اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُۥۖ قَالَ رَبِّ هَبۡ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةٗ طَيِّبَةًۖ إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ} (38)

" هنا " هو الاسم ، واللام للبعد ، والكاف حرف خطاب ، وهو منصوب على الظرف المكاني ، ب " دعا " أي : في ذلك المكان الذي رأى فيه ما رأى من أمر مريمَ ، وهو ظرف لا يتصرف بل يلزم النصبَ على الظرفية ب " مِنْ " وَ " إلَى " .

قال الشاعر : [ الرجز ]

قَدْ وَرَدَتْ مِنْ أمكِنَهْ *** مِنْ هَاهُنَا وَمِنْ هُنَهْ{[5395]}

وحكمه حكم " ذَا " من كونه يُجَرَّد من حرف التنبيه ، ومن الكاف واللام ، نحو " هُنَا " وقد يَصْحَبه " ها " التنبيه ، نحو هاهنا ، ومع الكاف قليلاً ، نحو ها هناك ، ويمتنع الجمع بينها وبين اللام . وأخوات " هنا " بتشديد النون مع فتح الهاء وكسرها - و " ثَمَّ " بفتح الثاء - وقد يقال : " هَنَّت " . ولا يشار ب " هُنَالِكَ " وما ذُكِرَ مَعَهُ إلا للأمكنة ، كقوله : { فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ } [ الأعراف : 119 ] وقوله : { هُنَالِكَ الْوَلاَيَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ }

[ الكهف : 44 ] وقوله : { دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً } [ الفرقان : 13 ] .

وقد زعم بعضهم أن " هُنا " و " هناك " و " هنالك " للزمان ، فمن ورود " هنالك " بمعنى الزمان عند بعضهم - هذه الآية أي : في ذلك الزمان دعا زكريا ربه ، ومثله : { هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ } [ الأحزاب : 11 ] ، وقوله : { فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ } ومنه قول زهير : [ الطويل ]

هُنَالِكَ إنْ يُسْتَخْبَلُوا الْمَالَ يُخْبِلُوا *** . . . {[5396]}

ومن " هنَّا " قوله : [ الكامل ]

حَنَّتْ نُوَارُ وَلاَتَ هَنَّا حَنَّتِ *** وَبَدَا الَّذِي كَانَتْ نَوَارُ أجَنَّتِ{[5397]}

لأن " لات " لا تعمل إلا في الأحيان .

وفي عبارة السجاوندي أن " هناك " في المكان ، و " هنالك " في الزمان ، وهو سهو ؛ لأنها للمكان سواء تجردت ، أو اتصلت بالكاف واللام معاً ، أم بالكاف من دون اللام .

فصل

ذكر المفسّرون أن زكريا - عليه السلام - لما رأى خَوَارِقَ العادة عند مريم طمع في خرق العادةِ في حقه ، فرزقه الله الولد من الشيخة العاقر .

فإن قيل : لِمَ قلتم : إنَّ زكريا -عليه السلام- ما كان عالماً بأن الله قادر على خَرْق العادة إلا عند مشاهدة تلك الكرامات عند مريم ، وهذه النسبة شَكٌّ في قدرة الله -تعالى- من زكريا ، وإن قلتم بأنه كان عالماً بقدرة الله تعالى على ذلك لم تكن المشاهدة سبباً لزيادة علمه بقدرة الله - تعالى - فلم يكن لمشاهدته لتلك الكرامات أَثرٌ في السببية ؟

فالجواب : أنه كان عالماً قبل ذلك بالخوارق ، أما أنّه هل تقع أم لا ؟ فلم يكن عالماً به ، فلما شاهد وعلم أنه إذا وقع كرامة لوَلِيّ فبأن يجوز وقوع معجزة لنبيّ كان أولى ، فلا جرم قوي طمعه عند ذلك .

قوله : { مِن لَّدُنْكَ } فيه وجهان :

أحدهما : أنه يتعلق ب " هَبْ " وتكون " مِنْ " لابتداء الغاية مجازاً ، أي : يا رب هَبْ لي من عندك . ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه في الأصل صفة لِ " ذُرِّيَّة " فلما قُدِّم عليها انتَصَبَ حالاً .

وتقدم الكلام على " لَدُنْ " وأحكامها .

قال ابن الخطيب : " وقول زكريا : { هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً } لما لم تكن أسباب الولادة في حقه موجودة ، قال : { مِن لَّدُنْكَ } أي بمحض قدرتك ، من غير شيء من هذه الأسباب " .

فصل

الذرية : النسل ، وهو يقع على الواحدِ والجمعِ والذكرِ والأنثى ، والمراد - هنا - ولد واحد ، وهو مثل قوله : " فهب لي من لدنك وليًّا " .

قوله : { طَيِّبَةً } إن أريد ب " ذُرِّيَّة " الجنس ، فيكون التأنيث في " طيِّبة " باعتبار تأنيث الجماعة ، وإن أريد به ذَكر واحد فالتأنيث باعتبارِ اللفظِ .

قال الفراء : وأنّث " طَيِّبَةً " لتأنيث لفظ " الذرية " كما قال القائل في ذلك البيت : [ الوافر ]

أبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أخْرَى *** وَأنْتَ خَلِيفَةٌ ذَاكَ الْكَمَالُ{[5398]}

وهذا فيما لم يُقْصَد به واحد مُعين ، أما لو قُصِدَ به واحدٌ معيَّن امتنع اعتبار اللفظ نحو طلحة وحمزة ، فيجوز أن يُقال : جاءت طلحة ؛ لأن أسماء الأعلام لا تفيد إلا ذلك الشخص ، فإذا كان مذكَّراً لم يجز فيه إلا التذكيرُ ، وقد جمع الشاعر بين التذكير والتانيث في قوله : [ الطويل ]

فَمَا تَزْدَرِي مِنْ حَيَّةٍ جبَلِيَّةٍ *** سُكَاتٍ إذَا مَا عَضَّ لَيْسَ بِأدْرَدَا{[5399]}

قوله { سَمِيعٌ الدُّعَآءِ } مثال مبالغة ، مُحَوَّل من سامع ، وليس بمعنى مُسْمِع ؛ لفساد المعنى ؛ لأن معناه إنك سامعه ، وقيل : مُجِيبه ، كقوله : { إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ } [ يس : 25 ] أي : فأجيبوني ، وكقول المصلي : سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، يريد قبل اللهُ حَمْدَ مَنْ حَمِدَهُ من المؤمنين .

فصل

قال القرطبيُّ : دَلَّتْ هذه الآيةُ على طلب الولد ، وهي سُنَّةُ المرسلين والصِّدِّيقينَ .

قال تعالى - حكاية عن إبراهيم - : { وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ } [ الشعراء : 84 ] .

وقال تعالى : { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } [ الفرقان : 74 ] ودعا النبي صلى الله عليه وسلم لأنس فقال : " اللهُمَّ أكثر مالَه وولَده ، وبَارِك لَهُ فِيمَا أعْطَيْتَه{[5400]} " وقال صلى الله عليه وسلم : " تَزَوَّجُوا الْوَلُودَ الوَدُودَ ؛ فَإنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأمَمَ يَوْمَ الْقِيَامةِ{[5401]} " فدلَّ على أن طلب الولَد مندوبٌ إليه ؛ لِما يُرْجَى من نفعه في الدنيا والآخرة ، وقال صلى الله عليه وسلم : " إذَا مَاتَ أحَدُكُم انْقَطَع عَمَلُهُ إلاَّ مِنْ ثَلاَثٍ " فذكر " أو ولَدٌ صَالح يَدْعُو لَه " {[5402]} .

فصل

ويجب على الإنسان أن يتضرَّع إلى الله - تعالى - في هداية زوجته وولده بالتوفيق ، والهداية ، والصَّلاح ، والعَفَاف ، وأن يكونا معينَيْنِ له على دينه ودُنياه ، حتى تَعْظُم منفعتُهما قال زكريا : { وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً }[ مريم : 6 ] ، وقال : { ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } وقال تعالى : { هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } [ الفرقان : 74 ] .


[5395]:ينظر ابن يعيش 3/138 و 9/81 والهمع 1/78 والمنصف 2/156 والدرر 1/52 واللسان (للكميت) وضرائر الشعر ص 232 والدرر اللوامع 1/ 52 و 2/214 و 233 وشرح الشافية ص 479 والدر المصون 2/ 80.
[5396]:صدر بيت وعجزه: وإن يسألوا يعطوا وأن ييسروا يغلوا ينظر الخصائص 1/ 98 والمعاني الكبير 1/539 ورغبة الآمل 1/124 ومجاز القرآن 2/188 والصناعتين ص 117 والدر المصون 2/80.
[5397]:البيت لشبيب بن جعيل ينظر شواهد المغني ص 919، وخزانة الأدب 4/195، والدرر 1/244، 119، والمؤتلف والمختلف ص 84، والمقاصد النحوية 1/418، ولجحل بن نضلة في الشعر والشعراء ص 102، وبلا نسبة في مغني اللبيب ص 592، وجواهر الأدب ص 249، وخزانة الأدب 5/463، وشرح الأشموني 1/66، 126، وهمع الهوامع 1/78، 126 والجني الداني ص 489، وتخليص الشواهد ص 130، وتذكرة النحاة ص 734 والدر المصون 2/80.
[5398]:ينظر معاني القرآن 1/208 واللسان (خلف) ومجمع البيان 2/71 والتاج 6/99 والبحر 2/463 والدر المصون 2/81.
[5399]:ينظر الطبري 6/362 واللسان (سلت) والبحر 2/463 والمذكر والمؤنث 1/70 و 602 والتاج 1/553 ومعاني القرآن للفراء 1/ 208 والدر المصون 2/81.
[5400]:أخرجه البخاري (8/132) كتاب الدعوات باب قول الله تعالى وصل عليهم (6334)، (8/135) كتاب الدعوات باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه (6344)، (8/146) كتاب الدعوات باب الدعاء بكثرة المال رقم (6380، 6381) ومسلم رقم (458) (1928) والترمذي (3829) وأحمد (3/194، 248، 6/430) والبيهقي (3/96) والبخاري في "الأدب المفرد" (88،653) وفي "التاريخ الكبير" (8/127) وأبو نعيم في "الحلية" (8/267) والطيالسي (2524- منحة) والبغوي في "شرح السنة" (7/253) والطبراني (1/221) وابن سعد (7/12) والبيهقي في "دلائل النبوة" (5/332) عن أنس وأخرجه البخاري (8/146) كتاب الدعوات باب الدعاء بكثرة المال (6378) والبغوي في "شرح السنة" (7/253) عن أم سليم.
[5401]:أخرجه ابن حبان (1228- موارد) وأحمد (3/158، 245) وسعيد بن منصور (490) والبيهقي (7/81- 82) وأبو نعيم في "الحلية" (4/219) والطبراني في "الأوسط" ما في "المجمع" (4/258) عن أنس بن مالك مرفوعا. وقال الهيثمي في "المجمع" (4/258): رواه أحمد والطبراني في الأوسط وإسناده حسن. وللحديث شاهد عن معقل بن يسار: أخرجه أبو داود (2050) والنسائي (6/65- 66) وابن حبان (1229- موارد) والبيهقي (7/ 81) وأبو تعيم في "الحلية" (3/61- 62).
[5402]:أخرجه مسلم (1/1255) كتاب الوصية باب ما يلحق الإنسان من الثواب (14/1631) والنسائي (6/251) كتاب الوصايا: باب فضل الصدقة عن الميت وأبو داود (2880) كتاب الوصايا: باب ما جاء في فضل الصدقة عن الميت. والترمذي (1376) وأحمد (2/372) والبيهقي (6/278) والبغوي في "شرح السنة" (1/227) والطحاوي في "مشكل الآثار" (1/95) والدولابي في "الكنى والأسماء" (1/190) عن أبي هريرة مرفوعا.