الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ لَوۡ أَنَّ لَنَا كَرَّةٗ فَنَتَبَرَّأَ مِنۡهُمۡ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّاۗ كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ ٱللَّهُ أَعۡمَٰلَهُمۡ حَسَرَٰتٍ عَلَيۡهِمۡۖ وَمَا هُم بِخَٰرِجِينَ مِنَ ٱلنَّارِ} (167)

قوله تعالى { فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ } : منصوبٌ بعد الفاء بِأَنْ مضمرةً في جواب التمني الذي أُشْرِبته " لو " ، ولذلك أُجيبت بجواب " ليت " الذي في قوله : يا ليتني كنتُ معهم فأفوز " ، وإذا أُشْرِبَتْ معنى التمني فهل هي الامتناعيةُ المفتقرةُ إلى جوابٍ أم لا تحتاجُ إلى جوابٍ ؟ الصحيحُ أنها تحتاجُ إلى جوابٍ ، وهو مقدَّرٌ في الآيةِ تقديرُه : لتبرَّأنا ونحوُ ذلك . وقيل : " لو " في هذه الآيةِ ونظائرها لِما كان سَيَقَعُ لوقوع غيره ، وليس فيها معنى التمني ، والفعلُ منصوبٌ ب " أَنْ " مضمرةً على تأويلِ عَطْفِ اسم على اسم وهو " كَرَّة " والتقديرُ : لو أنَّ لنا كرةً فتبرُّؤاً فهو من باب قوله :

لَلُبْسُ عباءةٍ وتَقَرَّ عيني *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ويكونُ جواب لو محذوفاً أيضاً كما تقدَّم . وقال أبو البقاء : " فنتبرأ " منصوبٌ بإضمار أنْ تقديرُه : لو أنّ لنا أن نرجِع فنتبرأ " فَحَلَّ " كرة " إلى قولِه " أَنْ نَرْجِعَ " لأنه بمعناه وهو قريبٌ ، إلاَّ أنَّ النَّحْويين يُؤَوِّلون الفعلَ المنصوبَ بمصدرٍ ليَعْطِفُوهُ على الاسم قبلَه ، ويتركون الاسمَ على حالِه ، وذلك لأنه قد يكونُ اسماً صريحاً غير مصدرٍ نحو : " لولا زيدٌ ويخرج لأكرمتُك " فلا يتأتّى تأويله بحرف مصدري وفعلٍ . والقائل بأنّ " لو " التي للتمني لا جوابَ لها استدلَّ بقول الشاعر :

فلو نَبْشُ المقابرِ عن كُلَيْبٍ *** فَتُخْبَر بالذَّنائِبِ أيُّ زُورِ

وهذا لا يَصِحُّ فإنَّ جوابَها في البيتِ بعدَه وهو قولُه :

بيومِ الشَّعْثَمَيْنِ لقَرَّ عيناً *** وكيف لقاءُ مَنْ تحتَ القبورِ

واستدلَّ هذا القائلُ أيضاً بأنَّ " أنَّ " تُفْتَحُ بعد " لو " كما تُفْتَحُ بعدَ ليت في قولِه :

يا ليتَ أنَّا ضَمَّنا سَفينَهْ *** حتَّى يعودَ البحرُ كَيَّنُونَهْ

وههنا فائدةٌ ينبغي أن يُنتبه لها وهي : أنَّ النحاة قالوا : " كلُّ موضعٍ نُصِبَ فيه المضارعُ بإضمارِ أَنْ بعد الفاء إذا سَقَطَت الفاءُ جُزِم إلا في النفي " ، [ و ] ينبغي أَنْ يُزادَ هذا الموضعُ أيضاً فيُقال : وإلا في جوابِ التمني ب " لو " ، فإنَّه يُنْصبُ المضارع فيه بإضمار " أَنْ " بعدَ الفاء الواقعةِ جواباً له ، ومع ذلك لو سَقَطَت هذه الفاءُ لم يُجْزَمْ . قال الشيخ : " والسببُ في ذلك أنها محمولةٌ على حرف التمني وهو ليت ، والجزمُ في جوابِ ليت إنما هو لتضَمُّنِها معنى الشرط أو لدلالتِها على كونِه محذوفاً على اختلافِ القولين فصارت " لو " فرع الفرع ، فَضَعُفَ ذلك فيها .

قوله : " كما " الكافُ موضعُها نصبٌ : إمَّا على كونِها نعتَ مصدرٍ محذوفٍ ، أي : تبرُّؤاً مثلَ تبرئتهم ، وإمَّا على الحالِ من ضمير المصدر المُعرَّفِ المحذوفِ أي : نتبَّرؤه - أي التبرؤ - مشابهاً لتبرئتهم ، كما تقدَّم تقريره غيرَ مرةٍ .

وقال ابنُ عطية : " الكافُ في قوله " كما " في موضعِ نصبٍ على النعت : إمَّا لمصدرٍ أو لحالٍ تقديرُه : متبرئين كما " . قال الشيخ : " وأمّاً قولُه " لحال تقديرُه متبرئين كما " فغيرُ واضحٍ ، لأنَّ " ما " مصدريةٌ فصارَتِ الكافُ الداخلةُ عليها من صفاتِ الأفعال ، ومتبرئين من صفاتِ الأعيانِ فكيف يُوصف بصفاتِ الأفعالِ " قال : " وأيضاً لا حاجةَ لتقدير هذه الحال ؛ لأنها إذ ذاك تكونُ حالاً مؤكدةً ، وهي خلافُ الأصلِ ، وأيضاً فالمؤكَّد ينافيه الحذفُ لأنَّ التأكيدَ يُقَوِّيه فالحَذْفُ يناقِضُه " .

قوله : { كَذَلِكَ يُرِيهِمُ } في هذه الكافِ قولان ، أحدُهما : أنَّ موضعَها نصبٌ : إمَّا نعتَ مصدرٍ محذوفٍ ، أو حالاً من المصدرِ المعرَّفِ ، أي : يُريهم رؤيةً كذلك ، أو يَحْشُرهم حشراً كذلك ، أو يَجْزيهم جزاءً كذلك ، أو يُريهم الإِراءةَ مشبهةً كذلك ونحوُ هذا . والثاني : أن يكونَ موضعُها رفعاً على انه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي : الأمرُ كذلك أو حَشْرُهم كذلك قاله أبو البقاء . قال الشيخ : " وهو ضعيفٌ لأنه يقتضي زيادةَ الكافَ وحَذْفَ مبتدأ ، وكلاهما على خلاف الأصل " . والإِشارةُ بذلك إلى إرءَتِهم تلك الأهوال ، والتقدير : مثلَ إراءتهم الأهوال يُريهم اللهَ أعمالهم حسراتٍ ، وقيل : الإِشارة إلى تبرؤ بعضِهم مِنْ بعضٍ .

والرؤيةُ هنا تحتملُ وَجْهَيْن ، أحدُهما : أن تكونَ بصريةً ، فتتعدَّى لاثنين بنقل الهمزة ، أولُهُما الضميرُ والثاني " أعمالَهم " و " حسراتٍ " على هذا حالٌ من " أعمالهم " . والثاني : أن تكون قلبية ، فتتعدَّى لثلاثة ثالثُها " حسرات " و " عليهم " يجوزُ فيه وجهان : أن يتعلَّق ب " حسراتٍ " لأنَّ " يَحْسَر " يُعَدَّى بعلى ، ويكونَ ثمَّ مضافٌ محذوفٌ أي : على تفريطهم . والثاني : أن تتعلَّق بمحذوفٍ لأنَّها صفةٌ لحَسَرات ، فهي في محل نصبٍ لكونِها صفةً لمنصوبٍ .

والكَرَّةُ : العَوْدَةُ ، وفِعْلُها كَرَّ يَكُرُّ كَرَّاً ، قال :

أَكُرُّ على الكتيبةِ لا أُبالي *** أفيها كانَ حَتْفِي أَمْ سِواها

والحسرةُ : شِدَّةُ النَّدَمِ ، وهو تألمُ القلب بانحساره عما يُؤمِّلهُ ، واشتقاقُها : إمَّا من قولِهم : بعيرٌ حَسِير ، أي : منقطعُ القوةِ أو مِنَ الحَسْرِ وهو الكِشْفُ .