مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ لَوۡ أَنَّ لَنَا كَرَّةٗ فَنَتَبَرَّأَ مِنۡهُمۡ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّاۗ كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ ٱللَّهُ أَعۡمَٰلَهُمۡ حَسَرَٰتٍ عَلَيۡهِمۡۖ وَمَا هُم بِخَٰرِجِينَ مِنَ ٱلنَّارِ} (167)

أما قوله تعالى : { وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤا منا } فذلك تمن منهم لأن يتمكنوا من الرجعة إلى الدنيا وإلى حال التكليف فيكون الاختيار إليهم حتى يتبرؤن منهم في الدنيا كما تبرؤا منهم يوم القيامة ، ومفهوم الكلام أنهم تمنوا لهم في الدنيا ما يقارب العذاب فيتبرؤن منهم ولا يخلصونهم ولا ينصرونهم كما فعلوا بهم يوم القيامة وتقديره : فلو أن لنا كرة فنتبرأ منهم وقد دهمهم مثل هذا الخطب كما تبرؤا منا والحالة هذه لأنهم إن تمنوا التبرأ منهم مع سلامة فليس فيه فائدة .

أما قوله : { كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم } ففيه مسائل :

المسألة الأولى : في قوله : { كذلك يريهم } وجهان . ( الأول ) : كتبرؤ بعضهم من بعض يريهم الله أعمالهم حسرات وذلك لانقطاع الرجاء من كل أحد . ( الثاني ) : كما أراهم العذاب يريهم الله أعمالهم حسرات ، لأنهم أيقنوا بالهلاك .

المسألة الثانية : في المراد بالأعمال أقوال . ( الأول ) : الطاعات يتحسرون لم ضيعوها عن السدي . ( الثاني ) : المعاصي وأعمالهم الخبيثة عن الربيع وابن زيد يتحسرون لم عملوها . ( الثالث ) : ثواب طاعاتهم التي أتوا بها فأحبطوه بالكفر عن الأصم . ( الرابع ) : أعمالهم التي تقربوا بها إلى رؤسائهم من تعظيمهم والانقياد لأمرهم ، والظاهر أن المراد الأعمال التي اتبعوا فيها السادة ، وهو كفرهم ومعاصيهم ، وإنما تكون حسرة بأن رأوها في صحيفتهم ، وأيقنوا بالجزاء عليها ، وكان يمكنهم تركها والعدول إلى الطاعات ، وفي هذا الوجه الإضافة حقيقية لأنهم عملوها ، وفي الثاني مجاز بمعنى لزمهم فلم يقوموا به .

المسألة الثالثة : حسرات ثالث مفاعيل : رأى .

المسألة الرابعة : قال الزجاج : الحسرة شدة الندامة حتى يبقى النادم كالحسير من الدواب ، وهو الذي لا منفعة فيه ، يقال : حسر فلان يحسر حسرة وحسرا إذا اشتد ندمه على أمر فاته ، وأصل الحسر الكشف ، يقال : حسر عن ذراعيه أي كشف والحسرة انكشاف عن حال الندامة ، والحسور : الإعياء لأنه انكشاف الحال عما أوجبه طول السفر ، قال تعالى : { ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون } والمحسرة المكنسة لأنها تكشف عن الأرض ، والطير تنحسر لأنها تنكشف بذهاب الريش .

أما قوله تعالى : { وما هم بخارجين من النار } فقد احتج به الأصحاب على أن أصحاب الكبيرة من أهل القبلة يخرجون من النار فقالوا : إن قوله { وما هم } تخصيص لهم بعدم الخروج على سبيل الحصر فوجب أن يكون عدم الخروج مخصوصا بهم ، وهذه الآية تكشف عن المراد بقوله : { وإن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين وما هم عنها بغائبين } وثبت أن المراد بالفجار ههنا الكفار لدلالة هذه الآية عليه .