17- وأن نعمه تعالى مرئية لكم ، وأصنامكم لا تأثير لها في هذه النعم ، فهو الذي أنزل عليكم الأمطار من السحاب ، فتسيل بها الأنهار والوديان كل بالمقدار الذي قدره الله تعالي لإنبات الزرع ، وإثمار الشجر . والأنهار في جريانها تحمل ما لا نفع فيه ويعلو علي سطحها ، فيكون فيها ما فيه نفع فيبقى ، وما لا نفع فيه يذهب . ومثل ذلك الحق والباطل ، فالأول يبقى والثاني يذهب ، ومن المعادن التي يصهرونها بالنار ما يتخذون منها حلية كالذهب والفضة ، ومنافع ينتفعون بها كالحديد والنحاس ، ومنها ما لا نفع فيه يعلو السطح ، وأن ما لا نفع فيه يرمى وينبذ ، وما فيه النفع يبقى ، كذلك الأمر في العقائد ما هو ضلال يذهب ، وما هو صدق يبقى . وبمثل هذا يبين الله سبحانه الحقائق ، ويمثل بعضها ببعض لتكون كلها واضحة بينة{[103]} .
{ 17 } { أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ }
شبّه تعالى الهدى الذي أنزله على رسوله لحياة القلوب والأرواح ، بالماء الذي أنزله لحياة الأشباح ، وشبّه ما في الهدى من النفع العام الكثير الذي يضطر إليه العباد ، بما في المطر من النفع العام الضروري ، وشبه القلوب الحاملة للهدى وتفاوتها بالأودية التي تسيل فيها السيول ، فواد كبير يسع ماء كثيرا ، كقلب كبير يسع علما كثيرا ، وواد صغير يأخذ ماء قليلا ، كقلب صغير ، يسع علما قليلا ، وهكذا .
وشبه ما يكون في القلوب من الشهوات والشبهات عند وصول الحق إليها ، بالزبد الذي يعلو الماء ويعلو ما يوقد عليه النار من الحلية التي يراد تخليصها وسبكها ، وأنها لا تزال فوق الماء طافية مكدرة له حتى تذهب وتضمحل ، ويبقى ما ينفع الناس من الماء الصافي والحلية الخالصة .
كذلك الشبهات والشهوات لا يزال القلب يكرهها ، ويجاهدها بالبراهين الصادقة ، والإرادات الجازمة ، حتى تذهب وتضمحل ويبقى القلب خالصا صافيا ليس فيه إلا ما ينفع الناس من العلم بالحق وإيثاره ، والرغبة فيه ، فالباطل يذهب ويمحقه الحق { إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا } وقال هنا : { كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ } ليتضح الحق من الباطل والهدى والضلال .
ثم نمضي مع السياق . يضرب مثلا للحق والباطل . للدعوة الباقية والدعوة الذاهبة مع الريح . للخير الهاديء والشر المتنفج . والمثل المضروب هنا مظهر لقوة الله الواحد القهار . ولتدبير الخالق المدبر المقدر للأشياء . وهو من جنس المشاهد الطبيعية التي يمضي في جوها السياق .
( أنزل من السماء ماء ، فسالت أودية بقدرها ، فاحتمل السيل زبدا رابيا : ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله . كذلك يضرب ا لله الحق والباطل . فأما الزبد فيذهب جفاء ، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض . كذلك يضرب الله الأمثال ) . .
وإنزال الماء من السماء حتى تسيل به الوديان يتناسق مع جو البرق والرعد والسحاب الثقال في المشهد السابق ؛ ويؤلف جانبا من المشهد الكوني العام ، الذي تجري في وجوه قضايا السورة وموضوعاتها . وهو كذلك يشهد بقدرة الواحد القهار . . وأن تسيل هذه الأودية بقدرها ، كل بحسبه ، وكل بمقدار طاقته ومقدار حاجته يشهد بتدبير الخالق وتقديره لكل شيء . . وهي إحدى القضايا التي تعالجها السورة . . وليس هذا أو ذاك بعد إلا إطارا للمثل الذي يريد الله ليضربه للناس من مشهود حياتهم الذي يمرون عليه دون انتباه .
إن الماء لينزل من السماء فتسيل به الأودية ، وهو يلم في طريقه غثاء ، فيطفو على وجهه في صورة الزبد حتى ليحجب الزبد الماء في بعض الأحيان . هذا الزبد نافش راب منتفخ . . ولكنه بعد غثاء . والماء من تحته سارب ساكن هاديء . . ولكنه هو الماء الذي يحمل الخير والحياة . . كذلك يقع في المعادن التي تذاب لتصاغ منها حلية كالذهب والفضة ، أو آنية أو آلة نافعة للحياة كالحديد والرصاص ، فإن الخبث يطفو وقد يحجب المعدن الأصيل . ولكنه بعد خبث يذهب ويبقى المعدن في نقاء . .
ذلك مثل الحق والباطل في هذه الحياة . فالباطل يطفو ويعلو وينتفخ ويبدو رابيا طافيا ولكنه بعد زبد أو خبث ، ما يلبث أن يذهب جفاء مطروحا لا حقيقة ولا تماسك فيه . والحق يظل هادئا ساكنا . وربما يحسبه بعضهم قد انزوى أو غار أو ضاع أو مات . ولكنه هو الباقي في الأرض كالماء المحيي والمعدن الصريح ، ينفع الناس . ( كذلك يضرب الله الأمثال ) وكذلك يقرر مصائر الدعوات ، ومصائر الاعتقادات . ومصائر الأعمال والأقوال . وهو الله الواحد القهار ، المدبر للكون والحياة ، العليم بالظاهر والباطن والحق والباطل والباقي والزائل .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَنَزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السّيْلُ زَبَداً رّابِياً وَمِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقّ وَالْبَاطِلَ فَأَمّا الزّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأمْثَالَ } .
قال أبو جعفر : وهذا مثل ضربه الله للحقّ والباطل والإيمان به والكفر ، يقول تعالى ذكره : مثل الحقّ في ثباته والباطل في اضمحلاله مثل ماء أنزله الله من السماء إلى الأرض فَسالَتْ أوْدِيَةٌ بقَدَرِها يقول : فاحتملته الأودية بملئها الكبير بكبره والصغير بصغره ، فاحْتَمَلَ السّيْلُ زَبَدًا رَابيا يقول : فاحتمل السيل الذي حدث عن ذلك الماء الذي أنزله الله من السماء زَبدا عاليا فوق السيل . فهذا أحد مَثَلى الحقّ والباطل ، فالحقّ هو الماء الباقي الذي أنزله الله من السماء ، والزّبَد الذي لا ينتفع به هو الباطل . والمثل الاَخر : وَمِمّا يُوقدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْتغاءَ حلْيَةٍ يقول جلّ ثناؤه : ومثل آخر للحقّ والباطل ، مثل فضة أو ذهب يُوقد عليها الناس في النار طلب حلية يتخذونها أو متاع ، وذلك من النحاس والرصاص والحديد ، يوقَد عليه ليتخذ منه متاع ينتفع به زَبَدٌ مِثْلُهُ يقول تعالى ذكره : ومما يوقدون عليه من هذه الأشياء زَبَد مثله ، بمعنى : مثل زَبَد السيل لا ينتفع به ويذهب باطلاً ، كما لا ينتفع بزبد السيل ويذهب باطلاً . ورفع «الزبد » بقوله : ومِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ومعنى الكلام : ومما يوقدون عليه في النار زبد مثل زبد السيل في بطول زبده ، وبقاء خالص الذهب والفضة . يقول الله تعالى : كذلكَ يَضْرِبُ اللّهُ الحَقّ والباطلَ يقول : كما مثل الله الإيمان والكفر في بطول الكفر وخيبة صاحبه عند مجازاة الله بالباقي النافع من ماء السيل وخالص الذهب والفضة ، كذلك يمثل الله الحقّ والباطل . فأمّا الزّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً يقول : فأما الزبد الذي علا السيل ، والذهب والفضة والنحاس والرصاص عند الوقود عليها ، فيذهب بدفع الرياح وقدف الماء به وتعلقه بالأشجار وجوانب الوادي . وأمّا ما يَنْفَعُ النّاسَ من الماء والذهب والفضة والرصاص والنحاس ، فالماء يمكث في الأرض فتشربه ، والذهب والفضة تمكث للناس . كذلكَ يَضْرِبُ اللّهَ الأمْثالَ يقول : كما مثل هذا المثل للإيمان والكفر ، كذلك يمثل الأمثال .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : أنْزَلَ مِنَ السّماءِ ماءً فَسالَتْ أوْدِيَةٌ بقَدَرِها فهذا مثل ضربه الله احتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكها ، فأما الشكّ فلا ينفع معه العمل ، وأما اليقين فينفع الله به أهله ، وهو قوله : فأمّا الزّبَدُ فَيَدْهَبُ جُفاءً وهو الشكّ ، وأمّا ما ينفعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ وهو اليقين ، كما يجعل الحليّ في النار ، فيؤخذ خالصه ويترك خبثه في النار ، فكذلك يقبل الله اليقين ويترك الشكّ .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : أنْزَلَ مِنَ السّماءِ ماءً فَسالَتْ بِقَدَرِها فاحْتَمَلَ السّيْلُ زَبَدا رَابِيا يقول : احتمل السيل ما في الوادي من عود ودمنة ومِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ فهو الذهب والفضة والحلية والمتاع والنحاس والحديد ، وللنحاس والحديد خبث ، فجعل الله مثل خبثه كزبد الماء فأمّا ما يَنْفَعُ النّاسُ فالذهب والفضة ، وأما ما ينفع الأرض فما شربت من الماء فأنبتت . فجعل ذلك مثل العمل الصالح يبقى لأهله ، والعمل السيىء يضمحلّ عن أهله ، كما يذهب هذا الزبد ، فكذلك الهدى والحقّ جاء من عند الله ، فمن عمل بالحقّ كان له وبقي كما يبقى ما ينفع الناس في الأرض ، وكذلك الحديد لا يستطاع أن يجعل منه سكين ولا سيف حتى يدخل في النار فتؤكل خبثه ، فيخرج جيده فينتفع به ، فكذلك يضمحلّ الباطل إذا كان يوم القيامة وأقيم الناس ، وعرضت الأعمال ، فيريغ الباطل ويهلك ، وينتفع أهل الحقّ بالحقّ ، ثم قال : ومِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثله .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : أنْزَلَ مِنَ السّماءِ ماءً فَسالَتْ أوْدِيَةٌ . . . إلى : أوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ فقال : ابتغاء حلية الذهب والفضة ، أو متاع الصّفر والحديد . قال : كما أوقد على الذهب والفضة والصفر والحديد فخلص خالصه ، قال : كذلكَ يَضْرِبُ اللّهُ الحَقّ والباطِلَ فأمّا الزّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاء وأمّا ما يَنْفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كذلك بقاء الحقّ لأهله فانتفعوا .
حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني ، قال : حدثنا حجاج بن محمد ، قال : قال ابن جريج : أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول : أَنْزَلَ مِنَ السّماءِ ماءً فَسالَتْ أوْدِيَةٌ بِقَدَرِها قال : ما أطاقت ملأها فاحْتَمَلَ السّيْلُ زَبَدا رَابِيا قال : انقضَى الكلام ، ثم استقبل فقال : «وَمِمّا تُوقِدُونَ عَلَيْه فِي النّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ » قال : المتاع : الحديد والنحاس والرصاص وأشباهه ، زبد مثله ، قال : خبث ذلك مثل زبد السيل . قال : وأمّا ما يَنْفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ فَأمّا الزبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً قال : فذلك مثل الحقّ والباطل .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير ، عن مجاهد ، أنه سمعه يقول : فذكر نحوه . وزاد فيه : قال : قال ابن جريج : قوله : فأمّا الزّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً قال : جُمودا في الأرض ، وأمّا ما يَنْفَعُ النّاس فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ يعني الماء وهما مَثَلان : مثل الحقّ والباطل .
حدثنا الحسن ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : زَبَدًا رَابِيا السيل مثل خَبَث الحديد والحلية ، فَيَذْهَبُ جُفاءً جمودا في الأرض ، ومِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ الحديد والنحاس والرّصاص وأشباهه . وقوله : وأمّا ما يَنْفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ إنما هما مثلان للحقّ والباطل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : وثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، يزيد أحدهما على صاحبه في قوله : فَسالَتْ أوْدِيَةٌ بِقَدَرِها قال : بملئها ، فاحْتَمَلَ السّيْلُ زَبَدا رابيا قال : الزبد : السيل ابْتِغاءَ حلْيَةٍ أوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مثْلُهُ قال : خبث الحديد والحلية ، فأَمّا الزّبَدُ فَيَذْهُبُ جُفاءً قال : جمودا في الأرض ، وأمّا ما ينفع الناسُ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ قال : الماء وهما مثلان للحقّ والباطل .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : أنْزَلَ مِنَ السّماءِ ماءً فَسالَتْ أوْدِيَةٌ بِقَدَرِها الصغير بصغره والكبير بكبره ، فاحْتَمَلَ السّيْلُ زَبَدا رابِيا أي عاليا ، ومِمّا يُوقدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْتغاءَ حِلْيَةٍ أوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مثْلُهُ كذلكَ يَضْرِبُ اللّهُ الحَقّ والباطلَ فأمّا الزّبَدُ فَيَذْهُب جُفاءً والجفاء : ما يتعلق بالشجر ، وأمّا ما يَنْفَعُ النّاسَ فيَمْكُثُ فِي الأرْضِ . هذه ثلاثة أمثال ضربها الله في مثل واحد ، يقول : كما اضمحلّ هذا الزبد فصار جفاء لا ينتفع به ولا ترجى بركته ، كذلك يضمحلّ الباطل عن أهله كما اضمحلّ هذا الزبد ، وكما مكث هذا الماء في الأرض ، فأمرعت هذه الأرض ، وأخرجت نباتها ، كذلك يبقى الحقّ لأهله كما بقي هذا الماء في الأرض ، فأخرج الله به ما أخرج من النبات . قوله : ومِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ . . . الآية ، كما يبقى خالص الذهب والفضة ، حين أدخل النار وذهب خَبَثه ، كذلك يبقى الحقّ لأهله . قوله : أوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ يقول : هذا الحديد والصفر الذي ينتفع به ، فيه منافع : يقول : كما يبقى خالص هذا الحديد وهذا الصفر حين أدخل النار وذهب خبثه ، كذلك يبقى الحقّ لأهله كما بقي خالصهما .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : فَسالَتْ أوْدِيَة بقَدَرِها الكبير بقدره والصغير بقدره . زَبَدًا رَابيا قال : ربا فوق الماء الزبد . ومِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ قال : هو الذهب إذا أدخل النار بقي صفوه ونفى ما كان كدره وهذا مثل ضربه اللّهُ . للحقّ والباطل ، فأمّا الزّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً يتعلق بالشجر فلا يكون شيئا مثل الباطل ، وأمّا ما يَنْفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ وهذا يخرج النبات ، وهو مثل الحقّ أوْ مَتاعٍ زَبَدُ مِثْلُهُ قال : المتاع : الصّفْر والحديد .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا هَوْذة بن خليفة ، قال : حدثنا عوف ، قال : بلغني في قوله : أنْزَلَ مِنَ السّماءِ ماءً فَسالَتْ أوْدِيَةٌ بِقَدَرِها قال : إنما هو مثل ضربه الله للحقّ والباطل ، فَسالَتْ أوْدِيَةٌ بِقَدَرِها الصغير على قدره ، والكبير على قدره ، وما بينهما على قدره . فاحْتَمَلَ السّيْلُ زَبَدًا رَابيا يقول : عظيما ، وحيث استقرّ الماء يذهب الزبد جُفاء فتطير به الريح ، فلا يكون شيئا ، ويبقى صريح الماء الذي ينفع الناس منه شرابهم ونباتهم ومنفعتهم . أوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ ومثل الزبد كل شيء يوقد عليه في النار الذهب والفضة والنحاس والحديد ، فيذهب خبثه ويبقى ما ينفع في أيديهم ، والخَبَث والزّبَد مثل الباطل ، والذي ينفع الناس مما تحصّل في أيديهم مما ينفعهم المال الذي في أيديهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ومِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ قال : هذا مثل ضربه الله للحقّ والباطل . فقرأ : أنْزَلَ مِنَ السّماءِ ماءً فَسالَتْ أوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فاحْتَمَلَ السّيْلُ زَبَدًا رابِياهذا الزبد لا ينفع ، أو متاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ هذا لا ينفع أيضا ، قال : وبقي الماء في الأرض فنفع الناس ، وبقي الحليُ الذي صلح من هذا ، فانتفع الناس به . فأمّا الزّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وأمّا ما يَنْفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ في الأرْضِ كذلكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأمْثالَ وقال : هذا مثل ضربه الله للحقّ والباطل .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : أوْدِيَةٌ بِقَدَرِها قال : الصغير بصغره ، والكبير بكبره .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا طلحة بن عمرو ، عن عطاء : ضرب الله مثلاً للحقّ والباطل ، فضرب مثل الحقّ كمثل السيل الذي يمكث في الأرض ، وضرب مثل الباطل كمثل الزّبَد الذي لا ينفع الناس .
وعنى بقوله رَابِيا : عاليا منتفخا ، من قولهم : ربا الشيء يرْبُو رُبُوّا فهو راب ، ومنه قيل للنشَز من الأرض كهيئة الأكمة : رابية ومنه قول الله تعالى : اهْتَزّتْ وَرَبَتْ . وقيل للنحاس والرصاص والحديد في هذا الموضع : المتاع ، لأنه يُستمتع به ، وكلّ ما يتمتع به الناس فهو متاع كما قال الشاعر :
تَمَتّعْ يا مُشَعّثُ إنّ شَيْئا *** سَبَقْتَ بهِ المَماتَ هُوَ المَتاعُ
حُدثت عن أبي عبيدة مَعْمَرِ بن المُثَنّى ، قال : قال أبو عمرو بن العلاء ، يقال : قد أجفأتِ القِدرُ ، وذلك إذا غَلَتْ فانصبّ زَبَدُها ، أو سكنت فلا يبقى منه شيء .
وقد زعم بعض أهل العربية من أهل البصرة أن معنى قوله : فَيَذْهَبُ جُفاءً تَنْشَفُه الأرض ، وقال : يقال : جفا الوادي وأجفى في معنى نَشِف ، وانجفى الوادي : إذا جاء بذلك الغثاء ، وغثى الوادي فهو يَغْثَى غَثْيا وغَثَيانا . وذَكَر عن العرب أنها تقول : جَفَأْتُ القدَر أجْفَؤها : إذا أخرجت جُفاءَها ، وهو الزّبَد الذي يعلوها ، وأجْفَأْتُها إجْفَاءً لغة . قال : وقالوا : جَفَأتُ الرجل جَفْا : صرعته .
وقيل : فَيَذْهَبُ جُفاءً بمعنى جَفْئا ، لأنه مصدر من قول القائل : جَفَأَ الوادي غُثاءه ، فخَرَجَ مَخرَج الاسم وهو مصدر ، كذلك تفعل العرب في مصدر كلّ ما كان من فعل شيء اجتمع بعضه إلى بعض كالقُماش والدّقاق والحُطام والغُثاء ، تخرجه على مذهب الاسم ، كما فعلت ذلك في قولهم : أعطيته عطاء ، بمعنى الإعْطَاء ، ولو أريد من القُماش المصدر على الصحة لقيل : قد قَمَشْته قَمْشا .
{ أنزل من السماء ماء } من السحاب أو من جانب السماء أو من السماء نفسها فإن المبادئ منها . { فسالت أودية } أنهار جمع واد وهو الموضع الذي يسيل الماء فيه بكثرة فاتسع فيه ، واستعمل للماء الجاري فيه وتنكيرها لأن المطر يأتي على تناوب بين البقاع . { بقدرها } بمقدارها الذي علم الله تعالى أنه نافع غير ضار أو بمقدارها في الصغر والكبر . { فاحتمل السيل زبداً } رفعه والزبد وضر الغليان . { رابيا } عاليا . { ومما يوقدون عليه في النار } يعم الفلزات كالذهب والفضة والحديد والنحاس على وجه التهاون بها إظهارا لكبريائه . { ابتغاء حليةٍ } أي طلب حلى . { أو متاعٍ } كالأواني وآلات الحرب والحرث ، والمقصود من ذلك بيان منافعها . { زبدٌ مثله } أي ومما يوقدون عليه زبد مثل زبد الماء وهو خبثه ، و{ من } للابتداء أو للتبعيض وقرأ حمزة والكسائي وحفص بالياء على أن الضمير للناس وإضماره للعمل به . { كذلك يضرب الله الحق والباطل } مثل الحق والباطل فإنه مثل الحق في إفادته وثباته بالماء الذي ينزل من السماء فتسيل به الأودية على قدر الحاجة والمصلحة فينتفع به أنواع المنافع ، ويمكث في الأرض بأن يثبت بعضه في منافعه ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون والقنى والآبار ، وبالفلز الذي ينتفع به في صوغ الحلى واتخاذ الأمتعة المختلفة ويدوم ذلك مدة متطاولة ، والباطل في قلة نفعه وسرعة زواله بزبدهما وبين ذلك بقوله : { فأما الزّبد فيذهب جُفاءً } يجفأ به أي يرمي به السيل والفلز المذاب وانتصابه على الحال وقرئ جفالا والمعنى واحد . { وأما ما ينفع الناس } كالماء وخلاصة الفلز . { فيمكث في الأرض } ينتفع به أهلها . { كذلك يضرب الله الأمثال } لإيضاح المشتبهات .
صدر هذه الآية تنبيه على قدرة الله ، وإقامة الحجة على الكفرة به ، فلما فرغ ذكر ذلك جعله مثالاً للحق والباطل ، والإيمان والكفر ، والشك في الشرع واليقين به .
وقوله : { أنزل من السماء ماء } يريد به المطر ، و «الأودية » ما بين الجبال من الانخفاض والخنادق ، وقوله : { بقدرها } يحتمل أن يريد بما قدر لها من الماء ، ويحتمل أن يريد بقدر ما تحتمله على قدر صغرها وكبرها .
وقرأ جمهور الناس : «بقدَرها » بفتح الدال ، وقرأ الأشهب العقيلي : «بقدْرها » بسكون الدال .
و «الزبد » ما يحمله السيل من غثاء ونحوه وما يرمي به ضفتيه من الجباب الملتبك{[6951]} به ، ومنه قول حسان بن ثابت :
ما البحر حينَ تهبُّ الريحُ شاميةً . . . فيغطئلُّ ويرمي العبر بالزبد{[6952]}
و «الرابي » : المنتفخ الذي قد ربا ، ومنه الربوة .
وقوله : { ومما } خبر ابتداء ، والابتداء قوله : { زبد } ، و { مثله } نعت ل { زبد } .
والمعنى : ومن الأشياء التي { توقدون } عليها ابتغاء الحلي وهي الذهب والفضة ، ابتغاء الاستمتاع بما في المرافق ، وهي الحديد والرصاص والنحاس ونحوها من الأشياء التي { توقدون } عليها ، فأخبر تعالى أن من هذه إذا أحمي عليها يكون { زبد } مماثل للزبد الذي حمله السيل ، ثم ضرب تعالى ذلك مثالاً ل { الحق والباطل } أي أن الماء الذي تشربه الأرض من السيل فيقع النفع به هو «كالحق » - و { الزبد } الذي يجمد وينفش{[6953]} ويذهب هو كالباطل ، وكذلك ما يخلص من الذهب والفضة والحديد ونحوها هو كالحق ، وما يذهب في الدخان هو كالباطل .
وقوله : { في النار } متعلق بمحذوف تقديره : كائناً أو ثابتاً - كذا قال مكي وغيره - ومنعوا أن يتعلق بقوله : { توقدون } لأنهم زعموا : ليس يوقد على شيء إلا وهو { في النار } وتعليق حرف الجر ب { توقدون } يتضمن تخصيص حال من حال أخرى{[6954]} . وذهب أبو علي الفارسي إلى تعلقها ب { توقدون } وقال : قد يوقد على شيء وليس في النار كقوله تعالى : { فأوقد لي يا هامان على الطين }{[6955]} [ القصص : 38 ] فذلك البناء الذي أمر به يوقد عليه وليس في النار لكن يصيبه لهبها .
وقوله : { جفاء } مصدر من قولهم : أجفأت القدر إذا غلت حتى خرج زبدها وذهب .
وقرأ رؤبة : «جفالاً » من قولهم : جفلت الريح السحاب ، إذا حملته وفرقته . قال أبو حاتم : لا تعتبر قراءة الأعراب{[6956]} في القرآن .
وقوله : { ما ينفع الناس } يريد الخالص من الماء ومن تلك الأحجار ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم - في رواية أبي بكر ، وأبو جعفر والأعرج وشيبة والحسن : «توقدون » بالتاء ، أي أنتم أيها الموقدون ، وهي صفة لجميع أنواع الناس ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وابن محيصن ومجاهد وطلحة ويحيى وأهل الكوفة : «يوقدون » بالياء ، على الإشارة إلى الناس ، و { جفاء } مصدر في موضع الحال .
قال القاضي أبو محمد : وروي عن ابن عباس أنه قال : قوله تعالى : { أنزل من السماء ماء } يريد به الشرع والدين . وقوله : { فسالت أودية } : يريد به القلوب ، أي أخذ النبيل بحظه . والبليد بحظه{[6957]} .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول لا يصح - والله أعلم - عن ابن عباس ، لأنه ينحو إلى أقوال أصحاب الرموز ، وقد تمسك به الغزالي وأهل ذلك الطريق ، ولا وجه لإخراج اللفظ عن مفهوم كلام العرب لغير علة تدعو إلى ذلك ، والله الموفق للصواب برحمته ، وإن صح هذا القول عن ابن عباس فإنما قصد أن قوله تعالى : { كذلك يضرب الله الحق والباطل } معناه : { الحق } الذي يتقرر في القلوب المهدية ، { والباطل } : الذي يعتريها{[6958]} أيضاً من وساوس وشبه حين تنظر في كتاب الله عز وجل .
جملة { أنزل من السماء ماء } استئناف ابتدائي أفاد تسجيل حرمان المشركين من الانتفاع بدلائل الاهتداء التي من شأنها أن تهدي من لم يطبع الله على قلبه فاهتدى بها المؤمنون .
وجيء في هذا التسجيل بطريقة ضرب المثل بحالي فريقين في تلقي شيء واحد انتفع فريق بما فيه من منافع وتعلق فريق بما فيه من مضار . وجيء في ذلك التمثيل بحالة فيها دلالة على بديع تصرف الله تعالى ليحصل التخلص من ذكر دلائل القدرة إلى ذكر عبَر الموعظة ، فالمركب مستعمل في التشبيه التمثيلي بقرينة قوله : { كذلك يضرب الله الحق } الخ .
شبه إنزال القرآن الذي به الهدى من السماء بإنزال الماء الذي به النفع والحياة من السماء . وشبه ورود القرآن على أسماع الناس بالسيل يمر على مختلف الجهات فهو يَمرّ على التّلال والجبال فلا يستقر فيها ولكنه يمضي إلى الأودية والوهاد فيأخذ منه كُلّ بقدر سعته . وتلك السيول في حال نزولها تحمل في أعاليها زَبَداً ، وهو رغوة الماء التي تربو وتطفو على سطح الماء ، فيذهب الزبد غير منتفع به ويبقى الماء الخالص الصافي ينتفع به الناس للشراب والسقي .
ثم شُبهت هيئة نزول الآيات وما تحتوي عليه من إيقاظ النظر فيها فينتفع به من دخل الإيمان قلوبهم على مقادير قوة إيمانهم وعملهم ، ويمر على قلوب قوم لا يشعرون به وهم المنكرون المعرضون ، ويخالط قلوبَ قوم فيتأملونه فيأخذون منه ما يثير لهم شبهات وإلحاداً . كقولهم : { هل ندلّكم على رجل ينبئكم إذا مُزّقتم كلّ ممزّق إنكم لفي خلق جديد } . ومنه الأخذ بالمتشابه قال تعالى : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله } [ سورة آل عمران : 7 ] .
شبه ذلك كله بهيئة نزول الماء فانحدَارِه على الجبال والتلال وسيلانه في الأودية على اختلاف مقاديرها ، ثم ما يدفع من نفسه زبداً لا ينتفع به ثم لم يلبث الزبد أن ذهب وفني والماء بقي في الأرض للنفع .
ولما كان المقصود التشبيه بالهيئة كلها جيء في حكاية ما ترتب على إنزال الماء بالعطف بفاء التفريع في قوله : { فسالت } وقوله : { فاحتمل } فهذا تمثيل صالح لتجزئة التشبيهات التي تركب منها وهو أبلغ التمثيل .
وعلى نحو هذا التمثيل وتفسيره جاء ما يبينه من التمثيل الذي في قول النبي صلى الله عليه وسلم " مثَل ما بعثني الله به من الهُدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نقيّة قبلتْ الماء فأنبتت الكلأ والعُشْبَ الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناسَ فشربوا وسقَوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفةً أخرى إنما هي قيعَان لا تمسك ماء ولا نتنبت كلأ ، مثلَ منْ فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعَلِم وعلّم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هُدى الله الذي أرسلتُ به " .
والأودية : جمع الوادي ، وهو الحفير المتسع الممتد من الأرض الذي يجري فيه السيل . وتقدم في سورة براءة عند قوله تعالى : { ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم } [ سورة التوبة : 121 ] .
والقَدَر بفتحتين : التقدير ، فقوله : { بقدرها } في موضع الحال من { أودية } ، وذكره لأنه من مواضع العبرة ، وهو أن كانت أخاديد الأودية على قَدْر ما تحتمله من السيول بحيث لا تفيض عليها وهو غالب أحوال الأودية . وهذا الحال مقصود في التمثيل لأنه حال انصراف الماء لنفععٍ لا ضرّ معه ، لأنّ من السيول جواحف تجرف الزرع والبيوت والأنعام .
وأيضاً هو دال على تفاوت الأودية في مقادير المياه . ولذلك حظ من التشبيه وهو اختلاف الناس في قابلية الانتفاع بما نزل من عند الله كاختلاف الأودية في قبول الماء على حسب ما يسيل إليها من مصاب السيول ، وقد تم التمثيل هنا .
وجملة { ومما توقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله } معترضة بين جملة { فاحتمل } الخ وجملة { فأما الزبد } الخ .
وهذا تمثيل آخر ورد استطراداً عقب ذكر نظيره يفيد تقريب التمثيل لقوم لم يشاهدوا سيول الأودية من سكان القرى مثل أهل مكّة وهم المقصود ، فقد كان لهم في مكة صواغون كما دل عليه حديث الإذخر ، فقرب إليهم تمثيل عدم انتفاعهم بما انتفع به غيرهم بمَثَل ما يصهْر من الذهب والفضة في البواتق فإنه يقذف زبداً ينتفي عنه وهو الخَبث وهو غير صالح لشيء في حين صلاح معدنه لاتخاذه حلية أو متاعاً . وفي الحديث « كما ينفي الكير خبث الحديد » . فالكلام من قبيل تعدّد التشبيه القريب ، كقوله تعالى : { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } ثم قوله : { أو كصيب من السماء } [ سورة البقرة : 19 ] .
فتنازعَا سَبطا يَطير ظِلالُه *** كدُخان مُشْعَلَة يَشِبّ ضرامها
مشمُولَةٍ غُلثت بنابتِ عَرفَج *** كدُخان نار سَاطع إسنامها
وأفاد ذلك في هذه الآية قوله : { زبد مثله } .
وتقديم المسند على المسند إليه في هذه الجملة للاهتمام بالمسند لأنّه موضع اعتبار أيضاً ببديع صنع الله تعالى إذ جعل الزبد يطفو على أرقّ الأجسام وهو الماء وعلى أغلظها وهو المعدن فهو ناموس من نواميس الخلقة ، فبالتقديم يقع تشويق السامع إلى ترقب المسند إليه .
وهذا الاهتمام بالتشبيه يشبه الاهتمام بالاستفهام في قول النبي صلى الله عليه وسلم في وصف جهنم « فإذا فيها كلاليبُ مثل حَسك السعدان هل رأيتم حسك السعدان » .
وعدل عن تسمية الذهب والفضة إلى الموصولية بقوله تعالى : { ومما توقدون عليه في النار } لأنها أخصر وأجمع ، ولأن الغرض في ذكر الجملة المجعولة صلة ، فلو ذكرت بكيفية غير صلة كالوصفية مثلاً لكانت بمنزلة الفضلة في الكلام ولطال الكلام بذكر اسم المَعْدنين مع ذكر الصلة إذ لا مَحيد عن ذكر الوقود لأنه سبب الزبد ، فكان الإتيان بالموصول قضاءً لحق ذكر الجملة مع الاختصار البديع .
ولأنّ في العدول عن ذكر اسم الذهب والفضة إعراضاً يؤذن بقلة الاكتراث بهما ترفعاً عن وَلع النّاس بهما فإن اسميهما قد اقترنا بالتعظيم في عرف النّاس .
و { من } في قوله : { ومما توقدون } ابتدائية .
و { ابتغاء حلية أو متاع } مفعول لأجله متعلق ب { توقدون } . ذكر لإيضاح المراد من الصلة ولإدماج ما فيه من منة تسخير ذلك للناس . لشدة رغبتهم فيهما .
والحلية : ما يتحلى به ، أي يتزين وهو المصوغ .
والمتاع : ما يتمتع به وينتفع ، وذلك المسكوك الذي يَتعامل به الناس من الذهب والفضة .
وقرأ الجمهور { توقدون } بفوقية في أوله على الخطاب ، وقرأه حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وخلف بتحتية على الغيبة .
وجملة { كذلك يضرب الله الحق والباطل } معترضة ، هي فذلكة التمثيل ببيان الغرض منه ، أي مثل هذه الحالة يكون ضَرْب مثل للحق والباطل . فمعنى { يضرب } يبيّن ويُمثل . وقد تقدم معنى يضرب عند قوله تعالى : { إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً } في سورة البقرة ( 26 ) .
فحُذف مضاف في قوله : { يضرب الله الحق } ، والتقدير : يضرب الله مَثَلَ الحق والباطل ، دلالة فعل { يضرب } على تقدير هذا المضاف .
وحذف الجار من { الحق } لتنزيل المضاف إليه منزلة المضاف المحذوف .
وقد علم أن الزبد مثَل للباطل وأن الماء مثَل للحق ، فارتقى عند ذلك إلى ما في المثلين من صفتي البقاء والزوال ليتوصل بذلك إلى البشارة والنذارة لأهل الحق وأهل الباطل بأن الفريق الأول هو الباقي الدائم ، وأن الفريق الثاني زائل بائد ، كقوله : { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أنّ الأرض يرثها عباديَ الصالحون إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين } [ الأنبياء : 105 ، 106 ] ، فصار التشبيه تعريضاً وكناية عن البشارة والنذارة ، كما دل عليه قوله عقب ذلك { للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له } [ الرعد : 18 ] الخ كما سيأتي قريباً .
فجملة { فأما الزبد } معطوفة على جملة { فاحتمل السيل زبداً رابيا } مفرّعةٌ على التمثيل . وافتتحت ب { أما } للتوكيد وصَرْف ذهن السامع إلى الكلام لما فيه من خفي البشارة والنذارة ، ولأنه تمام التمثيل . والتقدير : فذهب الزبد جُفاء ومكُث ما ينفع الناس في الأرض .
والجُفاء : الطريح المرميُّ ، وهذا وعيد للمشركين بأنهم سيبيدون بالقتل ويبقى المؤمنون .
وعبر عن الماء بما ينفع الناس للإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو البقاء في الأرض تعريضاً للمشركين بأن يعرضوا أحوالهم على مضمون هذه الصلة ليعلموا أنهم ليسوا ما ينفع الناس ، وهذه الصلة موازنة للوصف في قوله تعالى : { إن الأرض يرثها عبادي الصالحون } [ سورة الأنبياء : 105 ] .
واكتفي بذكر وجه شبه النافع بالماء وغير النافع بالزبد عن ذكر وجه شَبَه النافع بالذهب أو الفضة وغير النافع بزبدهما استغناء عنه .
وجملة { كذلك يضرب الله الأمثال } مستأنفة تذييلية لما في لفظ { الأمثال } من العموم . فهو أعم من جملة { كذلك يضرب الله الحق والباطل } لدلالتها على صنف من المثل دون جميع أصنافه فلما أعقب بمثل آخر وهو { فأما الزبد فيذهب جفاء } جيء بالتنبيه إلى الفائدة العامة من ضرب الأمثال . وحصل أيضاً توكيد جملة { كذلك يضرب الله الحق والباطل } لأن العام يندرج فيه الخاص .
فإشارة { كذلك } إلى التمثيل السابق في جملة { أنزل من السماء ماء } أي مثل ذلك الضَرْب البديع يضرب الله الأمثال ، وهو المقصود بهذا التذييل .
والإشارة للتنويه بذلك المثل وتنبيه الأفهام إلى حكمته وحكمة التمْثيل ، وما فيه من المواعظ والعبر ، وما جمعه من التمثيل والكناية التعريضية ، وإلى بلاغة القرآن وإعجازه ، وذلك تبهيج للمؤمنين وتحدّ للمشركين ، وليعلم أن جملة { فأما الزبد فيذهب جفاء } لم يؤت بها لمجرد تشخيص دقائق القدرة الإلهية والصنع البديع بل ولضرب المثَل ، فيعلمَ لممثّل له بطريق التعريض بالمشركين والمؤمنين ، فيكون الكلام قد تم عند قوله : { كذلك يضرب الله الأمثال } كما في شأن التذييل .