القول في تأويل قوله تعالى { وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاّ قَلِيلاً } .
يقول عزّ وجلّ : وإن كاد هؤلاء القوم ليستفزونك من الأرض : يقول : ليستخفونك من الأرض التي أنت بها ليخرجوك منها وَإذا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إلاّ قَلِيلاً يقول : ولو أخرجوك منها لم يلبثوا بعدك فيها إلاّ قليلاً ، حتى أهلكهم بعذاب عاجل .
واختلف أهل التأويل في الذين كادوا أن يستفزّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرجوه من الأرض وفي الأرض التي أرادوا أن يخرجوه منها فقال بعضهم : الذين كادوا أن يستفزّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك اليهود ، والأرض التي أرادوا أن يخرجوه منها المدينة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : زعم حضرميّ أنه بلغه أن بعض اليهود قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : إن أرض الأنبياء أرض الشام ، وإن هذه ليست بأرض الأنبياء ، فأنزل الله وَإنْ كادُوا لَيَسْتَفِزّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها .
وقال آخرون : بل كان القوم الذين فعلوا ذلك قريشا ، والأرض مكة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله وَإنْ كادُوا لَيَسْتَفِزّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإذا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إلاّ قَلِيلاً وقد همّ أهل مكة بإخراج النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكة ، ولو فعلوا ذلك لما توطنوا ، ولكن الله كفهم عن إخراجه حتى أمره ، ولقلما مع ذلك لبثوا بعد خروج نبيّ الله صلى الله عليه وسلم من مكة حتى بعث الله عليهم القتل يوم بدر .
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة لَيَسْتَفِزّونَكَ مِنَ الأرْضِ قال : قد فعلوا بعد ذلك ، فأهلكهم الله يوم بدر ، ولم يلبثوا بعده إلاّ قليلاً حتى أهلكهم الله يوم بدر . وكذلك كانت سنّة الله في الرسل إذا فعل بهم قومهم مثل ذلك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد خِلافَكَ إلاّ قَلِيلاً قال : لو أخرجت قريش محمدا لعذّبوا بذلك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب ، قول قتادة ومجاهد ، وذلك أن قوله : وَإنْ كادُوا لَيَسْتَفِزّونَكَ مِنَ الأرْضِ في سياق خبر الله عزّ وجلّ عن قريش وذكره إياهم ، ولم يجر لليهود قبل ذلك ذكر ، فيوجه قوله وَإنْ كادُوا إلى أنه خبر عنهم ، فهو بأن يكون خبرا عمن جرى له ذكر أولى من غيره . وأما القليل الذي استثناه الله جلّ ذكره في قوله وإذا لا يَلْبَثُونَ خَلْفَكَ إلاّ قَلِيلاً فإنه فيما قيل ، ما بين خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى أن قتل الله من قتل من مشركيهم ببدر . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : وإذا لا يَلْبَثُونَ خَلْفَكَ إلاّ قَلِيلاً يعني بالقليل يوم أخذهم ببدر ، فكان ذلك هو القليل الذي لبثوا بعد .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَإذا لا يَلْبَثُونَ خَلْفَكَ إلاّ قَلِيلاً كان القليل الذي لبثوا بعد خروج النبيّ صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم إلى بدر ، فأخذهم بالعذاب يوم بدر ، وعُنِي بقوله خلافك بعدك ، كما قال الشاعر :
عَقَبَ الرّذَاذُ خِلافَها فكأنّمَا *** بسَط الشّواطِبُ بَيْنَهُنّ حَصِيرا
يعني بقوله : خلافها : بعدها . وقد حُكي عن بعضهم أنه كان يقرؤها : خلفك . ومعنى ذلك ، ومعنى الخلاف في هذا الموضع واحد .
عطف على جملة { وإن كادوا ليفتنونك } [ الإسراء : 73 ] تعداداً لسيئات أعمالهم . والضمائر متحدة .
والاستفزاز : الحمل على الترحل ، وهو استفعال من فَزّ بمعنى بارح المكان ، أي كادوا أن يسعوا أن تكون فازاً ، أي خارجاً من مكة . وتقدم معنى هذا الفعل عند قوله : { واستفزز من استطعت } في هذه السورة [ الإسراء : 64 ] . والمعنى : كادوا أن يخرجوك من بلدك . وذلك بأن هَمُّوا بأن يخرجوه كرهاً ثم صرفهم الله عن ذلك ليكون خروجه بغير إكراه حين خرج مهاجراً عن غير علم منهم لأنهم ارتأوا بعد زمان أن يُبقوه بينهم حتى يقتلوه .
والتعريف في { الأرض } تعريف العهد ، أي من أرضك وهي مكة .
وقوله : { ليخرجوك } تعليل للاستفزاز ، أي استفزازاً لقصد الإخراج .
والمراد بالإخراج : مفارقة المكان دون رجوع . وبهذا الاعتبار جعل علة للاستفزاز لأن الاستفزاز أعم من الإخراج .
وجملة { وإذا لا يلبثون خلفك } عطف على جملة { وإن كادوا } ، أو هي اعتراض في آخر الكلام ، فتكون الواو للاعتراض و ( إذاً ) ظرفاً لقوله : { لا يلبثون } وهي ( إذ ) الملازمة الإضافة إلى الجملة .
ويجوز أن يكون ( إذاً ) حرف جواب وجزاء لكلام سابق . وهي التي نونها حرف من الكلمة ولكن كثرت كتابتها بألف في صورة الاسم المنون . والأصل فيها أن يكون الفعل بعدها منصوباً ب ( أن ) مضمرة ، فإذا وقعت بعد عاطف جاز رفع المضارع بعدها ونصبه .
ويجوز أن تكون ( إذاً ) ظرفاً للزمان ، وتنوينها عوض عن جملة محذوفة على قول جماعة من نحاة الكوفة ، وهو غير بعيد . ألا ترى أنها إذا وقعت بعد عاطف لم ينتصب بعدها المضارع إلا نادراً لانتفاء معنى التسبب ، ولأنها حينئذٍ لا يظهر فيها معنى الجواب والجزاء .
والتقدير : وإذَا أخرجوك أو وإذا خرجت لا يلبثون خلفك إلا قليلاً .
و { خلفك } أريد به بعدك . وأصل الخلف الوراء فاستعمل مجازاً في البعدية ، أي لا يلبثون بعدك .
وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص ، وخلف { خلافك } وهو لغة في خلف . وتقدم عند قوله تعالى : { بمقعدهم خلاف رسول الله } [ التوبة : 81 ] .
واللبث : الاستقرار في المكان ، أي لا يستقرون في مكة بل يخرجون منها فلا يرجعون . وقد خرج رسول الله بعد ذلك مهاجراً وكانوا السببَ في خروجه فكأنهم أخرجوه ، كما تقدم عند قوله تعالى : { وأخرجوهم من حيث أخرجوكم } في سورة [ البقرة : 191 ] ، فلم يلبث الذين تسببوا في إخراجه وألبوا عليه قومهم بعده إلا قليلاً ثم خرجوا إلى وقعة بدر فلقوا حتفهم هنالك فلم يرجعوا وحق عليهم الوعيد ، وأبقى الله عامتهم ودهاءهم لضعف كيدهم فأراد الله أن يدخلوا في الإسلام بعد ذلك .
وفي الآية إيماء إلى أن الرسول سيخرج من مكة وأن مخرجيه ، أي المتسببين في خروجه ، لا يلبثون بعده بمكة إلا قليلاً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.