ثم ذكر ضدها وهي كلمة الكفر وفروعها فقال : { وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ } المأكل والمطعم وهي : شجرة الحنظل ونحوها ، { اجْتُثَّتْ } هذه الشجرة { مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ } أي : من ثبوت فلا عروق تمسكها ، ولا ثمرة صالحة ، تنتجها ، بل إن وجد فيها ثمرة ، فهي ثمرة خبيثة ، كذلك كلمة الكفر والمعاصي ، ليس لها ثبوت نافع في القلب ، ولا تثمر إلا كل قول خبيث وعمل خبيث يستضر به صاحبه ، ولا ينتفع ، فلا يصعد إلى الله منه عمل صالح ولا ينفع نفسه ، ولا ينتفع به غيره .
( وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ )
وإن الكلمة الخبيثة - كلمة الباطل - لكالشجرة الخبيثة ؛ قد تهيج وتتعالى وتتشابك ؛ ويخيل إلى بعض
الناس أنها أضخم من الشجرة الطيبة وأقوى . ولكنها تظل نافشة هشة ، وتظل جذورها في التربة قريبة حتى لكأنها على وجه الأرض . . وما هي إلا فترة ثم تجتث من فوق الأرض ، فلا قرار لها ولا بقاء .
ليس هذا وذلك مجرد مثل يضرب ، ولا مجرد عزاء للطيبين وتشجيع . إنما هو الواقع في الحياة ، ولو أبطأ تحققه في بعض الأحيان .
والخير الأصيل لا يموت ولا يذوي . مهما زحمه الشر وأخذ عليه الطريق . . والشر كذلك لا يعيش إلا ريثما يستهلك بعض الخير المتلبس به - فقلما يوجد الشر الخالص - وعندما يستهلك ما يلابسه من الخير فلا تبقى فيه منه بقية ، فإنه يتهالك ويتهشم مهما تضخم واستطال .
إن الخير بخير ! وإن الشر بشر !
( ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ) . .
فهي أمثال مصداقها واقع في الأرض ، ولكن الناس كثيرا ما ينسونه في زحمة الحياة .
{ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثّتْ مِن فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ } .
يقول تعالى ذكره : ومثل الشرك بالله ، وهي الكلمة الخبيثة ، كشجرة خبيثة .
اختلف أهل التأويل فيها أيّ شجرة هي ؟ فقال أكثرهم : هي الحنظل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن معاوية بن قرة ، قال : سمعت أنس بن مالك ، قال في هذا الحرف : وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرةٍ خَبِيثَةٍ قال : الشريان فقلت : ما الشريان ؟ قال رجل عنده : الحنظل . فأقرّ به معاوية .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : أخبرنا شعبة ، عن معاوية بن قرة ، قال : سمعت أنس بن مالك يقول : وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ قال : الحنظل .
حدثنا الحسن ، قال : حدثنا عمرو بن الهيثم ، قال : حدثنا شعبة ، عن معاوية بن قرة ، عن أنس بن مالك ، قال : الشريان : يعني الحنظل .
حدثنا أحمد بن منصور ، قال : حدثنا نعيم بن حماد ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن ابن جريج ، عن الأعمش ، عن حبان بن شعبة ، عن أنس بن مالك ، في قوله : كَشَجَرَة خَبِيثَةٍ قال : الشريان ، قلت لأنس : ما الشريان ؟ قال : الحنظل .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا شعيب ، قال : خرجت مع أبي العالية ، نريد أنس بن مالك ، فأتيناه ، فقال : وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرةٍ خَبِيثَةٍ تلكم الحنظل .
حدثنا الحسن ، قال : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، عن شعيب بن الحَبْحاب ، عن أنس ، مثله .
حدثنا المثنى قال : حدثنا آدم العسقلانيّ ، قال : حدثنا شعبة ، قال : حدثنا أبو إياس ، عن أنس بن مالك ، قال : الشجرة الخبيثة : الشريان ، فقلت : وما الشريان ؟ قال : الحنظل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن شعيب ، عن أنس ، قال : تلكم الحنظل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا مهدي بن ميمون ، عن شعيب ، قال : قال أنس : وَمَثَلُ كَلَمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِثَةٍ . . . الاَية ، قال : تلكم الحنظل ، ألم تروا إلى الرياح كيف تصفّقها يمينا وشمالاً ؟ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ : الحنظلة .
وقال آخرون : هذه الشجرة لم تخلق على الأرض . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني ، قال : حدثنا أبو كدينة ، قال : حدثنا قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وَمَثَلُ كَلمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِثَةٍ اجْتُثّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ ما لَهَا مِنْ قَرَارٍ قال : هذا مثل ضربه الله ، ولم تُخلق هذه الشجرة على وجه الأرض .
وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتصحيح قول من قال : هي الحنظلة خبرٌ ، فإن صحّ فلا قول يجوز أن يقال غيره ، وإلا فإنها شجرة بالصفة التي وصفها الله بها . ذكر الخبر الذي ذكرناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
حدثنا سوار بن عبد الله ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن شعيب بن الحبحاب ، عن أنس بن مالك ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ ما لَهَا مِنْ قَرَارٍ هي الحنظلة » . قال شعيب : وأخبرت بذلك أبا العالية ، فقال : كذلك كانوا يقولون .
وقوله : اجْتُثّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ يقول : استؤصلت ، يقال منه : اجتثثت الشيء أجتثه اجتثاثا : إذا استأصلته .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : اجْتُثّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ قال : استؤصلت من فوق الأرض . ما لَهَا مِنْ قَرَارٍ يقول : ما لهذه الشجرة من قرار ولا أصل في الأرض تنبت عليه وتقوم .
وإنما ضربت هذه الشجرة التي وصفها الله بهذه الصفة لكفر الكافر وشركه به مثلاً ، يقول : ليس لكفر الكافر وعمله الذي هو معصية الله في الأرض ثبات ، ولا له في السماء مصعد ، لأنه لا يصعد إلى الله منه شيء .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ ما لَهَا مِنْ قَرَارٍ ضرب الله مثل الشجرة الخبيثة كمثل الكافر ، يقول : إن الشجرة الخبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار : يقول : الكافر لا يقبل عمله ولا يصعد إلى الله ، فليس له أصل ثابت في الأرض ولا فرع في السماء ، يقول : ليس له عمل صالح في الدنيا ولا في الاَخرة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ ما لَهَا مِنْ قَرارٍ قال قتادة : إن رجلاً لقي رجلاً من أهل العلم ، فقال : ما تقول في الكلمة الخبيثة ؟ فقال : ما أعلم لها في الأرض مستقرّا ولا في السماء مصعدا إلا أن تلزم عنق صاحبها ، حتى يوافي بها يوم القيامة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أبي العالية : أن رجلاً خالجت الريح رداءه فلعنها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تَلْعَنْها فإنّها مَأْمُورَةٌ ، وَإنّهُ مَنْ لَعَنَ شَيْئا لَيْسَ لَهُ بأهْلٍ رَجَعَتِ اللّعْنَةُ على صَاحِبها » .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس : وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ قال : هذا الكافر ليس له عمل في الأرض وذكرٌ في السماء . اجْتُثّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ ما لَهَا مِنْ قَرَارٍ قال : لا يصعد عمله إلى السماء ولا يقوم على الأرض . فقيل : فأين تكون أعمالهم ؟ قال : يحملون أوزارهم على ظهورهم .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية العوفي : وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ قال : مثل الكافر لا يصعد له قول طيب ولا عمل صالح .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ وهي الشرك ، كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ يعني الكافر . قال : اجْتُثّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ ما لَهَا مِنْ قَرارٍ يقول : الشرك ليس له أصل يأخذ به الكافر ولا برهان ، ولا يقبل الله مع الشرك عملاً .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ قال : مثل الشجرة الخبيثة مثل الكافر ، ليس لقوله ولا لعمله أصل ولا فرع ، ولا قوله ولا عمله يستقرّ على الأرض ولا يصعد إلى السماء .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول : ضرب الله مثل الكافر كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار ، يقول : ليس لها أصل ولا فرع ، وليست لها ثمرة ، وليس فيها منفعة ، كذلك الكافر ليس يعمل خيرا ولا يقوله ، ولم يجعل الله فيه بركة ولا منفعة .
{ ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة } كمثل شجرة خبيثة { اجتُثّت } استؤصلت وأخذت جئتها بالكلية . { من فوق الأرض } لأن عروقها قريبة منه . { ما لها من قرار } استقرار . واختلف في الكلمة والشجرة ففسرت الكلمة الطيبة : بكلمة التوحيد ودعوة الإسلام والقرآن ، والكلمة الخبيثة بالشرك بالله تعالى والدعاء إلى الكفر وتكذيب الحق ، ولعل المراد بهما ما يعم ذلك فالكلمة الطيبة ما أعرب عن حق أو دعا إلى صلاح ، والكلمة الخبيثة ما كان على خلاف ذلك وفسرت الشجرة الطيبة بالنخلة . وروي ذلك مرفوعا وبشجرة في الجنة ، والخبيثة بالحنظلة والكشوث ، ولعل المراد بهما أيضا ما يعم ذلك .
وحكى الكسائي والفراء : أن في قراءة أبي بن كعب «وضرب الله مثلاً كلمة خبيثة »{[7069]} ، و «الكلمة الخبيثة » هي كلمة الكفر وما قاربها من كلام السوء في الظلم ونحوه . و { الشجرة الخبيثة } قال أكثر المفسرين هي شجرة الحنظل -قاله أنس بن مالك ورواه عن النبي عليه السلام{[7070]} ، وهذا عندي على جهة المثال . وقالت فرقة : هي الثوم ، وقال الزجاج : قيل هي الكشوت .
قال القاضي أبو محمد : وعلى هذه الأقوال من الاعتراض : أن هذه كلها من النجم{[7071]} وليست من الشجر ، والله تعالى إنما مثل بالشجرة فلا تسمى هذه إلا بتجوز ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثوم والبصل : من أكل من هذه الشجرة{[7072]} ، وأيضاً فإن هذه كلها ضعيفة وإن لم تجتث ، اللهم إلا أن تقول : اجتثت بالخلقة .
وقال ابن عباس : هذا مثل ضربه الله ولم يخلق هذه الشجرة على وجه الأرض .
والظاهر عندي أن التشبيه وقع بشجرة غير معينة إذا وجدت فيها هذه الأوصاف . فالخبث هو أن تكون كالعضاة ، أو كشجر السموم أو نحوها . إذا اجتثت - أي اقتلعت ، حيث جثتها بنزع الأصول وبقيت في غاية الوهاء والضعف فتقلبها أقل ريح . فالكافر يرى أن بيده شيئاً وهو لا يستقر ولا يغني عنه ، كهذه الشجرة التي يظن بها على بعد أو للجهل بها أنها شيء نافع وهي خبيثة الجني غير باقية .