الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُۥۖ قَالَ رَبِّ هَبۡ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةٗ طَيِّبَةًۖ إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ} (38)

قوله تعالى : { هُنَالِكَ دَعَا } : " هنا " هو الاسمُ واللامُ للبعد والكافُ حرفُ ، وهو وِزانُ " ذلك " ، وهو منصوبٌ على الظرفِ المكاني ب " دعا " ، أي : في ذلك المكان الذي رأى فيه ما رأى مِنْ أَمْرِ مريم ، وهو ظرفٌ لا يتصرَّفُ بل يلزم النصبَ على الظرفية ، وقد يُجَرُّ ب " مِنْ " و " إلى " قال الشاعر :

قد وَرَدَتْ مِنْ أَمْكِنَهْ *** مِنْ ههنا ومِنْ هُنَهْ

وحكمُه حكمُ " ذا " مِنْ كونِهِ يُجَرَّد من حرف التنبيه ومن الكاف واللام نحو : هنا ، وقد تصحبه " ها " التنبيه نحو : ههنا ، ومع الكافِ قليلاً نحو : " ها هناك " ، ويمتنعُ الجمعُ بين ها واللام . وأخواتُهُ : هَنَّا بتشديد النون مع فتح الهاء وكسرها ، وثَمَّ بفتح الثاء ، وقد يقال هَنَّتْ ، ولا يُشار بهذه إلا للبعيد خاصة ، ولا يشار بهنالك وما ذُكِرَ معه إلا للأمكنة .

وقد زعم بعضُهم أنَّ " هناك " و " هنالك " و " هَنَّا " للزمان ، فمِنْ ورودِ " هنالك " بمعنى الزمان عند بعضِهم هذه الآية أي : في ذلك الزمان ، ومثلُه :

{ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ } [ الأحزاب : 11 ] ومنه قولُ زهير :

هنالك إنْ يُسْتَخْبَلُوا المالَ يُخْبِلُوا *** . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والظاهر أنه على مكانِيَّتِه . ومن ورود " هناك " قوله :

وإذا الأمورُ تعاظَمَتْ وتشابَهَتْ *** فهناك يعترفون أين المفزَعُ

ومن ورود هَنَّا قوله :

حَنَّتْ نَوارِ ولاتَ هَنَّا حَنَّتِ *** وبدا الذي كانت نوارِ أَجَنَّتِ

لأن " لات " لا تعمل إلا في الأحيان ، وفي البيت كلامٌ أطولُ من هذا . وفي عبارة السجاوندي أن " هناك " في المكان و " هنالك " في الزمان ، وهو سهوٌ ، لأنها للمكان سواءً تجردت أم اتصلت بالكاف واللام معاً أم بالكاف دون اللام .

قوله : { مِن لَّدُنْكَ } يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أن يتعلق ب " هَبْ " وتكونُ " مِنْ " لابتداء الغاية مجازاً أي : هَبْ لي من عندِك .

ويجوز أن تتعلق بمحذوفٍ على أنه في الأصل صفةٌ لذرية ، فلما قُدِّم عليها انتصبَ حالاً . وقد تقدَّم الكلامُ على لدن وأحكامِها ولغاتِها .

وقوله : { سَمِيعُ الدُّعَآءِ } مثالُ مبالغة مُحَوَّل من " سامِع " وليس بمعنى " مُسْمِع " لفسادِ المعنى .

وقوله : { طَيِّبَةً } إنْ أرادَ ب " ذرية " الجنسَ فيكونُ التأنيثُ في " طيبة " باعتبارِ تأنيثِ الجماعة ، وإنْ أرادَ به ذَكَراً واحداً فالتأنيث باعتبار اللفظ . قال : الفراء : " وأَنَّث " طيبة " لتأنيثِ لفظِ " الذرية " كما قال الشاعر :

أبوكَ خليفةٌ وَلَدَتْهُ أخرى *** وأنت خليفةٌ ، ذاك الكمالُ

وهذا فيما لم يُقْصَدُ به واحدٌ معيَّنٌ ، أمَّا لو قُصِدَ به واحدٌ معيَّنٌ امتَنَعَ اعتبارُ اللفظِ نحو : طلحة وحمزة ، وقد جَمَعَ الشاعرُ بين التذكيرِ والتأنيث في قوله :

فما تَزْدَري من حَيَّةٍ جَبَلِيَّة *** سُكاتٍ إذا ما عَضَّ ليس بِأَدْرَدَا