الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ لَوۡ أَنَّ لَنَا كَرَّةٗ فَنَتَبَرَّأَ مِنۡهُمۡ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّاۗ كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ ٱللَّهُ أَعۡمَٰلَهُمۡ حَسَرَٰتٍ عَلَيۡهِمۡۖ وَمَا هُم بِخَٰرِجِينَ مِنَ ٱلنَّارِ} (167)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وقال الذين اتبعوا} أي الأتباع: {لو أن لنا كرة}: يعني رجعة إلى الدنيا،

{فنتبرأ منهم} من القادة، {كما تبرءوا منا} في الآخرة، {كذلك} يقول: هكذا {يريهم الله أعمالهم}، يعني القادة والأتباع {حسرات عليهم}، يعني ندامة، {وما هم بخارجين من النار}.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

"وَقالَ الّذِينَ اتّبَعُوا": وقال أتباع الرجال الذين كانوا اتخذوهم أندادا من دون الله يطيعونهم في معصية الله، ويعصون ربهم في طاعتهم، إذ يرون عذاب الله في الآخرة: "لَوْ أن لنَا كَرة "يعني بالكرّة: الرجعة إلى الدنيا.

"فَنَتَبرّأَ مِنْهُمْ "منصوب لأنه جواب للتمني بالفاء، لأن القوم تمنوا رجعة إلى الدنيا ليتبرؤوا من الذين كانوا يطيعونهم في معصية الله كما تبرأ منهم رؤساؤهم الذين كانوا في الدنيا المتبوعون فيها على الكفر بالله إذْ عاينوا عظيم النازل بهم من عذاب الله، فقالوا: يا ليت لنا كرّة إلى الدنيا فنتبرأ منهم، "ويالَيَتَنا نُرَدّ ولا نُكَذّبُ بآياتِ رَبّنا ونَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ".

"كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أعْمالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِم": كما أراهم العذاب الذي ذكره في قوله: "وَرَأوُا العَذَابَ" الذي كانوا يكذبون به في الدنيا، فكذلك يريهم أيضا أعمالهم الخبيثة التي استحقوا بها العقوبة من الله، "حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ" يعني ندامات.

فإن قال لنا قائل: فكيف يرون أعمالهم حسرات عليهم، وإنما يتندم المتندم على ترك الخيرات وفوتها إياه؟ وقد علمت أن الكفار لم يكن لهم من الأعمال ما يتندمون على تركهم الازدياد منه، فيريهم الله قليلَه، بل كانت أعمالهم كلها معاصي لله، ولا حسرة عليهم في ذلك، وإنما الحسرة فيما لم يعملوا من طاعة الله؟ قيل: إن أهل التأويل في تأويل ذلك مختلفون؛

فقال بعضهم: معنى ذلك: كذلك يريهم الله أعمالهم التي فرضها عليهم في الدنيا فضيعوها ولم يعملوا بها، حتى استوجب ما كان الله أعدّ لهم لو كانوا عملوا بها في حياتهم من المساكن والنعم غيرُهم بطاعته ربّه فصار ما فاتهم من الثواب الذي كان الله أعدّه لهم عنده لو كانوا أطاعوه في الدنيا إذْ عاينوه عند دخول النار أو قبل ذلك، أسى وندامة وحسرة عليهم... فإن قال قائل: وكيف يكون مضافا إليهم من العمل ما لم يعملوه على هذا التأويل؟ قيل: كما يعرض على الرجل العمل فيقال له قبل أن يعمله: هذا عملك، يعني هذا الذي يجب عليك أن تعمله، كما يقال للرجل يُحضر غداؤه قبل أن يتغدى به: هذا غداؤك اليوم، يعني به: هذا ما تتغدى به اليوم، فكذلك قوله: "كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أعمْالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ" يعني: كذلك يريهم الله أعمالهم التي كان لازما لهم العمل بها في الدنيا حسرات عليهم.

وقال آخرون: كذلك يريهم الله أعمالهم السيئة حسرات عليهم: لم عملوها، وهلا عملوا بغيرها مما يرضى الله تعالى.

وأولى التأويلين بالآية تأويل من قال: معنى قوله: "كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أعْمالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ": كذلك يري الله الكافرين أعمالهم الخبيثة حسرات عليهم لم عملوا بها، وهلا عملوا بغيرها فندموا على ما فرط منهم من أعمالهم الرديئة إذْ رأوا جزاءها من الله وعقابها؟ لأن الله أخبر أنه يريهم أعمالهم ندما عليهم. فالذي هو أولى بتأويل الآية ما دل عليه الظاهر دون ما احتمله الباطن الذي لا دلالة على أنه المعنيّ بها.

"وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النّارِ": وما هؤلاء الذين وصفتهم من الكفار وإن ندموا بعد معاينتهم ما عاينوا من عذاب الله، فاشتدّت ندامتهم على ما سلف منهم من أعمالهم الخبيثة، وتمنوا إلى الدنيا كرّةً لينيبوا فيها، ويتبرؤوا من مضليهم وسادتهم الذين كانوا يطيعونهم في معصية الله فيها، بخارجين من النار التي أصلاهموها الله بكفرهم به في الدنيا، ولا ندمهم فيها بمنجيهم من عذاب الله حينئذ، ولكنهم فيها مخلدون. وفي هذه الآية الدلالة على تكذيب الله الزاعمين أن عذاب الله أهل النار من أهل الكفر منقض، وأنه إلى نهاية، ثم هو بعد ذلك فانٍ لأن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الآية، ثم ختم الخبر عنهم أنهم غير خارجين من النار بغير استثناء منه وقتا دون وقت، فذلك إلى غير حدّ ولا نهاية.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

والحسرات: جمع الحسرة، وهي أشد من الندامة. والفرق بينهما وبين الإرادة، أن الحسرة تتعلق بالماضي خاصة، والإرادة تتعلق بالمستقبل، لأن الحسرة إنما هي على ما فات وقوعه أو تقضى وقته.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

فذلك تمن منهم لأن يتمكنوا من الرجعة إلى الدنيا وإلى حال التكليف فيكون الاختيار إليهم حتى يتبرؤوا منهم في الدنيا كما تبرؤا منهم يوم القيامة، ومفهوم الكلام أنهم تمنوا لهم في الدنيا ما يقارب العذاب فيتبرؤون منهم ولا يخلصونهم ولا ينصرونهم كما فعلوا بهم يوم القيامة وتقديره: فلو أن لنا كرة فنتبرأ منهم وقد دهمهم مثل هذا الخطب كما تبرؤوا منا والحالة هذه لأنهم إن تمنوا التبرؤ منهم مع سلامة فليس فيه فائدة...

أما قوله: {كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم} ففيه مسائل:

المسألة الأولى: في قوله: {كذلك يريهم} وجهان.

(الأول): كتبرؤ بعضهم من بعض يريهم الله أعمالهم حسرات وذلك لانقطاع الرجاء من كل أحد.

(الثاني): كما أراهم العذاب يريهم الله أعمالهم حسرات، لأنهم أيقنوا بالهلاك...

المسألة الثانية: في المراد بالأعمال أقوال... والظاهر أن المراد الأعمال التي اتبعوا فيها السادة، وهو كفرهم ومعاصيهم، وإنما تكون حسرة بأن رأوها في صحيفتهم، وأيقنوا بالجزاء عليها، وكان يمكنهم تركها والعدول إلى الطاعات...

أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :

{وما هم بخارجين من النار} أصله وما يخرجون، فعدل به إلى هذه العبارة، للمبالغة في الخلود والإقناط عن الخلاص والرجوع إلى الدنيا...

لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن 741 هـ :

والحسرة: الغم على ما فاته وشدة الندم عليه كأنه انحسر عنه الجهل الذي حمله على ما ارتكبه...

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

لو أن لنا عَوْدة إلى الدار الدنيا حتى نَتَبَرَّأ من هؤلاء ومن عبادتهم، فلا نلتفت إليهم، بل نوحد الله وحده بالعبادة. وهم كاذبون في هذا، بل لو رُدّوا لعادوا لما نهوا عنه. كما أخبر الله تعالى عنهم بذلك؛ ولهذا قال: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} أي: تذهب وتضمحل كما قال الله تعالى:

{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]. وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} الآية

[إبراهيم: 18]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} الآية [النور: 39]؛ ولهذا قال تعالى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

قال تعالى: {وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا} أي نتمنى لو أن لنا رجعة إلى الدنيا لنتبرأ من إتباع هؤلاء المضلين ونتنصل من رياستهم، أو لنتبع سبيل الحق ونأخذ بالتوحيد الخالص ونهتدي بكتاب الله وسنة رسوله، ثم نعود إلى هنا "الآخرة "فنتبرأ من هؤلاء الضالين كما تبرؤوا منا إذ نسعد بعلمهم من حيث هم أشقياء بأعمالهم {كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم} أي أن الله تعالى يظهر لهم كيف أن أعمالهم قد كان لها أسوأ الأثر في نفوسهم إذ جعلتها مستذلة مستعبدة لغير الله تعالى فأورثها ذلك من الظلمة والصغار ما كان حسرة وشقاء عليها، فالأعمال هي التي كونت هذه الحسرات في النفس، ولكن لا يظهر ذلك إلا في الدار الآخرة التي تسعد فيها كل نفس بتزكيتها، وتشقى بتدسيتها {وما هم بخارجين من النار} إلى الدنيا صحيحي العقيدة ليصلحوا أعمالهم، فيشفوا غيظهم من رؤسائهم وأندادهم، ولا إلى الجنة لأن علة دخولهم في النار هي ذواتهم بما طبعتها عليه خرافات الشرك وحب الأنداد.

الأستاذ الإمام: يقول المفسرون في مثل هذه الآيات إن هذا الكلام خاص بالكفار، نعم إنه خاص بالكفار كما قالوا: ولكن من الخطأ أن يفهم من هذا الكلام ما يفصل بين المسلمين والقرآن إذ يصرفون كل وعيد فيه إلى المشركين واليهود والنصارى فينصرفون عن الاعتبار بالمقصود. لهذا ترى المسلمين لا يتعظون بالقرآن، ويحسبون أن كلمة "لا إله إلا الله" يتحرك بها اللسان من غير قيام بحقوقها كافية للنجاة في الآخرة، على أن كثيرا من الكافرين يقولها، ومنهم من يهز جسده عند ذكر الله كما يهزه جماهيرهم، فهل هذا كل ما أراد الله من إنزال القرآن، وبعثة محمد عليه الصلاة والسلام؟.

ليس هذا الذي يتوهمه الجاهلون من مراد المفسرين، فما بين الله تعالى ضروب الشرك وصفات الكافرين وأحوالهم إلا عبرة لمن يؤمن بكتابه حتى لا يقع فيما وقعوا فيه فيكون من الهالكين، ولكن رؤساء التقليد حالوا بين المسلمين وبين كتاب ربهم، بزعمهم أن المستعدين للاهتداء به قد انقرضوا ولا يمكن أن يخلفهم الزمان لما يشترط فيهم من الصفات والنعوت التي لا تتيسر لغيرهم، كمعرفة كذا وكذا من الفنون الصناعية والإحاطة بخلاف العلماء في الأحكام. والذي يعرفه كل واقف على تاريخ الصدر الأول من المسلمين هو أن أهل القرنين الأول والثاني لم يكونوا يقلدون أحدا، أي لم يكونوا يأخذون بآراء الناس وأقوال العلماء، بل كان العامي منهم على بينة من دينه يعرف من أين جاءت كل مسألة يعمل بها من مسائله، إذ كان علماء الصدر الأول رضي الله تعالى عنهم يلقنون الناس الدين ببيان كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وكان الجاهل بالشيء يسأل عن حكم الله فيه فيجاب بأن الله تعالى قال كذا أوجرت سنة نبيه على كذا، فإن لم يكن عند المسؤولين فيه هدى من كتاب أو سنة ذكر ما جرى عليه الصالحون وما يراه أشبه بما جاء في الهدى من كتاب أو سنة ذكر ما جرى عليه الصالحون وما يراه أشبه بما جاء في هذا الهدي أو أحال على غيره.

ولما تصدى بعض العلماء في القرن الثاني والثالث لاستنباط الأحكام واستخراج الفروع من أصولها ـ ومنهم الأئمة الأربعة ـ كانوا يذكرون الحكم بدليله على هذا النمط. فهم متفقون مع الصحابة والتابعين (عليهم الرضوان) على أنه لا يجوز لأحد أن يأخذ بقول أحد في الدين ما لم يعرف دليله ويقتنع به. ثم جاء من العلماء المقلدين في القرون الوسطى من جعل قول المفتي للعامي بمنزلة الدليل مع قولهم بأنه لو بلغه الحديث فعمل به كان كذلك أو أولى. ثم خلف خلف أعرق منهم في التقليد فمنعوا كل الناس أخذ أي حكم من الكتاب أو السنة، وعدوا من يحاول فهمهما والعمل بهما زائغا. وهذا غاية الخذلان وعداوة الدين، وقد تبعهم الناس في ذلك فكانوا لهم أندادا من دون الله، وسيتبرأ بعضهم من بعض كما أخبر الله.

قال الأستاذ الإمام في الدرس: إنه نقل عن الأئمة الأربعة رضي الله عنهم النهي عن الأخذ بقولهم من غير معرفة دليلهم، والأمر بترك أقوالهم لكتاب الله أو سنة رسوله إذا ظهرت مخالفة لهما أو لأحدهما اهـ. وقد سبق لنا في المنار إيراد كثير من هذه النصوص عنهم معزوة إلى كتبها ورواتها. ومن ذلك قول الفقيه الحنفي أبي الليث السمرقندي: حدثنا إبراهيم بن يوسف عن أبي حنيفة أنه قال: لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين قلناه. وروي عن عصام بن يوسف أنه قيل له: إنك تكثر الخلاف لأبي حنيفة. فقال إن أبا حنيفة قد أوتي ما لم نؤت فأدرك فهمه ما لم ندركه، ونحن لم نؤت من الفهم إلا ما أوتينا، ولا يسعنا أن نفتي بقوله ما لم نفهم من أين قال. وروي عن عصام بن يوسف أنه قال: كنت في مأتم فاجتمع فيه أربعة من أصحاب أبي حنيفة: زفر بن الهزيل وأبو يوسف وعافية بن يزيد وآخر فكلهم أجمعوا على أنه: لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين قلناه. وفي روضة العلماء: قيل لأبي حنيفة إذا قلت قولا وكتاب الله يخالفه؟ قال تركوا قولي لكتاب الله. فقيل إذا كان خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقيل إذا كان قول الصحابة يخالفه؟ قال اتركوا قولي لقول الصحابة وبعد هذا كله جاء الكرخي يقول: إن الأصل قول أصحابهم فإن وافقته نصوص الكتاب والسنة فذاك وإلا وجب تأويلها، وجرى العمل على هذا، فهل العامل به مقلد لأبي حنيفة رضي الله عنه أم للكرخي؟.

وروى حافظ المغرب ابن عبد البر عن عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثني أبو عبد الله محمد بن أبي القاضي المالكي حدثنا موسى بن إسحاق قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر قال أخبرنا ابن عيسى قال سمعت مالك بن أنس يقول: إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه ثم حذا المنتسبون إلى هذا الإمام الجليل حذو المنتسبين إلى أبي حنيفة فهل هم على مذهبه وطريقته القويمة؟.

وأما الإمام الشافعي والإمام أحمد فالنصوص عنهما في هذا المعنى أكثر، وأتباعهما أشد عناية بالكتاب والسنة من غيرهم ولاسيما الحنابلة، وقد أوردنا طائفة من ذلك عن الشافعي وأصحابه في المحاورة الثانية عشرة من (المحاورات بين المصلح والمقلد) وطائفة أخرى عن الإمام أحمد وأتباعه (في المحاورة الثالثة عشرة) والغرض من هذا الاستشهاد على ما قاله الأستاذ الإمام من نهي الأئمة الأربعة عن التقليد.

قال الأستاذ: وهناك قول آخر للمتأخرين مبني على أن الأمة جاهلة لا تعرف من الدين شيئا لا من أصوله ولا من فروعه، ولا سبيل إلى تكفير هؤلاء المنتسبين إلى الإسلام ولا إلى إلزامهم معرفة العقائد الدينية من دلائلها والأحكام الشرعية بأدلتها وعللها، فلا مندوحة إذن عن القول بجواز التقليد في الأصول ـ وهي ما يجب اعتقاده في الله وصفاته وفي الرسل وفي الإيمان بالغيب وهو ما فصله النص القطعي منه ـ والتقليد في الفروع العلمية بالأولى. وهذا القول مخالف لإجماع سلف الأمة، وما قاله إلا الذين يحبون إرضاء الناس بإقرارهم على ما هم عليه من الجهل، وإهمال ما وهبهم الله من العقل لينطبق عليهم قوله تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} (الأعراف: 179) والمراد أن قلوبهم أي عقولهم لا تفقه الدلائل على الحق، وأعينهم لا تنظر الآيات نظر استدلال، وأسماعهم لا تفهم النصوص فهم تدبر واعتبار، فهذه صفات المقلدين.

والقول الوسط بين القلوب هو أنه يجب النظر في إثبات العقائد بقدر الإمكان ولا يشترط فيه تأليف الأدلة على قوانين المنطق ولا التزام طريق المتهكمين في مثل بناء الدليل على فرض انتفاء المطلوب، ولا إيراد الشكوك والأجوبة عنها، بل أفضل الطرق فيه وأمثلها طريق القرآن الحكيم في عرض الكائنات على الأنظار وإرشادهم إلى وجه الدلائل فيها على وحدانية مبدعها وقدرتها وحكمته. هذا هو حكم الله الصريح في المسألة فإنه أمر بالعلم بالتوحيد فقال: {فاعلم أنه لا إله إلا الله} (محمد: 19) وقال: {وإن الظن لا يغني من الحق شيئا} (النجم: 28) وطالب بالبرهان وجعله آية الصدق {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} (البقرة: 111) وجعل سبيله الذي أمر باتباعه ونهى عن سواه الدعوة إلى الدين على بصيرة {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة وأنا ومن تبعني} (يوسف: 108) ـ {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} (الأنعام: 153).

وأما فرض الأمة جاهلة وإقرارها على ذلك اكتفاء باسم الإسلام، وما يقلد به الجاهلون أمثالهم من الأحكام، فهو من القول على الله بغير علم ولا سلطان، وقد قرنه تعالى مع الشرك في التحريم بقوله: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} (الأعراف: 33).

وأما الأحكام ومسائل الحلال والحرام فمنها ما لا يسع أحدا التقليد فيه وهي ما علم من الدين بالضرورة كوجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وما أجمع عليه من كيفيتها وفروضها فإن أدلتها وأعمالها متواترة. وتلقينها مع ما ورد في فوائدها من الآيات والهدي النبوي يجعل المسلم على بصيرة فيها وفقه يبعث على العمل ولا أسهل منه.

ومنها فروع دقيقة مستنبطة من أحاديث غير متواترة لم يطلع عليها جميع المسلمين، وقد مضت سنة السلف الصالح في مثلها بأن من بلغه حديث منها بطريق يعتقد به ثبوته عمل به، ولم يوجبوا على أحد ولو منقطعا لتحصيل العلم أن يبحث عن جميع ما روى من هذه الآحاد ويعمل بها، كيف والصحابة عليهم الرضوان لم يكتبوا الحديث ولم يتصدوا لجمعه وتلقينه للناس، بل منهم من نهى عن كتابه، ومن حدث فإنما كان يقول ما يعلم إذا عرض له سبب مع المخاطبين. فمثل هذه الفروع يعذر العامي بجهلها بالأولى، ويجب عليه التحري في قبول ما يبلغه منها، فلا يقبل رواية كل أحد ولا يسلم كل ما في الكتب لكثرة الموضوعات والضعاف فيها. ولا مشقة ولا حرج على المسلمين في التزام هذه الطريقة إلا إذا كانوا يريدون ترك دينهم برمته اكتفاء ببعض العادات والأعمال التي لا يكاد عليهم تمييز السنة فيها من البدعة تقليدا لآبائهم ومعاشريهم.

فتبين مما شرحناه أن لا عذر لأحد في التقليد المحض وأن حكم الآية يستغرق جمع المقلدين أندادا وسيتبرأ التابع من المتبوع إذ يرون العذاب، وتتقطع بهم الأسباب.

ومن مباحث اللفظ في الآيتين أن التشبه في قوله تعالى: {كذلك يريهم الله أعمالهم} وهو تشبيه حالة بحالة ذكرت في الكلام السابق أي كذلك النحو الذي ذكر من إراءتهم العذاب سيريهم الله أعمالهم حسرات عليهم، والذين تنطعوا في إعرابها من المفسرين صرفتهم قواعد النحو عن ملاحظة الأسلوب العربي في مثل هذا، على أن له نظائر في كلام العامة في كل زمان هي مما بقي لهم من الأساليب العربية الفصيحة لم تفسدها العجمة إذ لا تمجها أذواق الأعجمين.

ومنها قوله تعالى: {وتقطعت بهم الأسباب} قال الأستاذ الإمام: جاءت فيه الباء لمعنى خاص لا يظهر فيما ذكروه هنا من معانيها، وإنما يفهمه العربي من الأسلوب، فإنك إذا قلت هنا كما قال الجلال تقطعت عنهم الأسباب لا يرى في نفسك الأثر الذي تراه عند تلاوة العبارة الأولى التي تمثل لك التابعين والمتبوعين كعقد انفرط بانقطاع سلكه فذهبت كل حبة منه في ناحية.

أقول وتوضحيه أن هؤلاء المقلدين قد كانوا مرتبطين في الدنيا ومتصلا بعضهم ببعض بأنواع من المنافع والمصالح يستمدها كل من التابع والمتبوع من الآخر، فشبهت هذه المنافع التي حملت الرؤساء على قود المرؤوسين، والتابعين على تقليد المتبوعين، بالأسباب وهي في أصل اللغة الحبال كأنه يقول إن كل واحد منهم كان مربوطا مع الآخرين بحبال كثيرة فلم يشعروا إلا وقد تقطعت هذه الحبال كلها فأصبح كل واحد منبوذا في ناحية لا يصله بالآخر شيء، وعلى هذا تكون الباء متعلقة بمحذوف حال من الفاعل.

قال الأستاذ الإمام: ومن هذه الأساليب الخاصة قوله تعالى: {وكفى بالله شهيدا} (النساء: 79) و {سبحان الله} (النمل: 8) فإذا فسرت ذلك بالتحليل والإرجاع إلى القواعد العامة فقلت في الأول كفى الله شهيدا أو كفت شهادته، وفي الثاني تسبيحا لله: لم يكن له تأثير الأول وموقعه من النفس. ومثل هذه الأساليب الخاصة توجد في كل لغة.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

والإشارة في قوله: {كذلك يريهم الله} للإراءة المأخوذة من {يريهم} على أسلوب {وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً} [البقرة: 143]. والمعنى أن الله يريهم عواقب أعمالهم إراءً مثل هذا الإراءِ إذ لا يكون إراءٌ لأعمالهم أوقعَ منه فهو تشبيه الشيء بنفسه باختلاف الاعتبار كأنه يُرام أن يريهم أعمالهم في كيفية شنيعة فلم يوجد أشنعُ من هذه الحالة...