرحنا بهذه الحال ، لما كان كما منصوباً على النعت لمتبرئين ، لأن الكاف الداخلة على ما المصدرية هي من صفات الفعل ، لا من صفات الفاعل .
وإذا كان كذلك ، لم ينتصب على النعت للحال ، لأن الحال هنا من صفات الفاعل ، ولا حاجة لتقدير هذه الحال ، لأنها إذ ذاك تكون حالاً مؤكدة ، ولا نرتكب كون الحال مؤكدة إلا إذا كانت ملفوظاً بها .
أما أن تقدر حالاً ونجعلها مؤكدة ، فلا حاجة إلى ذلك .
وأيضاً فالتوكيد ينافي الحذف ، لأن ما جيء به لتقوية الشيء لا يجوز حذفه أيضاً .
فلو صرح بهذه الحال ، لما ساغ في كما إلا أن تكون نعتاً لمصدر محذوف ، أو حالاً من الضمير المستكن في الحال المصرّح بها ، مثال ذلك : هم محسنون إليّ كما أحسنوا إلى زيد .
فكما أحسنوا ليس من صفات محسنين ، إنما هو من صفات الإحسان ، التقدير : على الإعراب المشهور إحساناً مثل إحسانهم إلى زيد .
{ كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم } : الكاف عند بعضهم في موضع رفع ، وقدروه الأمر كذلك ، أو حشرهم كذلك ، وهو ضعيف ، لأنه يقتضي زيادة الكاف وحذف مبتدأ ، أو كلاهما على خلاف الأصل .
والظاهر أن الكاف على بابها من التشبيه ، وأن التقدير مثل إراءتهم تلك الأهوال ، { يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم } ، فيكون نعتاً لمصدر محذوف ، فيكون في موضع نصب .
وجعل صاحب المنتخب ذلك من قوله : كذلك ، إشارة إلى تبرؤ بعضهم من بعض .
والأجود تشبيه الآراءة بالآراءة ، وجوزوا في يريهم أن تكون بصرية عديت بالهمزة ، فتكون حسرات منصوباً على الحال ، وأن تكون قلبية ، فتكون مفعولاً ثالثاً ، قالوا : ويكون ثم حذف مضاف ، أي على تفريطهم .
وتحسر : يتعدى بعلى ، تقول : تحسرت على كذا ، فعلى هنا متعلقة بقوله : حسرات .
ويحتمل أن تكون في موضع الصفة ، فالعامل محذوف ، أي حسرات كائنة عليهم ، وعلى تشعر بأن الحسرات مستعلية عليهم .
وأعمالهم ، قيل : هي الأعمال التي صنعوها ، وأضيفت إليهم من حيث عملوها ، وأنهم مأخوذون بها .
وهذا على قول من يقول : إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ، وهذا معنى قول الربيع وابن زيد : أنها الأعمال السيئة التي ارتكبوها ، فوجب بهم بها النار .
وقال ابن مسعود والسدّي : المعنى أعمالهم الصالحة التي تركوها ، ففاتتهم الجنة ، وأضيفت إليهم من حيث كانوا مأمورين بها .
قال السدي : ترفع لهم الجنة فينظرون إلى بيوتهم فيها ، لو أطاعوا الله تعالى ، فيقال لهم : تلك مساكنكم لو أطعتم الله تعالى ، ثم تقسم بين المؤمنين فيرثونهم ، فذلك حين يندمون .
وهذا معنى قول بعضهم ، إن أعمالهم قد أحبط ثوابها كفرهم ، لأن الكافر لا يثاب مع كفره .
ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم ، " وقد ذكر له أن ابن جدعان كان يصل الرحم ويطعم المسكين ، وسئل : هل ذلك نافعه ؟ قال : «لا ينفعه ، إنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين " ، ومنه قوله تعالى : { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً } وقيل : المعنى أعمالهم التي تقربوا بها إلى رؤسائهم من تعظيمهم والانقياد لأمرهم .
والظاهر أنها الأعمال التي اتبعوا فيها رؤساءهم وقادتهم ، وهي الكفر والمعاصي .
وكانت حسرة عليهم ، لأنهم رأوها مسطورة في صحائفهم ، وتيقنوا الجزاء عليها ، وكان يمكنهم تركها والعدول عنها ، لو شاء الله .
{ وما هم بخارجين من النار } : هذا يدل على دخول النار ، إذ لا يقال : ما زيد بخارج من كذا إلا بعد الدخول .
ولم يتقدم في الآية نص على دخولهم ، إنما تقدم رؤيتهم العذاب ومفاوضة بسبب تبرؤ المتبوعين من الأتباع ، وجاء الخبر مصحوباً بالباء الدالة على التوكيد .
وقال الزمخشري : هم بمنزلته في قوله :
في دلالته على قوة أمرهم فيما أسند إليهم ، لا على الاختصاص .
انتهى كلامه ، وفيه دسيسة اعتزال ، لأنه إذا لم يدل على الاختصاص ، لا يكون فيه رد لقول المعتزلة ، إن الفاسق يخلد في النار ولا يخرج منها .
وأما قول صاحب المنتخب : إن الأصحاب احتجوا على أن صاحب الكبيرة من أهل القبلة ، إلى آخر كلامه ، فهو غير مسلم ، ولا دلالة في الآية على شيء من المذهبين .
لأنك إذا قلت : ما زيد بمنطلق ، وإنما في ذلك دلالة على نفي انطلاق زيد ، وأما أن في ذلك دلالة على اختصاصه بنفي الانطلاق ، أو مشاركة غيره له في نفي الانطلاق ، فلا إنما يفهم ذلك ، أعني الاختصاص ، بنفي الخروج من النار ، إذ المشاركة في ذلك من دليل خارج ، وهل النفي إلا مركب على الإيجاب ؟ فإذا قلت : زيد منطلق ، فليس في هذا دليل على شيء من الاختصاص ، ولا شيء من المشاركة ، فكذلك النفي ، وكونه قابلاً للخصومة والاشتراك ، يدل على ذلك .
ألا ترى أنك تقول : زيد منطلق لا غيره ، وزيد منطلق مع غيره ؟ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.