الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُۥۖ قَالَ رَبِّ هَبۡ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةٗ طَيِّبَةًۖ إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ} (38)

قال اللَّه تعالى : { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } : أي فعند ذلك . و " هنا " إشارة إلى الغاية كما أن " هذه " إشارة إلى الحاضر .

والكاف : اسم المخاطب وكسرت اللام لالتقاء الساكنين .

قال المفضل بن سلمة : أكثر ما يقال هنالك في الزمان وهناك في المكان وقد جعل هذا مكان هذا .

{ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } : فدخل المحراب وغلق الأبواب وناجى ربه . { قَالَ رَبِّ } : أي يا رب فحذف حرف النداء من أوله والياء من آخره ، استغني بكسر الباء عن الياء . { هَبْ لِي } : أعطني ، { مِن لَّدُنْكَ } : من عندك . وفي لدن أربع لغات : لَدُنْ بفتح اللام وضم الدال وجزم النون وهو أفصحها ، ولَدُ بفتح اللام وضم الدال وحذف النون ، ولَدْنَ بفتح اللام وسكون الدال وفتح النون ، ولُدْنَ بضم اللام وجزم الدال وفتح النون .

قال الفرّاء : وهي يخصّص بها على الإضافة ، وترفع على مذهب مذ ، وأنشد قول أبي سفيان بن حرب على الوجهين :

ما زال مهري مزجر الكلب منهم *** لدن غدوة حتى دنت لغروب

{ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } : نسلاً مباركاً تقيّاً صالحاً رضيّاً ، والذرية تكون واحداً أو جمعاً ذكراً أو أنثى ، وهو ههنا واحد يدل عليه قوله :

{ فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً } [ مريم : 5 ] ، ولم يقل أولياء وإنّما أنث طيبة ؛ لتأنيث لفظ الذرية .

كما قال الشاعر :

أبوك خليفة ولدته أخرى *** وأنت خليفة ذاك الكمال

فأنث ولدته ؛ لتأنيث لفظ الخليفة ، فكما قال آخر :

فما تزدري من حية جبلية سكات *** إذا ما غض ليس بأدردا

فأنث الجبلية ؛ لتأنيث لفظ الحية ثم رجع إلى المعنى ، فقال : غض ؛ لأنه أراد حية ذكراً والحية تكون الذكر والأنثى ، وإنّما جوّز هذا فيما لم يقع عليه ؛ فلأن من الأسماء كالدابة والذرية والخليفة فإذا سمي بشيء من ذلك رجل هو كان من معنى رجلان ، لم يجز تأنيث فعله ولا نعته فلا تقول من ذلك : حدثنا مغير الضبي ، ولا يجوز حدثتنا مغيرة الضبية .

{ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَآءِ } : أي سامعه وقيلَ مجيبه ، لقوله تعالى :

{ إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ } [ يس : 25 ] : أي فأجيبون . وقولهم : سمع اللَّه لمن حمده : أي أجابه .

وأنشد :

دعوت اللَّه حتى خفتُ ألا *** يكون اللَّه يسمعُ ما أقول : أي بكيتُ

قتادة عن أنس بن مالك قال : قال صلى الله عليه وسلم : " أيما رجلٌ مات وترك ذرية طيبة أجرى اللَّه عليه مثل أجر عملهم لا ينقص من أجورهم شيئاً " .