ولهذا أخبر تعالى أنه عاقبهم بالذلة في بواطنهم والمسكنة على ظواهرهم ، فلا يستقرون ولا يطمئنون { إلا بحبل } أي : عهد { من الله وحبل من الناس } فلا يكون اليهود إلا تحت أحكام المسلمين وعهدهم ، تؤخذ منهم الجزية ويستذلون ، أو تحت أحكام النصارى وقد { باءوا } مع ذلك { بغضب من الله } وهذا أعظم العقوبات ، والسبب الذي أوصلهم إلى هذه الحال ذكره الله بقوله : { ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله } التي أنزلها الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم الموجبة لليقين والإيمان ، فكفروا بها بغيا وعنادا { ويقتلون الأنبياء بغير حق } أي : يقابلون أنبياء الله الذين يحسنون إليهم أعظم إحسان بأشر مقابلة ، وهو القتل ، فهل بعد هذه الجراءة والجناية شيء أعظم منها ، وذلك كله بسبب عصيانهم واعتدائهم ، فهو الذي جرأهم على الكفر بالله وقتل أنبياء الله .
ذلك أنه قد ( ضربت عليهم الذلة ) وكتبت لهم مصيرا . فهم في كل أرض يذلون ، لا تعصمهم إلا ذمة الله وذمة المسلمين - حين يدخلون في ذمتهم فتعصم دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وتنيلهم الأمن والطمأنينة - ولم تعرف يهود منذ ذلك الحين الأمن إلا في ذمة المسلمين . ولكن يهود لم تعاد أحدا في الأرض عداءها للمسلمين ! . . ( وباءوا بغضب من الله ) كأنما رجعوا من رحلتهم يحملون هذا الغضب . ( وضربت عليهم المسكنة ) تعيش في ضمائرهم وتكمن في مشاعرهم . .
ولقد وقع ذلك كله بعد نزول هذه الآية . فما كانت معركة بين المسلمين وأهل الكتاب إلا كتب الله فيها للمسلمين النصر - ما حافظوا على دينهم واستمسكوا بعقيدتهم ، وأقاموا منهج الله في حياتهم - وكتب لأعدائهم المذلة والهوان إلا أن يعتصموا بذمة المسلمين أو أن يتخلى المسلمون عن دينهم .
ويكشف القرآن عن سبب هذا القدر المكتوب على يهود . فإذا هو سبب عام يمكن أن تنطبق آثاره على كل قوم ، مهما تكن دعواهم في الدين : إنه المعصية والاعتداء :
( ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ، ويقتلون الأنبياء بغير حق . ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ) .
فالكفر بآيات الله - سواء بإنكارها أصلا ، أو عدم الاحتكام إليها وتنفيذها في واقع الحياة - وقتل الأنبياء بغير حق . وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس كما جاء في آية أخرى في السورة - والعصيان والاعتداء . . هذه هي المؤهلات لغضب الله ، وللهزيمة والذلة والمسكنة . . وهذه هي المؤهلات التي تتوافر اليوم في البقايا الشاردة في الأرض من ذراري المسلمين . الذين يسمون أنفسهم - بغير حق - مسلمين ! هذه هي المؤهلات التي يتقدمون بها إلى ربهم اليوم ، فينالون عليها كل ما كتبه الله على اليهود من الهزيمة والذلة والمسكنة . فإذا قال أحد منهم : لماذا نغلب في الأرض ونحن مسلمون ؟ فلينظر قبل أن يقولها : ما هو الإسلام ، ومن هم المسلمون ؟ !
{ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوَاْ إِلاّ بِحَبْلٍ مّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مّنَ النّاسِ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْاْ وّكَانُواْ يَعْتَدُونَ }
يعني بقول جلّ ثناؤه { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذّلّةُ } ألزموا الذلة ، والذلة : الفعلة من الذلّ ، وقد بينا ذلك بشواهده في غير هذا الموضع . { أيْنَما ثُقِفُوا } يعني : حيثما لقوا . يقول جلّ ثناؤه : ألزم اليهود المكذّبون بمحمد صلى الله عليه وسلم الذلة أينما كانوا من الأرض ، وبأيّ مكان كانوا من بقاعها من بلاد المسلمين والمشركين ، إلا بحبل من الله ، وحبل من الناس كما :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا هوذة ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن في قوله : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ أيْنَما ثُقفُوا إلاّ بِحَبْلٍ مِنَاللّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المَسْكَنَةُ } قال : أدركتهم هذه الأمة ، وإن المجوس لتجبيهم الجزية .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، قل : حدثنا عباد ، عن الحسن في قوله : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ أيْنَما ثُقِفُوا إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ } قال : أذلهم الله فلا منعة لهم وجعلهم الله تحت أقدام المسلمين .
وأما الحبل الذي ذكره الله في هذا الموضع ، فإنه السبب الذي يأمنون به على أنفسهم من المؤمنين ، وعلى أموالهم وذراريهم من عهد وأمان تقدم لهم عقده قبل أن يثقفوا في بلاد الإسلام . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { إلاّ بْحَبْلٍ مِنَ اللّهِ } قال : بعهد ، { وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ } قال : بعهدهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ أيْنَما ثُقِفُوا إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ } يقول : إلا بعهد من الله ، وعهد من الناس .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا يزيد ، عن عثمان بن غياث ، قال عكرمة : يقول : { إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ } قال : بعهد من الله ، وعهد من الناس .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ } يقول : إلا بعهد من الله ، وعهد من الناس .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : { إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ } يقول : إلا بعهد من الله ، وعهد من الناس .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { أيْنَما ثُقِفُوا إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ } فهو عهد من الله ، وعهد من الناس ، كما يقول الرجل : ذمة الله ، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فهو الميثاق .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال مجاهد : { أيْنَما ثُقِفُوا إلاّ بْحَبلٍ مِنَ اللّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ } قال : بعهد من الله ، وعهد من الناس لهم . قال ابن جريج وقال عطاء : العهد : حبل الله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { أيْنَما ثُقِفُوا إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ } قال : إلا بعهد وهم يهود ، قال : والحبل : العهد . قال : وذلك قول أبي الهيثم بن التيهان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتته الأنصار في العقبة : أيها الرجل إنا قاطعون فيك حبالاً بيننا وبين الناس ، يقول : عهودا . قال : واليهود لا يأمنون في أرض من أرض الله إلا بهذا الحبل الذي الله قال عزّ وجلّ ، وقرأ : { وَجاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُوا إلى يَوْمِ القِيامَةِ } قال : فليس بلد فيه أحد من النصارى إلا وهم فوق يهود في شرق ولا غرب هم في البلدان كلها مستذلون ، قال الله : { وَقَطّعناهُمْ فِي الأرْض أمما } يهود .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك في قوله : { إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ } بقول : بعهد من الله ، وعهد من الناس .
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، مثله .
واختلف أهل العربية في المعنى الذي جلب الباء في قوله : { إلاّ بحَبْلٍ مِنَ اللّه وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ } فقال بعض نحويي الكوفة : الذي جلب الباء في قوله : { بِحَبْلٍ } فعل مضمر قد ترك ذكره . قال : ومعنى الكلام : ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا ، إلا أن يعتصموا بحبل من الله ، فأضمر ذلك . واستشهد لقوله ذلك بقول الشاعر :
رأتْنِي بِحَبْلَيْها فَصَدّتْ مَخافَةً *** وفي الحَبْل رَوْعاءُ الفُؤاد فَرُوقُ
وقال : أراد : أقْبَلْتُ بحبليها . وبقول الاَخر :
حَنَتْنِي حانِياتُ الدّهْر حتى *** كأني خاتِلٌ أحْنُو لِصَيْد
فأوجب إعمال فعل محذوف وإظهار صلته وهو متروك ، وذلك في مذاهب العربية ضعيف ، ومن كلام العرب بعيد . وأما ما استشهد به لقوله من الأبيات ، فغير دالّ على صحة دعواه ، لأن في قول الشاعر : «رأتني بحبليها » ، دلالة بينة في أنها رأته بالحبل ممسكا ، ففي إخباره عنها أنها رأته بحبليها إخبار منه أنها رأته ممسكا بالحبلين ، فكان فيما ظهر من الكلام مستغنى عن ذكر الإمساك ، وكانت الباء صلة لقوله : «رأتني » ، كما في قول القائل : أنا بالله مكتف بنفسه ، ومعرفة السامع معناه أن تكون الباء محتاجة إلى كلام يكون لها جالبا غير الذي ظهر ، وأن المعنى أنا بالله مستعين .
وقال بعض نحويي البصرة : قوله : { إلاّ بَحَبْلٍ مِنَ اللّهِ } استثناء خارج من أوّل الكلام ، قال : وليس ذلك بأشدّ من قوله : { لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْوا إلاّ سَلاما } .
وقال آخرون من نحويي الكوف : هو استثناء متصل . والمعنى : ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا : أي بكلّ مكان ، إلا بموضع حبل من الله ، كما تقول : ضربت عليهم الذلة في الأمكنة إلا في هذا المكان ، وهذا أيضا طلب الحقّ ، فأخطأ المفصل ، وذلك أنه زعم أنه استثناء متصل ، ولو كان متصلاً كما زعم لوجب أن يكون القوم إذا ثقفوا بحبل من الله وحبل من الناس غير مضروبة عليهم المسكنة ، وليس ذلك صفة اليهود لأنهم أينما ثقفوا بحبل من الله وحبل من الناس ، أو بغير حبل من الله عزّ وجلّ ، وغير حبل من الناس ، فالذلة مضروبة عليهم على ما ذكرنا عن أهل التأويل قبل . فلو كان قوله : { إلاّ بحَبْلٍ مِنَ الله وَحَبْلٍ مِنَ النّاس } استثناء متصلاً لوجب أن يكون القوم إذا ثقفوا بعهد وذمة ، أن لا تكون الذلة مضروبة عليهم . وذلك خلاف ما وصفهم الله به من صفتهم ، وخلاف ما هم به من الصفة ، فقد تبين أيضا بذلك فساد قول هذا القائل أيضا . ولكن القول عندنا أن الباء في قوله : { إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّهِ } أدخلت لأن الكلام الذي قبل الاستثناء مقتض في المعنى الباء ، وذلك أن معنى قولهم : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةَ أيْنَما ثُقِفُوا } : ضربت عليهم الذلة بكل مكان ثقفوا ، ثم قال : { إلاّ بَحْبلٍ مِنَ اللّهِ وَحبْلٍ مِنَ النّاسِ } على غير وجه الاتصال بالأول ، ولكنه على الانقطاع عنه ، ومعناه : ولكن يثقفون بحبل من الله وحبل من الناس ، كما قيل : { وَما كانَ لمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنا إلاّ خَطأً } فالخطأ وإن كان منصوبا بما عمل فيما قبل الاستنثاء ، فليس قوله باستثناء متصل بالأوّل بمعنى إلا خطأ ، فإن له قتله كذلك ، ولكن معناه : ولكن قد يقتله خطأ ، فكذلك قوله : { أيْنَما ثُقِفُوا إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّهِ } وإن كان الذي جلب الباء التي بعد إلا الفعل الذي يقتضيها قبل إلا ، فليس الاستثناء بالاستثناء المتصل بالذي قبله بمعنى أن القوم إذا لقوا ، فالذلة زائلة عنهم ، بل الذلة ثابتة بكلّ حال ، ولكن معناه ما بينا آنفا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَباءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المَسْكَنَةُ ذَلِكَ بأنّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بآياتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقّ } .
يعني تعالى ذكره : { وَباءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ } : وتحملوا غضب الله ، فانصرفوا به مستحقيه . وقد بينا أصل ذلك بشواهده ، ومعنى المسكنة ، وأنها ذلّ الفاقة والفقر وخشوعهما ، ومعنى الغضب من الله فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وقوله : { ذَلِكَ بأنّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بآياتِ اللّهِ } يعني جلّ ثناؤه بقوله ذلك : أي بَؤؤُهم الذي باءوا به من غضب الله ، وضرب الذلة عليهم ، بدل مما كانوا يكفرون بآيات الله ، يقول : مما كانوا يجحدون أعلام الله وأدلته على صدق أنبيائه ، وما فرض عليهم من فرائضه . { وَيَقْتُلُونَ الأنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقّ } يقول : وبما كانوا يقتلون أنبياءهم ورسل الله إليهم ، اعتداء على الله ، وجراءة عليه بالباطل ، وبغير حقّ استحقوا منهم القتل .
فتأويل الكلام : ألزموا الذلة بأيّ مكان لقوا ، إلا بذمة من الله وذمة من الناس ، وانصرفوا بغضب من الله متحمليه ، وألزموا ذلّ الفاقة ، وخشوع الفقر ، بدلاً مما كانوا يجحدون بآيات الله ، وأدلته وحججه ، ويقتلون أنبياءه بغير حقّ ظلما واعتداء .
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ } .
يقول تعالى ذكره : فعلنا بهم ذلك بكفرهم ، وقتلهم الأنبياء ، ومعصيتهم ربهم ، واعتدائهم أمر ربهم . وقد بينا معنى الاعتداء في غير موضع فيما مضى من كتابنا بما فيه الكفاية عن إعادته . فأعلم ربنا جلّ ثناؤه عباده ، ما فعل بهؤلاء القوم من أهل الكتاب ، من إحلال الذلة والخزي بهم في عاجل الدنيا ، مع ما ادّخر لهم في الاَجل من العقوبة والنكال ، وأليم العذاب ، إذ تعدّوا حدود الله ، واستحلوا محارمه ، تذكيرا منه تعالى ذكره لهم ، وتنبيها على موضع البلاء الذي من قبله أتوا لينيبوا ويذّكروا ، وعظة منه لأمتنا ، أن لا يستنوا بسنتهم ، ويركبوا منهاجهم ، فيسلك بهم مسالكهم ، ويحلّ بهم من نقم الله ومثلاته ما أحلّ بهم . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ } اجتنبوا المعصية والعدوان ، فإن بهما أهلك من أهلك قبلكم من الناس .
{ ضربت عليهم الذلة } هدر النفس والمال والأهل ، أو ذل التمسك بالباطل والجزية . { أينما ثقفوا } وجدوا { إلا بحبل من الله وحبل من الناس } استثناء من أعم عام الأحوال أي ضربت عليهم الذلة في عامة الأحوال إلا معتصمين ، أو ملتبسين بذمة الله أو كتابة الذي آتاهم وذمة المسلمين ، أو بدين الإسلام واتباع سبيل المؤمنين . { وباؤوا بغضب من الله } رجعوا به مستوجبين له { وضربت عليهم المسكنة } فهي محيطة بهم إحاطة البيت المضروب على أهله ، واليهود في غالب الأمر فقراء ومساكين . { ذلك } إشارة إلى ما ذكر ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب . { بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق } بسبب كفرهم بالآيات وقتلهم الأنبياء . والتقييد بغير حق مع أنه كذلك في نفس الأمر للدلالة على أنه لم يكن حقا بحسب اعتقادهم أيضا . { ذلك } أي الكفر والقتل . { بما عصوا وكانوا يعتدون } بسبب عصيانهم واعتدائهم على حدود الله ، فإن الإصرار على الصغائر يفضي إلى الكبائر والاستمرار عليها يؤدي إلى الكفر . وقيل معناه أن ضرب الذلة في الدنيا واستيجاب الغضب في الآخرة كما هو معلل بكفرهم وقتلهم فهو مسبب عن عصيانهم واعتدائهم من حيث إنهم مخاطبون بالفروع أيضا .
وقوله تعالى : { ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا } كأنه بالمعنى هلكوا واستؤصلوا ، فلذلك حسن أن يجيء بعده { إلا بحبل } ، وقرب فهم ذلك للسامع ، قال الزجّاج : المعنى ضربت عليهم الذلة إلا أنهم يعتصمون بالعهد إذا أعطوه ، و «الحبل » العهد ، شبه به لأنه يصل قوماً بقوم كما يفعل الحبل في الأجرام ، و { باؤوا } معناه مضوا متحملين لهذا الحكم ، و «غضب الله عليهم » ، بما دلت عليه هذه الأمور التي أوقع بهم ، وأفعال بني إسرائيل على وجه الدهر من التعنت والعصيان توجب الغضب ، فلذلك خصوا به ، والنصارى إنما ضلوا فقط ، و { المسكنة } التذلل والضعة ، وهي حالة الطواف الملتمس للقمة واللقمتين المضارع المفارق لحالة التعفف والتعزز به ، فليس أحد من اليهود وإن كان غنياً إلا وهو بهذه الحال ، وقوله تعالى : { ذلك } إشارة إلى الغضب وضرب الذلة والمسكنة ، فعاقبهم الله على كفرهم وقتلهم الأنبياء بذلك ، و { آيات الله } : يحتمل أن يراد بها المتلوة ، ويحتمل أن يريد العبر التي عرضت عليهم ، وقوله : { بغير حق } تأكيد ومبالغة وقطع لما عسى أن يكون في وهم إنسان ممكناً بوجه ما ، وقوله تعالى : { ذلك بما عصوا } حمله المفسرون على أن الإشارة بذلك إلى الشيء الذي أشير إليه بذلك الأول ، قاله الطبري والزجّاج وغيرهما . والذي أقول : إن الإشارة ب { ذلك } الأخير إنما هي إلى كفرهم وقتلهم ، وذلك أن الله تعالى ، استدرجهم فعاقبهم على العصيان والاعتداء بالمصير إلى الكفر وقتل الأنبياء ، وهو الذي يقول أهل العلم : إن الله تعالى يعاقب على المعصية بالإيقاع في معصية ، ويجازي على الطاعة بالتوفيق إلى الطاعة ، وذلك موجود في الناس إذا تأمل{[3433]} ، وعصيان بني إسرائيل واعتداؤهم في السبت وغيره متقرر في غير ما موضع من كتاب الله ، وقال قتادة رحمه الله عندما فسر هذه الآية : اجتنبوا المعصية والعدوان فإن بها أهلك من كان قبلكم من الناس .
{ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة أَيْنَ مَا ثقفوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ الله وَحَبْلٍ مِّنَ الناس وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المسكنة } .
يعود ضمير ( عليهم ) إلى { وأكثرهم الفاسقون } [ آل عمران : 110 ] وهو خاص باليهود لا محالة ، وهو كالبيان لقوله { ثم لا ينصرون } .
والجملة بيَانيّة لذكر حال شديد من شقائهم في الدنيا .
ومعنى ضرب الذلّة اتَّصالها بهم وإحاطتها ، ففيه استعارة مكنية وتبعية شبّهت الذلّة ، وهي أمر معقول ، بقية أو خيمة شملتهم وشبّه اتّصالها وثباتها بضرب القبة وشَدّ أطنابها ، وقد تقدّم نظيره في البقرة .
و { ثُقفُوا } في الأصل أخذوا في الحرب { فإمّا تثقفنّهم في الحرب } [ الأنفال : 57 ] وهذه المادة تدلّ على تمكّن من أخذ الشيء ، وتصرّف فيه بشدّة ، ومنها سمي الأسْر ثِقافاً ، والثقاف آلة كالكلُّوب تكسر به أنابيب قنا الرّماح . قال النابغة :
* عَضّ الثِّقَافِ على صُمّ الأنَابِيب *
والمعنى هنا : أينما عثر عليهم ، أو أينما وجدوا ، أي هم لا يوجدون إلا محكومين ، شبّه حال ملاقاتهم في غير الحرب بحال أخذ الأسير لشدّة ذلّهم .
وقوله { إلا بحبل من الله وحبل من الناس } الحبل مستعار للعهد ، وتقدّم ما يتعلق بذلك عند قوله تعالى { فقد استمسك بالعروة الوثقى } في سورة البقرة ( 256 ) وعهد الله ذمّته ، وعهد النَّاس حلفهم ، ونصرهم ، والاستثناء من عموم الأحوال وهي أحوال دلّت عليها الباء التي للمصاحبة . والتَّقدير : ضربت عليهم الذلّة متلبِّسين بكُلّ حال إلاّ متلبّسين بعهد من الله وعهد من النَّاس ، فالتَّقدير : فذهبوا بذلّة إلاّ بحبل من الله .
والمعنى لا يسلمون من الذلّة إلاّ إذا تلبَّسُوا بعهد من الله ، أي ذمّة الإسلام ، أو إذا استنصروا بقبائل أولى بأس شديد ، وأمّا هم في أنفسهم فلا نصر لهم . وهذا من دلائل النُّبوّة فإنّ اليهود كانوا أعزّة بيشربَ وخيبر والنضير وقريظة ، فأصبحوا أذلّة ، وعمَّتهم المذلّة في سائر أقطار الدنيا .
{ وباءوا بغضب من الله } أي رجعوا وهو مجاز لمعنى صاروا إذ لا رجوع هنَا .
والمسكنة الفقر الشَّديد مشتقة من اسم المسكين وهو الفقير ، ولعلّ اشتقاقه من السكون وهو سكون خيالي أطلق على قلّة الحيلة في العيش . والمراد بضرب المسكنة عليهم تقديرها لهم وهذا إخبار بمغيّب لأن اليهود المخبر عنهم قد أصابهم الفقر حين أخذت منازلهم في خيبر والنَّضِير وقينُقاع وقُريظةَ ، ثُمّ بإجلائهم بعد ذلك في زمن عمر .
{ ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بآيات الله وَيَقْتُلُونَ الانبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ ذلك بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } .
الإشارة إلى ضرب الذلّة المأخوذ من { ضربت عليهم الذلّة } . ومعنى { يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء } تقدّم عند قوله تعالى : { إنّ الذين يكفرون بآيات الله } [ آل عمران : 21 ] أوائل هذه السورة .
وقوله : { ذلك بما عَصوا وكانوا يعتدون } يحتمل أن يكون إشارة إلى كفرهم وقتلهم الأنبياء بغير حقّ ، فالباء سبب السبب ، ويحتمل أن يكون إشارة ثانية إلى ضرب الذلّة والمسكنة فيكون سبباً ثانياً . ( وما ) مصدرية أي بسبب عصيانهم واعتدائهم ، وهذا نشر على ترتيب اللفّ فكفرهم بالآيات سببه العصيان ، وقتلهم الأنبياء سببه الأعتداء .