187- يسألك اليهود - يا محمد - عن الساعة التي تنتهي فيها هذه الدنيا ، في أي وقت تكون ويستقر العلم بها ؟ قل لهم : علم وقتها عند ربى - وحده - لا يظهرها في وقتها أحد سواه . قد عظم هولها عندما تقع إلى أهل السماوات والأرض . يسألونك هذا السؤال ، كأنك حريص على العلم بها . فكرر الجواب ، فقل لهم مؤكدا : إن علمها عند اللَّه ، ولكن أكثر الناس لا يدركون الحقائق التي تغيب عنهم ، أو التي تظهر لهم ! .
187 - 188 يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ .
قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ .
يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم : يَسْأَلُونَكَ أي : المكذبون لك ، المتعنتون عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا أي : متى وقتها الذي تجيء به ، ومتى تحل بالخلق ؟
قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي أي : إنه تعالى مختص بعلمها ، لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ أي : لا يظهرها لوقتها الذي قدر أن تقوم فيه إلا هو .
ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أي : خفي علمها على أهل السماوات والأرض ، واشتد أمرها أيضا عليهم ، فهم من الساعة مشفقون .
لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً أي : فجأة من حيث لا تشعرون ، لم يستعدوا لها ، ولم يتهيأوا لقيامها .
يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا أي : هم حريصون على سؤالك عن الساعة ، كأنك مستحف عن السؤال عنها ، ولم يعلموا أنك - لكمال علمك بربك ، وما ينفع السؤال عنه - غير مبال بالسؤال عنها ، ولا حريص على ذلك ، فلم لا يقتدون بك ، ويكفون عن الاستحفاء عن هذا السؤال الخالي من المصلحة المتعذر علمه ، فإنه لا يعلمها نبي مرسل ، ولا ملك مقرب .
وهي من الأمور التي أخفاها الله عن الخلق ، لكمال حكمته وسعة علمه .
قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ فلذلك حرصوا على ما لا ينبغي الحرص عليه ، وخصوصا مثل حال هؤلاء الذين يتركون السؤال عن الأهم ، ويدعون ما يجب عليهم من العلم ، ثم يذهبون إلى ما لا سبيل لأحد أن يدركه ، ولا هم مطالبون بعلمه .
هؤلاء الغافلون عما حولهم ، العميُ عما يحيط بهم . . يسألون الرسول [ ص ] عن الساعة البعيدة المغيبة في المجهول . كالذي لا يرى ما تحت قدميه ويريد أن يرى ما في الأفق البعيد !
( يسألونك عن الساعة أيان مرساها ؟ قل : إنما علمها عند ربي ، لا يجليها لوقتها إلا هو ، ثقلت في السماوات والأرض ، لا تأتيكم إلا بغتة . يسألونك كأنك حفي عنها ! قل : إنما علمها عند الله ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون . قل : لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله . ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء . إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ) . .
لقد كانت عقيدة الآخرة ، وما فيها من حساب وجزاء ، تفاجىء المشركين في الجزيرة مفاجأة كاملة . . ومع أن هذه العقيدة أصيلة في دين إبراهيم - عليه السلام - وهو جد هؤلاء المشركين ؛ وفي دين إسماعيل أبيهم الكريم ؛ إلا أنه كان قد طال عليهم الأمد ، وبعد ما بينهم وبين أصول الإسلام الذي كان عليه إبراهيم وإسماعيل . حتى لقد اندثرت عقيدة الآخرة تماماً من تصوراتهم ؛ فكانت أغرب شيء عليهم وأبعده عن تصورهم . حتى لقد كانوا يعجبون ويعجبون من رسول الله [ ص ] لأنه يحدثهم عن الحياة بعد الموت ؛ وعن البعث والنشور والحساب والجزاء ؛ كما حكى عنهم القرآن الكريم في السورة الأخرى : وقال الذين كفروا : هل ندلكم على رجل ينبئكم ، إذا مزقتم كل ممزق ، إنكم لفي خلق جديد ؟ أفترى على الله كذباً ؟ أم به جنة ؟ بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد . . [ سبأ : 7 - 8 ] .
ولقد علم الله أن أمة من الأمم لا تملك أن تقود البشرية وتشهد عليها - كما هي وظيفة الأمة المسلمة - إلا أن تكون عقيدة الآخرة واضحة لها راسخة في ضميرها . . فتصور الحياة على أنها هذه الفترة المحدودة بحدود هذه الحياة الدنيا ، وحدود هذه الأرض الصغيرة ، لا يمكن أن ينشىء أمة هذه صفتها وهذه وظيفتها !
إن العقيدة في الآخرة فسحة في التصور ، وسعة في النفس ، وامتداد في الحياة ضروري في تكوين النفس البشرية ذاتها ، لتصلح أن تناط بها تلك الوظيفة الكبيرة . . كذلك هي ضرورية لضبط النفس عن شهواتها الصغيرة ومطامعها المحدودة ؛ ولفسحة مجال الحركة حتى لا تيئسها النتائج القريبة ولا تقعدها التضحيات الأليمة ، عن المضي في التبشير بالخير ، وفعل الخير والقيادة إلى الخير ، على الرغم من النتائج القريبة ، والتضحيات الأليمة . . وهي صفات ومشاعر ضرورية كذلك للنهوض بتلك الوظيفة الكبيرة . .
والاعتقاد في الآخرة مفرق طريق بين فسحة الرؤية والتصور في نفس " الإنسان " ، وضيق الرؤية واحتباسها في حدود الحس في إدراك " الحيوان " ! وما يصلح إدراك الحيوان لقيادة البشرية ، والقيام بأمانة الله في الخلافة الراشدة !
لذلك كله كان التوكيد شديداً على عقيدة الآخرة في دين الله كله . . ثم بلغت صورة الآخرة في هذا الدين الأخير غايتها من السعة والعمق والوضوح . . حتى بات عالم الآخرة في حس الأمة المسلمة أثبت وأوضح وأعمق من عالم الدنيا الذي يعيشونه فعلاً . . وبهذا صلحت هذه الأمة لقيادة البشرية ، تلك القيادة الراشدة التي وعاها التاريخ الإنساني !
ونحن في هذا الموضع من سياق سورة الأعراف أمام صورة من صور الاستغراب والاستنكار الذي يواجه به المشركون عقيدة الآخرة ، تبدو في سؤالهم عن الساعة سؤال الساخر المستنكر المستهتر :
( يسألونك عن الساعة أيان مرساها ؟ )
إن الساعة غيب ، من الغيب الذي استأثر الله بعلمه ، فلم يطلع عليه أحداً من خلقه . . ولكن المشركينيسألون الرسول عنها . . إما سؤال المختبر الممتحن ! وإما سؤال المتعجب المستغرب ! وإما سؤال المستهين المستهتر ! ( أيان مرساها ؟ ) أي متى موعدها الذي إليه تستقر وترسو ؟ !
والرسول [ ص ] بشر لا يدعي علم الغيب ، مأمور أن يكل الغيب إلى صاحبه ، وأن يعلمهم أنها من خصائص الألوهية ، وأنه هو بشر لا يدعي شيئاً خارج بشريته ولا يتعدى حدودها ، إنما يعلمه ربه ويوحي إليه ما يشاء :
( قل : إنما علمها عند ربي ، لا يجليها لوقتها إلا هو ) .
فهو - سبحانه - مختص بعلمها ، وهو لا يكشف عنها إلا في حينها ، ولا يكشف غيره عنها .
ثم يلفتهم عن السؤال هكذا عن موعدها ، إلى الاهتمام بطبيعتها وحقيقتها ، وإلى الشعور بهولها وضخامتها . . . ألا وإن أمرها لعظيم ، ألا وإن عبئها لثقيل . ألا وإنها لتثقل في السماوات والأرضين . وهي - بعد ذلك - لا تأتي إلا بغتة والغافلون عنها غافلون :
( ثقلت في السماوات والأرض ، لا تأتيكم إلا بغتة ) . .
فأولى أن ينصرف الاهتمام للتهيؤ لها والاستعداد قبل أن تأتي بغتة ؛ فلا ينفع معها الحذر ، ولا تجدي عندها الحيطة ، ما لم يأخذوا حذرهم قبلها ، وما لم يستعدوا لها ، وفي الوقت متسع وفي العمر بقية . وما يدري أحد متى تجيء ، فأولى أن يبادر اللحظة ويسارع ، وألا يضيع بعد ساعة ، قد تفجؤه بعدها الساعة !
ثم يعجب من أمر هؤلاء الذين يسألون الرسول [ ص ] عن الساعة . . إنهم لا يدركون طبيعة الرسالة وحقيقة الرسول ؛ ولا يعرفون حقيقة الألوهية ، وأدب الرسول في جانب ربه العظيم .
أي كأنك دائم السؤال عنها ! مكلف أن تكشف عن موعدها ! ورسول الله [ ص ] لا يسأل ربه علم ما يعلم هو أنه مختص بعلمه :
( قل : إنما علمها عند الله ) . .
قد اختص سبحانه به ؛ ولم يطلع عليه أحداً من خلقه .
( ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) . .
وليس الأمر أمر الساعة وحده . إنما هو أمر الغيب كله فلله وحده علم هذا الغيب . لا يطلع على شيء منه إلا من شاء ، بالقدر الذي يشاء ، في الوقت الذي يشاء . . لذلك لا يملك العباد لأنفسهم نفعاً ولا ضراً . . فقد يفعلون الأمر يريدون به جلب الخير لأنفسهم ، ولكن عاقبته تكون هي الضر لهم . وقد يفعلون الأمر يريدون به رفع الضر عنهم ، ولكن عاقبته المغيبة تجره عليهم ! وقد يفعلون الأمر يكرهونه فإذا عاقبته هي الخير ؛ ويفعلون الأمر يحبونه فإذا عاقبته هي الضر : ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم ، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم ) . .
ألا من يريني غايتي قبل مذهبي ! % ومن أين والغايات بعد المذاهب
إنما يمثل موقف البشرية أمام الغيب المجهول . ومهما يعلم الإنسان ومهما يتعلم ، فإن موقفه أمام باب الغيب الموصد ، وأمام ستر الغيب المسدل ، سيظل يذكره ببشريته المحجوبة أمام عالم الغيب المحجوب .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السّاعَةِ أَيّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنّكَ حَفِيّ عَنْهَا قُلْ إِنّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلََكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } . .
اختلف أهل التأويل في الذين عنُوا بقوله : يَسْئَلُونَكَ عَنِ السّاعَةِ فقال بعضهم : عني بذلك قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم من قُريش ، وكانوا سألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : قالت قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم : إن بيننا وبينك قرابة ، فأسرّ إلينا متى الساعة فقال الله : يَسْئَلُونَكَ كأنّك حَفِيّ عَنْها .
وقال آخرون : بل عني به قوم من اليهود . ذكر من قال ذلك .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، قال : ثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال حمل بن أبي قُشير وسمْول بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا محمد أخبرنا متى الساعة إن كنت نبيّا كما تقول ، فإنا نعلم متى هي فأنزل الله تعالى : يَسْئَلَونَك عَنِ السّاعَةِ أيّان مُرْساها قَلْ إنّما عِلْمُها عِنْدَ ربّي . . . إلى قوله : ولَكِنّ أكْثَر النّاسِ لا يَعْلَمُون .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن طارق بن شهاب ، قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يزال يذكر من شأن الساعة حتى نزلت : يَسْئَلُونَك عَنِ السّاعَةِ أيّان مُرْساها .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن قوما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة ، فأنزل الله هذه الاَية ، وجائز أن يكون كانوا من قريش ، وجائز أن يكونوا كانوا من اليهود ولا خبر بذلك عندنا يجوّز قطع القول على أيّ ذلك كان .
فتأويل الاَية إذن : يسئلك القوم الذين يسئلونك عن الساعة أيّان مرساها ، يقول : متى قيامها . ومعنى «أيّان » : «متى » في كلام العرب ، ومنه قول الراجز :
أيّان تَقْضِي حاجَتِي أيّانَا ***أمَا تَرى لِنُجْحِها إبّانَا
ومعنى قوله : مُرْساها : قيامها ، من قول القائل : أرساها الله فهي مرساة ، وأرساها القوم : إذا حبسوها ، ورست هي ترسو رُسُوّا .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : يَسْئَلُونَك عَنِ السّاعَةِ أيّان مُرْساها : يقول متى قيامها .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : يَسْئَلُونَكَ عَنِ السّاعَةِ أيّان مُرْساها : متى قيامها .
وقال آخرون : معنى ذلك : منتهاها . وذلك قريب المعنى من معنى من قال : معناه : قيامها ، لأن انتهاءها : بلوغها وقتها . وقد بيّنا أن أصل ذلك الحبس والوقوف . ذكر من قال ذلك .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : يَسْئَلُونَك عَنِ السّاعَةِ أيّان مُرْساها يعني : منتهاها .
وأما قوله : قُلْ إنّما عِلْمُها عِنْد ربّي لا يُجَلّيها لِوقْتِها إلاّ هُو فإنه أمر من الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بأن يجيب سائليه عن الساعة بأنه لا يعلم وقت قيامها إلاّ الله الذي يعلم الغيب ، وأنه لا يظهرها لوقتها ولا يعلمها غيره جلّ ذكره . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : قُلْ إنّمَا عِلْمُها عِنْد ربّي لا يُجَلّيها لِوقْتِها إلاّ هُوَ يقول : علمها عند الله ، هو يجليها لوقتها ، لا يعلم ذلك إلاّ الله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : لا يُجَلّيها : يأتي بها .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال مجاهد : لا يُجَلّيها لا يأتي بها إلاّ هُو .
حدثني محمدبن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : لا يُجَلّيها لِوَقْتِهَا إلاّ هُو يقول : لا يرسلها لوقتها إلاّ هو .
القول في تأويل قوله تعالى : ثَقُلَتْ في السّمَواتِ والأرْضِ لا تأْتِيكُمْ إلاّ بَغْتَةً .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : ثقلت الساعة على أهل السموات والأرض أن يعرفوا وقتها ومجيئها لخفائها عنهم واستئثار الله بعلمها . ذكر من قال ذلك .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : ثَقُلَتْ في السّمَواتِ والأرْضِ يقول : خفيت في السموات والأرض ، فلم يعلم قيامها متى تقوم مَلك مقرّب ولا نبيّ مرسل .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزّاق جميعا ، عن معمر ، عن بعض أهل التأويل : ثَقُلَتْ في السّمَواتِ والأرْضِ قال : ثقل علمها على أهل السموات وأهل الأرض أنهم لا يعلمون .
وقال آخرون : معنى ذلك : أنها كبرت عند مجيئها على أهل السموات والأرض . ذكر من قال ذلك .
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق جميعا ، عن معمر ، قال : قال الحسن ، في قوله : ثَقُلَتْ في السّمَوَاتِ والأرْضِ يعني : إذا جاءت ثَقُلت على أهل السماء وأهل الأرض . يقول : كبُرت عليهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : ثَقُلَتْ فِي السّمَوَاتِ والأرْضِ قال : إذا جاءت انشقّت السماء ، وانتثرت النجوم ، وكُوّرَت الشمس ، وسُيرت الجبال ، وكان ما قال الله فذلك ثقلها .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : قال بعض الناس في «ثقلت » : عظمت .
وقال آخرون : معنى قوله : في السّمَوَاتِ والأرْضِ : على السموات والأرض . ذكر من قال ذلك .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ثَقُلَتْ فِي السّمَوَاتِ والأرْضِ : أي على السموات والأرض .
قال أبو جعفر : وأولى ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : معنى ذلك : ثقلت الساعة في السموات والأرض على أهلها أن يعرفوا وقتها وقيامها لأن الله أخفى ذلك عن خلقه ، فلم يطلع عليه منهم أحدا . وذلك أن الله أخبر بذلك بعد قوله : قُلْ إنّمَا عِلْمُها عِنْدَ رَبّي لا يُجَلِيها لِوَقْتِها إلاّ هُوَ وأخبر بعده أنها لا تأتي إلاّ بغتة ، فالذي هو أولى أن يكون ما بين ذلك أيضا خبرا عن خفاء علمها عن الخلق ، إذ كان ما قبله وما بعده كذلك .
وأما قوله : لا تَأْتِيكُمْ إلاّ بَغْتَةً فإنه يقول : لا تجيء الساعة إلاّ فجأة ، لا تشعرون بمجيئها . كما :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : لا تَأتِيكُمْ إلاّ بَغْتَةً يقول : يبغتهم قيامها ، تأتيهم على غفلة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : لا تَأْتِيكُمْ إلاّ بَغْتَةً قضى الله أنها لا تأتيكم إلاّ بغتة . قال : وذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «إنّ السّاعَةَ تَهِيجُ بالنّاسِ والرّجُلُ يُصْلِحُ حَوْضهُ والرّجُلُ يُسْقِي ماشِيَتَهُ والرّجُلُ يُقِيمُ سِلْعَتَهُ في السّوقِ وَالرّجُلُ يَخْفِضُ مِيزَانَهُ وَيَرْفَعُهُ » .
القول في تأويل قوله تعالى : يَسْئَلُونَكَ كأنّكَ حَفِيّ عَنْها قُلْ إنّمَا عِلْمُها عِنْدَ اللّهِ وَلكِنّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ .
يقول تعالى ذكره : يسألك هؤلاء القوم عن الساعة ، كأنك حفيّ عنها . فقال بعضهم : يسألونك عنها كأنك حفيّ بهم . وقالوا : معنى قوله : «عنها » التقديم وإن كان مؤخرا . ذكر من قال ذلك .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : يَسْئَلُونَكَ كأنّكَ حَفِيّ عَنْها يقول : كأن بينك وبينهم مودّة ، كأنك صديق لهم . قال ابن عباس : لما سأل الناس محمدا صلى الله عليه وسلم عن الساعة سألوه سؤال قوم كأنهم يرون أن محمدا حفي بهم ، فأوحى الله إليه : إنما علمها عنده ، استأثر بعلمها ، فلم يُطْلِع عليها ملَكا ولا رسولاً .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، قال : قال قتادة : قالت قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم : إن بيننا وبينك قرابة ، فأسرّ إلينا متى الساعة فقال الله : يَسْئَلُونَكَ كأنّكَ حَفِيّ عَنْها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : يَسْئَلُونَكَ كأنّكَ حَفِيّ عَنْها : أي حفيّ بهم . قال : قالت قريش : يا محمد أسرّ إلينا علم الساعة لما بيننا وبينك من القرابة لقرابتنا منك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو خالد الأحمر وهانىء بن سعيد ، عن حجاج ، عن خَصِيف ، عن مجاهد وعكرمة : يَسْئَلُونَكَ كأنّكَ حَفِيّ عَنْها قال : حفيّ بهم حين يسألونك .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : يَسْئَلُونَكَ كأنّكَ حَفِيّ عَنْها قال : قربت منهم ، وتحفّى عليهم . قال : وقال أبو مالك : كأنك حفيّ بهم ، قال : قريب منهم ، وتحفّى عليهم . قال : وقال أبو مالك : كأنك حفيّ بهم فتحدثهم .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : يَسْئَلُونَكَ كأنّكَ حَفِيّ عَنْها كأنك صديق لهم .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : كأنك قد استحفيت المسألة عنها فغلمتها . ذكر من قال ذلك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : كأنّك حَفِيّ عَنْها استحفيت عنها السؤال حتى علمتها .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد ، عن مجاهد في قوله : كأنّكَ حَفِيّ عَنْها قال : استحفيت عنها السؤال حتى علمت وقتها .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : يَسْئَلُونَكَ كأنّكَ حَفِيّ عَنْها قال : كأنك عالم بها .
قال : حدثنا حامد بن نوح ، عن أبي روق ، عن الضحاك : يَسْئَلُونَكَ كأنّكَ حَفِيّ عَنْها قال : كأنك تعلمها .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : ثني عبيد بن سليمان ، عن الضحاك ، قوله : يَسْئَلُونَكَ كأنّكَ حَفِيّ عَنْها يقول : يسألونك عن الساعة ، كأنك عندك علما منها . قُلْ إنّمَا عِلْمُها عِنْدَ رَبي .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن بعضهم : كأنّكَ حَفِيّ عَنْها : كأنك عالم بها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : كأنّكَ حَفِيّ عَنْها قال : كأنك عالم بها . وقال : أخفى علمها على خلقه . وقرأ : إنّ اللّهَ عِنْدَه عِلْم السّاعَةِ ، حتى ختم السورة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : يَسْئَلُونَكَ كأنّكَ حَفِيّ عَنْها يقول : كأنك يعجبك سؤالهم إياك . قُلْ إنّمَا عِلْمُها عِنْدَ اللّهَ .
وقوله : كأنّكَ حَفِيّ عَنْها يقول : لطيف بها .
فوجه هؤلاء تأويل قوله : كأنّكَ حَفِيّ عَنْها إلى حفيّ بها ، وقالوا : تقول العرب : تحفيت له في المسئلة ، وتحفيت عنه . قالوا : ولذلك قيل : أتينا فلانا نسأل به ، بمعنى نسأل عنه .
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : معناه : كأنك حفيّ بالمسئلة عنها فتعلمها .
فإن قال قائل : وكيف قيل : حَفِيّ عَنْها ولم يقل حفيّ بها ، إن كان ذلك تأويل الكلام ؟ قيل : إن ذلك قيل كذلك ، لأن الحفاوة إنما تكون في المسئلة ، وهي البشاشة للمسؤول عند المسئلة ، والإكثار من السؤال عنه ، والسؤال يوصل ب «عن » مرّة وبالباء مرّة ، فيقال : سألت عنه ، وسألت به فلما وضع قوله «حفي » موضع السؤال ، وصل بأغلب الحرفين اللذين يوصل بهما السؤال ، وهو «عن » ، كما قال الشاعر :
سُؤَالَ حَفِيَ عَنْ أخِيهِ كأنّه ***يُذَكّرُهُ وَسْنانُ أوْ مُتَوَاسِنُ
وأما قوله : قُلْ إنّمَا عِلْمُها عِنْدَ اللّهِ فإن معناه : قل يا محمد لسائليك عن وقت الساعة وحين مجيئها : لا علم لي بذلك ، ولا يعلم به إلاّ الله الذي يعلم غيب السموات والأرض . وَلكِنّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمونَ يقول : ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن ذلك لا يعلمه إلاّ الله ، بل يحسبون أن علم ذلك يوجد عند بعض خلقه .
{ يسألونك عن الساعة } أي عن القيامة ، وهي من الأسماء الغالبة وإطلاقها عليها إما لوقوعها بغتة أو لسرعة حسابها ، أو لأنها على طولها عند الله كساعة . { أيان مرساها } متى إرساؤها أي إثباتها واستقرارها ورسو الشيء ثباته واستقراره ، ومنه رسا الجبل وأرسى السفينة ، واشتقاق { أيان } من أي لأن معناه أي وقت ، وهو من أويت إليه لأن البعض أوى إلى الكل . { قل إنما علمها عند ربي } استأثر به لم يطلع عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا . { ولا يجلّيها لوقتها } لا يظهر أمرها في وقتها . { إلا هو } والمعنى أن الخفاء بها مستمر على غيره إلى وقت وقوعها ، واللام للتأقيت كاللام في قوله : { أقم الصلاة لدلوك الشمس } . { ثقُلت في السماوات والأرض } عظمت على أهلها من الملائكة والثقلين لهولها ، وكأنه إشارة إلى الحكمة في إخفائها . { لا تأتيكم إلا بغتة } إلا فجأة على غفلة ، كما قال عليه الصلاة والسلام : " إن الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته والرجل يقوم سلعته في سوقه والرجل يخفض ميزانه ويرفعه " . { يسألونك كأنك حَفي عنها } عالم بها ، فعيل من حفى عن الشيء إذا سأل عنه ، فإن من بالغ في السؤال عن الشيء والبحث عنه استحكم علمه فيه ، ولذلك عدي بعن . وقيل هي صلة { يسألونك } . وقيل هو من الحفاوة بمعنى الشفقة فإن قريشا قالوا له : إن بيننا وبينك قرابة فقل لنا متى الساعة ، والمعنى يسألونك عنها كأنك حفي تتحفى بهم فتحضهم لأجل قرابتهم بتعليم وقتها . وقيل معناه كأنك حفي بالسؤال عنها تحبه ، من حفى بالشيء إذا فرح أن تكثره لأنه من الغيب الذي استأثر الله بعلمه . { قل إنما علمها عند الله } كرره لتكرير يسألونك لما نيط به من هذه الزيادة وللمبالغة . { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } أن علمها عند الله لم يؤته أحدا من خلقه .