{ وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا } أي : عذابنا بإرسال الريح العقيم ، التي { مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ }
{ نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } أي : عظيم شديد ، أحله الله بعاد ، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم .
( ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا . ونجيناهم من عذاب غليظ )
لما جاء أمرنا بتحقيق الوعيد ، وإهلاك قوم هود ، نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة مباشرة منا ، خلصتهم من العذاب العام النازل بالقوم ، واستثنتهم من أن يصيبهم بسوء . وكانت نجاتهم من عذاب غليظ حل بالمكذبين . ووصف العذاب بأنه غليظ بهذا التصوير المجسم ، يتناسق مع الجو ، ومع القوم الغلاظ العتاة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَمّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجّيْنَا هُوداً وَالّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنّا وَنَجّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } .
يقول تعالى ذكره : ولما جاء قومَ هود عذابُنا نَجّيْنا منه هُودا والّذِينَ آمَنُوا بالله مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنا يعني بفضل منه عليهم ونعمة ، ونَجّيْناهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ يقول : نجيناهم أيضا من عذاب غليظ يوم القيامة ، كما نجيناهم في الدنيا من السّخْطة التي أنزلتها بعاد .
و «الأمر » واحد الأمور ، ويحتمل أن يكون مصدر أمر يأمر ، أي أمرنا للريح أو لخزنتها ونحو ذلك ، وقوله { برحمة } ، إما أن يكون إخباراً مجرداً عن رحمة من الله لحقتهم ، وإما أن يكون قصداً إلى الإعلام أن النجاة إنما كملت بمجرد رحمة الله لا بأعماله ؛ فتكون الآية - على هذا - في معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يدخل أحد الجنة بعمله » قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمته »{[6394]} .
وقوله { ونجيناهم من عذاب غليظ } يحتمل أن يريد : عذاب الآخرة ، ويحتمل أن يريد : وكانت النجاة المتقدمة من عذاب غليظ يريد الريح ، فيكون المقصود على هذا ، تعديد النعمة ومشهور عذابهم بالريح هو أنها كانت تحملهم وتهدم مساكنهم وتنسفها وتحمل الظعينة كما هي ونحو هذا . وحكى الزجاج أنها كانت تدخل في أبدانهم وتخرج من أدبارهم وتقطعهم عضواً عضواً .
استعمال الماضي في قوله : { جاء أمرنا } بمعنى اقتراب المجيء لأن الإنجاء كان قبل حلول العذاب .
والأمر أطلق على أثر الأمر ، وهو ما أمر الله به أمرَ تكوين ، أي لمّا اقترب مجيء أثر أمرنا ، وهو العذاب ، أي الريح العظيم .
ومتعلّق { نجّينا } الأول محذوف ، أي من العذاب الدال عليه قوله : { ولما جاء أمرنا } . وكيفيّة إنجاء هود عليه السّلام ومن معه تقدّم ذكرها في تفسير سورة الأعراف .
والباء في { برحمة منّا } للسببيّة ، فكانت رحمة الله بهم سبباً في نجاتهم . والمراد بالرحمة فضل الله عليهم لأنّه لو لم يرحمهم لشملهم الاستئصال فكان نقمة للكافرين وبَلوى للمؤمنين .
وجملة { ونجّيناهم من عذاب غليظ } معطوفة على جملة { ولمّا جاء أمرنا } . والتّقدير وأيضاً نجّيناهم من عذاب شديد وهو الإنجاء من عذاب الآخرة وهو العذاب الغليظ . ففي هذا منّة ثانية على إنجاء ثان ، أي نجّيناهم من عذاب الدّنيا برحمة منّا ونجّيناهم من عذاب غليظ في الآخرة ، ولذلك عطف فعل { نجّيناهم } على { نجّينا } ، وهذان الإنجاءان يقابلان جمع العذابين لعاد في قوله : { وأُتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة } [ هود : 60 ] . وقد ذكر هنا متعلّق الإنجاء وحذف السبب عكس ما في الجملة الأولى لظهور أنّ الإنجاء من عذاب الآخرة كان بسبب الإيمان وطاعة الله كما دلّ عليه مقابلته بقوله : { وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله } [ هود : 59 ] .
والغليظ حقيقته : الخشن ضدّ الرقيق ، وهو مستعار للشّديد . واستعمل الماضي في { ونجّيناهم } في معنى المستقبل لتحقق الوعد بوقوعه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولما جاء أمرنا} يعني قولنا في نزول العذاب، {نجينا هودا والذين ءامنوا معه} من العذاب {برحمة منا} يعني بنعمة منا عليهم، {ونجيناهم من عذاب غليظ} يعنى شديد، وهي الريح الباردة لم تفتر عنهم حتى أهلكتهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولما جاء قومَ هود عذابُنا نَجّيْنا منه "هُودا والّذِينَ آمَنُوا "بالله "مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنا" يعني بفضل منه عليهم ونعمة، "ونَجّيْناهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ" يقول: نجيناهم أيضا من عذاب غليظ يوم القيامة، كما نجيناهم في الدنيا من السّخْطة التي أنزلتها بعاد...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) هذا يدل أن من نجا فإنما نجا برحمة منه، لا بعلمه...
(برحمة منا) أي بتوفيق منا إياهم نجا من نجا منهم...
(وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ) قال بعضهم: نجيناهم من العذاب الذي أهلك هؤلاء. ويحتمل أن يكون على الوعد أي ينجيهم في الآخرة (من عذاب غليظ)...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
المعنى: ولما جاء أمرنا بهلاك عاد، ودلائله "نجينا هودا، والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ "يعني من عذاب الدنيا والآخرة فسلموا من الأمرين. والنجاة: السلامة من الهلاك، وقد تكون السلامة من إصابة ألم ما، والرحمة قد تكون مستحقة بدلالة قوله "ونجيناهم برحمة منا" ويجوز أن يكون المراد بما أريناهم من الهدى والبيان الذي هو رحمة. والرحمة مستحقه بالوعد وحسن التدبير في الفصل بين الولي والعدو. والغليظ: عظيم الجثة والكثيفة، وإنما وصف به العذاب لأنه بمنزلته في الثقل على النفس وطول المكث...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ولما جاء أمْرنا بإهلاكِهم نَجَّينَا هوداً والذين آمنوا برحمتنا، ولم يَقْلْ باستحقاقه النجاةَ بوسيلةِ نُبُوته، أو لجسامة طاعته ورسالته، بل قال: {بِرَحْمَةٍ مِّنَّا}، ليَعْلَمَ الكافةُ أنَّ الأنبياء- عليهم السلام- ومَنْ دونَهم عتيقُ رحمته وغريقُ مِنَّتِه، لا لاستحقاقِ أحدٍ، ولا لواجب على الله في شيء...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
مشهور عذابهم بالريح هو أنها كانت تحملهم وتهدم مساكنهم وتنسفها وتحمل الظعينة كما هي ونحو هذا.
أما قوله: {نجينا هودا} فاعلم أنه يجوز إتيان البلية على المؤمن وعلى الكافر معا، وحينئذ تكون تلك البلية رحمة على المؤمن وعذابا على الكافر، فأما العذاب النازل بمن يكذب الأنبياء عليهم السلام فإنه يجب في حكمة الله تعالى أن ينجي المؤمن منه، ولولا ذلك لما عرف كونه عذابا على كفرهم، فلهذا السبب قال الله تعالى ههنا: {نجينا هودا والذين آمنوا معه}...
وأما قوله: {ونجيناهم من عذاب غليظ}... إنما وصفه بكونه غليظا؟ تنبيها على أن العذاب الذي حصل لهم بعد موتهم بالنسبة إلى العذاب الذي وقعوا فيه كان عذابا غليظا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما تم ذلك كان كأنه قيل: فلم يرجعوا ولم يرعووا لبينة ولا رغبة ولا رهبة فأنزلنا بهم أمرنا {ولما جاء أمرنا} أي وقت إرادتنا لإهلاك عاد {نجينا} أي تنجية عظيمة بما لنا من العظمة {هوداً والذين آمنوا} كائنين {معه} في الإيمان والنجاة من قومهم فلم يقدروا أن يصلوا إليهم بسوء مع اجتهادهم في ذلك وإعجابهم بقواهم ويقال: إن الذين آمنوا كانوا أربعة آلاف. ولما كان سبحانه بحيث لا يجب عليه لأحد شيء لأنه لا يقدر أحد أن يقدره حق وإن اجتهد في طاعته، فإن طاعته نعمة منه عليه، أشار إلى ذلك بقوله: {برحمة منا} تحقيقاً لتوكل عبدناً؛ ولما بين إنجاءهم من قومهم بين إنجاءهم مما أهلكهم به فقال مكرراً ذكر التنجية دلالة على أن عذابهم كان في غاية الفظاعة: {ونجيناهم} أي بما لنا من العظمة، وبين فظاعة ما أهلك به أعداءهم بقوله: {من عذاب غليظ} أي أهلكنا به مخالفيهم وهو الريح الصرصر، وهذا أولى من حمله على عذاب الآخرة لما يأتي من قوله {ومن خزي يومئذ} كأنهم كانوا إذا رأوا مخايل العذاب قصدوا نبيهم ومن آمن به ليهلكوهم قبلهم كما صرح به في قصة صالح؛ ... وحقيقة الغلظة عظم الجثة، فاستعير للعذاب لثقله على النفس وطول مكثه...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
بين سبحانه نزول العقاب بالكافرين ونجاة المؤمنين برحمة كريمة منه، وحسبها شرفا أنها من رب العالمين، وبين سبحانه أن النجاة كانت عظيمة؛ لأنها نجاة من عذاب شديد، كما بين سبحانه أن العذاب غليظ أي شديد لا رفق فيه؛ لأنه لا رفق مع ظالم، لأن الرفق بالظالم عنف بالمظلوم، ولم يذكر في هذه الآية نوع العذاب، وقد ذكر في آيات أخرى أنه عذاب بريح السموم، وقد جاء ذكره في سورة الأحقاف: {فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم 24} (الأحقاف)..
ساعة تسمع {ولما جاء أمرنا} فأنت تعرف أن هناك آمرا وأمرا مطاعا، وبمجرد صدور الأمر من الآمر سبحانه يكون التنفيذ؛ لأنه يأمر من له قدرة على التنفيذ...
{ولما جاء أمرنا}: يعني: مجيء الأمر بالعذاب للمخالفين لدعوة هود عليه السلام، وقد تحقق هذا العذاب بطريقة خاصة ودقيقة؛ تتناسب في دقتها مع عظمة الآمر بها سبحانه وتعالى. فحين تأتي ريح صرصر أو صيحة طاغية، فهذا العذاب من خارجهم، ومادام العذاب من الخارج، وبقوة من قوى الطبيعة الصادرة بتوجيه الله؛ فقد يعم المكذبين لسيدنا هود، ومعهم المصدقون به وبرسالته، فكيف يتأتى أن تذهب الصيحة إلى آذان المكذبين فقط، وتخرق تلك الآذان؛ وتترك آذان المؤمنين؟ إنها قدرة التقدير لا قوة التدمير. إن موجه الصيحة قد حدد لها من تصيب ومن تترك، وهي صيحة موجهة، مثلها مثل حجارة سجيل التي رمتها طير أبابيل على أبرهة الحبشي وجنوده؛ مع نجاة جنود قريش بنفس الحجارة؛ ولم تكن إصابة بالطاعون كما ادعى بعض من المتفلسفين. وهذه من أسرار عظمة الحق سبحانه فهو يأخذ بشيء واحد؛ ولكنه ينجى المؤمن؛ ويعذب الكافر؛ فلا يوجد ناموس يحكم الكون بدون قدرة مسيطرة عليه...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
جاء أمر الله، ونزل العذاب، وتساقط كل الذين كانوا يستعلون على الناس بالقوّة الكبيرة التي كانوا يملكون، ويتمرّدون من خلالها على الله ورسله ورسالاته، فإذا بهم أعجاز نخل خاوية، فلا ترى لهم من باقية، وبقيت الحياة، لمن كانوا دعاة إلى الإيمان بالله، والعاملين في سبيله، لأنهم خدموا الحياة من موقع ارتباطها بالله، والتزامها برسالته. {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا} في ما يرحم الله به عباده المؤمنين، مما يحيطهم به من ألطافه، ويرعاهم به من حنانه وعطفه {وَنَجّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} مما أنزله الله على قومه من الكافرين...