" هنا " هو الاسم ، واللام للبعد ، والكاف حرف خطاب ، وهو منصوب على الظرف المكاني ، ب " دعا " أي : في ذلك المكان الذي رأى فيه ما رأى من أمر مريمَ ، وهو ظرف لا يتصرف بل يلزم النصبَ على الظرفية ب " مِنْ " وَ " إلَى " .
قَدْ وَرَدَتْ مِنْ أمكِنَهْ *** مِنْ هَاهُنَا وَمِنْ هُنَهْ{[5395]}
وحكمه حكم " ذَا " من كونه يُجَرَّد من حرف التنبيه ، ومن الكاف واللام ، نحو " هُنَا " وقد يَصْحَبه " ها " التنبيه ، نحو هاهنا ، ومع الكاف قليلاً ، نحو ها هناك ، ويمتنع الجمع بينها وبين اللام . وأخوات " هنا " بتشديد النون مع فتح الهاء وكسرها - و " ثَمَّ " بفتح الثاء - وقد يقال : " هَنَّت " . ولا يشار ب " هُنَالِكَ " وما ذُكِرَ مَعَهُ إلا للأمكنة ، كقوله : { فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ } [ الأعراف : 119 ] وقوله : { هُنَالِكَ الْوَلاَيَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ }
[ الكهف : 44 ] وقوله : { دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً } [ الفرقان : 13 ] .
وقد زعم بعضهم أن " هُنا " و " هناك " و " هنالك " للزمان ، فمن ورود " هنالك " بمعنى الزمان عند بعضهم - هذه الآية أي : في ذلك الزمان دعا زكريا ربه ، ومثله : { هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ } [ الأحزاب : 11 ] ، وقوله : { فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ } ومنه قول زهير : [ الطويل ]
هُنَالِكَ إنْ يُسْتَخْبَلُوا الْمَالَ يُخْبِلُوا *** . . . {[5396]}
ومن " هنَّا " قوله : [ الكامل ]
حَنَّتْ نُوَارُ وَلاَتَ هَنَّا حَنَّتِ *** وَبَدَا الَّذِي كَانَتْ نَوَارُ أجَنَّتِ{[5397]}
لأن " لات " لا تعمل إلا في الأحيان .
وفي عبارة السجاوندي أن " هناك " في المكان ، و " هنالك " في الزمان ، وهو سهو ؛ لأنها للمكان سواء تجردت ، أو اتصلت بالكاف واللام معاً ، أم بالكاف من دون اللام .
ذكر المفسّرون أن زكريا - عليه السلام - لما رأى خَوَارِقَ العادة عند مريم طمع في خرق العادةِ في حقه ، فرزقه الله الولد من الشيخة العاقر .
فإن قيل : لِمَ قلتم : إنَّ زكريا -عليه السلام- ما كان عالماً بأن الله قادر على خَرْق العادة إلا عند مشاهدة تلك الكرامات عند مريم ، وهذه النسبة شَكٌّ في قدرة الله -تعالى- من زكريا ، وإن قلتم بأنه كان عالماً بقدرة الله تعالى على ذلك لم تكن المشاهدة سبباً لزيادة علمه بقدرة الله - تعالى - فلم يكن لمشاهدته لتلك الكرامات أَثرٌ في السببية ؟
فالجواب : أنه كان عالماً قبل ذلك بالخوارق ، أما أنّه هل تقع أم لا ؟ فلم يكن عالماً به ، فلما شاهد وعلم أنه إذا وقع كرامة لوَلِيّ فبأن يجوز وقوع معجزة لنبيّ كان أولى ، فلا جرم قوي طمعه عند ذلك .
قوله : { مِن لَّدُنْكَ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه يتعلق ب " هَبْ " وتكون " مِنْ " لابتداء الغاية مجازاً ، أي : يا رب هَبْ لي من عندك . ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه في الأصل صفة لِ " ذُرِّيَّة " فلما قُدِّم عليها انتَصَبَ حالاً .
وتقدم الكلام على " لَدُنْ " وأحكامها .
قال ابن الخطيب : " وقول زكريا : { هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً } لما لم تكن أسباب الولادة في حقه موجودة ، قال : { مِن لَّدُنْكَ } أي بمحض قدرتك ، من غير شيء من هذه الأسباب " .
الذرية : النسل ، وهو يقع على الواحدِ والجمعِ والذكرِ والأنثى ، والمراد - هنا - ولد واحد ، وهو مثل قوله : " فهب لي من لدنك وليًّا " .
قوله : { طَيِّبَةً } إن أريد ب " ذُرِّيَّة " الجنس ، فيكون التأنيث في " طيِّبة " باعتبار تأنيث الجماعة ، وإن أريد به ذَكر واحد فالتأنيث باعتبارِ اللفظِ .
قال الفراء : وأنّث " طَيِّبَةً " لتأنيث لفظ " الذرية " كما قال القائل في ذلك البيت : [ الوافر ]
أبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أخْرَى *** وَأنْتَ خَلِيفَةٌ ذَاكَ الْكَمَالُ{[5398]}
وهذا فيما لم يُقْصَد به واحد مُعين ، أما لو قُصِدَ به واحدٌ معيَّن امتنع اعتبار اللفظ نحو طلحة وحمزة ، فيجوز أن يُقال : جاءت طلحة ؛ لأن أسماء الأعلام لا تفيد إلا ذلك الشخص ، فإذا كان مذكَّراً لم يجز فيه إلا التذكيرُ ، وقد جمع الشاعر بين التذكير والتانيث في قوله : [ الطويل ]
فَمَا تَزْدَرِي مِنْ حَيَّةٍ جبَلِيَّةٍ *** سُكَاتٍ إذَا مَا عَضَّ لَيْسَ بِأدْرَدَا{[5399]}
قوله { سَمِيعٌ الدُّعَآءِ } مثال مبالغة ، مُحَوَّل من سامع ، وليس بمعنى مُسْمِع ؛ لفساد المعنى ؛ لأن معناه إنك سامعه ، وقيل : مُجِيبه ، كقوله : { إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ } [ يس : 25 ] أي : فأجيبوني ، وكقول المصلي : سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، يريد قبل اللهُ حَمْدَ مَنْ حَمِدَهُ من المؤمنين .
قال القرطبيُّ : دَلَّتْ هذه الآيةُ على طلب الولد ، وهي سُنَّةُ المرسلين والصِّدِّيقينَ .
قال تعالى - حكاية عن إبراهيم - : { وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ } [ الشعراء : 84 ] .
وقال تعالى : { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } [ الفرقان : 74 ] ودعا النبي صلى الله عليه وسلم لأنس فقال : " اللهُمَّ أكثر مالَه وولَده ، وبَارِك لَهُ فِيمَا أعْطَيْتَه{[5400]} " وقال صلى الله عليه وسلم : " تَزَوَّجُوا الْوَلُودَ الوَدُودَ ؛ فَإنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأمَمَ يَوْمَ الْقِيَامةِ{[5401]} " فدلَّ على أن طلب الولَد مندوبٌ إليه ؛ لِما يُرْجَى من نفعه في الدنيا والآخرة ، وقال صلى الله عليه وسلم : " إذَا مَاتَ أحَدُكُم انْقَطَع عَمَلُهُ إلاَّ مِنْ ثَلاَثٍ " فذكر " أو ولَدٌ صَالح يَدْعُو لَه " {[5402]} .
ويجب على الإنسان أن يتضرَّع إلى الله - تعالى - في هداية زوجته وولده بالتوفيق ، والهداية ، والصَّلاح ، والعَفَاف ، وأن يكونا معينَيْنِ له على دينه ودُنياه ، حتى تَعْظُم منفعتُهما قال زكريا : { وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً }[ مريم : 6 ] ، وقال : { ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } وقال تعالى : { هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } [ الفرقان : 74 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.