قوله تعالى { فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ } : منصوبٌ بعد الفاء بِأَنْ مضمرةً في جواب التمني الذي أُشْرِبته " لو " ، ولذلك أُجيبت بجواب " ليت " الذي في قوله : يا ليتني كنتُ معهم فأفوز " ، وإذا أُشْرِبَتْ معنى التمني فهل هي الامتناعيةُ المفتقرةُ إلى جوابٍ أم لا تحتاجُ إلى جوابٍ ؟ الصحيحُ أنها تحتاجُ إلى جوابٍ ، وهو مقدَّرٌ في الآيةِ تقديرُه : لتبرَّأنا ونحوُ ذلك . وقيل : " لو " في هذه الآيةِ ونظائرها لِما كان سَيَقَعُ لوقوع غيره ، وليس فيها معنى التمني ، والفعلُ منصوبٌ ب " أَنْ " مضمرةً على تأويلِ عَطْفِ اسم على اسم وهو " كَرَّة " والتقديرُ : لو أنَّ لنا كرةً فتبرُّؤاً فهو من باب قوله :
لَلُبْسُ عباءةٍ وتَقَرَّ عيني *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويكونُ جواب لو محذوفاً أيضاً كما تقدَّم . وقال أبو البقاء : " فنتبرأ " منصوبٌ بإضمار أنْ تقديرُه : لو أنّ لنا أن نرجِع فنتبرأ " فَحَلَّ " كرة " إلى قولِه " أَنْ نَرْجِعَ " لأنه بمعناه وهو قريبٌ ، إلاَّ أنَّ النَّحْويين يُؤَوِّلون الفعلَ المنصوبَ بمصدرٍ ليَعْطِفُوهُ على الاسم قبلَه ، ويتركون الاسمَ على حالِه ، وذلك لأنه قد يكونُ اسماً صريحاً غير مصدرٍ نحو : " لولا زيدٌ ويخرج لأكرمتُك " فلا يتأتّى تأويله بحرف مصدري وفعلٍ . والقائل بأنّ " لو " التي للتمني لا جوابَ لها استدلَّ بقول الشاعر :
فلو نَبْشُ المقابرِ عن كُلَيْبٍ *** فَتُخْبَر بالذَّنائِبِ أيُّ زُورِ
وهذا لا يَصِحُّ فإنَّ جوابَها في البيتِ بعدَه وهو قولُه :
بيومِ الشَّعْثَمَيْنِ لقَرَّ عيناً *** وكيف لقاءُ مَنْ تحتَ القبورِ
واستدلَّ هذا القائلُ أيضاً بأنَّ " أنَّ " تُفْتَحُ بعد " لو " كما تُفْتَحُ بعدَ ليت في قولِه :
يا ليتَ أنَّا ضَمَّنا سَفينَهْ *** حتَّى يعودَ البحرُ كَيَّنُونَهْ
وههنا فائدةٌ ينبغي أن يُنتبه لها وهي : أنَّ النحاة قالوا : " كلُّ موضعٍ نُصِبَ فيه المضارعُ بإضمارِ أَنْ بعد الفاء إذا سَقَطَت الفاءُ جُزِم إلا في النفي " ، [ و ] ينبغي أَنْ يُزادَ هذا الموضعُ أيضاً فيُقال : وإلا في جوابِ التمني ب " لو " ، فإنَّه يُنْصبُ المضارع فيه بإضمار " أَنْ " بعدَ الفاء الواقعةِ جواباً له ، ومع ذلك لو سَقَطَت هذه الفاءُ لم يُجْزَمْ . قال الشيخ : " والسببُ في ذلك أنها محمولةٌ على حرف التمني وهو ليت ، والجزمُ في جوابِ ليت إنما هو لتضَمُّنِها معنى الشرط أو لدلالتِها على كونِه محذوفاً على اختلافِ القولين فصارت " لو " فرع الفرع ، فَضَعُفَ ذلك فيها .
قوله : " كما " الكافُ موضعُها نصبٌ : إمَّا على كونِها نعتَ مصدرٍ محذوفٍ ، أي : تبرُّؤاً مثلَ تبرئتهم ، وإمَّا على الحالِ من ضمير المصدر المُعرَّفِ المحذوفِ أي : نتبَّرؤه - أي التبرؤ - مشابهاً لتبرئتهم ، كما تقدَّم تقريره غيرَ مرةٍ .
وقال ابنُ عطية : " الكافُ في قوله " كما " في موضعِ نصبٍ على النعت : إمَّا لمصدرٍ أو لحالٍ تقديرُه : متبرئين كما " . قال الشيخ : " وأمّاً قولُه " لحال تقديرُه متبرئين كما " فغيرُ واضحٍ ، لأنَّ " ما " مصدريةٌ فصارَتِ الكافُ الداخلةُ عليها من صفاتِ الأفعال ، ومتبرئين من صفاتِ الأعيانِ فكيف يُوصف بصفاتِ الأفعالِ " قال : " وأيضاً لا حاجةَ لتقدير هذه الحال ؛ لأنها إذ ذاك تكونُ حالاً مؤكدةً ، وهي خلافُ الأصلِ ، وأيضاً فالمؤكَّد ينافيه الحذفُ لأنَّ التأكيدَ يُقَوِّيه فالحَذْفُ يناقِضُه " .
قوله : { كَذَلِكَ يُرِيهِمُ } في هذه الكافِ قولان ، أحدُهما : أنَّ موضعَها نصبٌ : إمَّا نعتَ مصدرٍ محذوفٍ ، أو حالاً من المصدرِ المعرَّفِ ، أي : يُريهم رؤيةً كذلك ، أو يَحْشُرهم حشراً كذلك ، أو يَجْزيهم جزاءً كذلك ، أو يُريهم الإِراءةَ مشبهةً كذلك ونحوُ هذا . والثاني : أن يكونَ موضعُها رفعاً على انه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي : الأمرُ كذلك أو حَشْرُهم كذلك قاله أبو البقاء . قال الشيخ : " وهو ضعيفٌ لأنه يقتضي زيادةَ الكافَ وحَذْفَ مبتدأ ، وكلاهما على خلاف الأصل " . والإِشارةُ بذلك إلى إرءَتِهم تلك الأهوال ، والتقدير : مثلَ إراءتهم الأهوال يُريهم اللهَ أعمالهم حسراتٍ ، وقيل : الإِشارة إلى تبرؤ بعضِهم مِنْ بعضٍ .
والرؤيةُ هنا تحتملُ وَجْهَيْن ، أحدُهما : أن تكونَ بصريةً ، فتتعدَّى لاثنين بنقل الهمزة ، أولُهُما الضميرُ والثاني " أعمالَهم " و " حسراتٍ " على هذا حالٌ من " أعمالهم " . والثاني : أن تكون قلبية ، فتتعدَّى لثلاثة ثالثُها " حسرات " و " عليهم " يجوزُ فيه وجهان : أن يتعلَّق ب " حسراتٍ " لأنَّ " يَحْسَر " يُعَدَّى بعلى ، ويكونَ ثمَّ مضافٌ محذوفٌ أي : على تفريطهم . والثاني : أن تتعلَّق بمحذوفٍ لأنَّها صفةٌ لحَسَرات ، فهي في محل نصبٍ لكونِها صفةً لمنصوبٍ .
والكَرَّةُ : العَوْدَةُ ، وفِعْلُها كَرَّ يَكُرُّ كَرَّاً ، قال :
أَكُرُّ على الكتيبةِ لا أُبالي *** أفيها كانَ حَتْفِي أَمْ سِواها
والحسرةُ : شِدَّةُ النَّدَمِ ، وهو تألمُ القلب بانحساره عما يُؤمِّلهُ ، واشتقاقُها : إمَّا من قولِهم : بعيرٌ حَسِير ، أي : منقطعُ القوةِ أو مِنَ الحَسْرِ وهو الكِشْفُ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.