4- قبل أن تمضى تسع سنوات - وكان المشركون قد فرحوا بانتصار فارس ، وقالوا للمسلمين : سنغلبكم كما غلبت فارس الروم التي هي من أهل الكتاب - قد حقَّق الله وعده ، فانتصر الروم على فارس في الأجل الذي سمَّاه ، فكان ذلك آية بينة على صدق محمد ( في دعواه وصحة ما جاء به ، لله الأمر والقضاء من قبل كل شيء ومن بعد كل شيء ، ويوم ينتصر الروم على فارس يفرح المؤمنون بنصر الله الذي يؤيد من يشاء ، وهو الغالب على أعدائه ، الرحيم بأوليائه .
{ فِي بِضْعِ سِنِينَ } تسع أو ثمان ونحو ذلك مما لا يزيد على العشر ، ولا ينقص عن الثلاث ، وأن غلبة الفرس للروم ثم غلبة الروم للفرس كل ذلك بمشيئته وقدره ولهذا قال : { لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ } فليس الغلبة والنصر لمجرد وجود الأسباب ، وإنما هي لا بد أن يقترن بها القضاء والقدر .
{ وَيَوْمَئِذٍ } أي : يوم يغلب الروم الفرس ويقهرونهم { يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ
وقوله : فِي بضْعِ سِنِينَ قد ذكرنا اختلاف أهل التأويل في معنى البضع فيما مضى ، وأتينا على الصحيح من أقوالهم ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وقد :
حدثنا ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله : لِلّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ دولة فارس على الروم وَمِنْ بَعْدُ دولة الروم على فارس .
وأما قوله : وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ فقد ذكرنا الرواية في تأويله قبل ، وبيّنا معناه .
وقرأ الجمهور «غُلبت » بضم الغين وقالوا معنى الآية أنه طرأ بمكة أن الملك كسرى هزم جيش ملك الروم قال مجاهد : في الجزيرة وهو موضع بين العراق والشام ، وقال عكرمة : وهي بين بلاد العرب والشام ، وقال مقاتل : بالأردن وفلسطين ، فلما طرأ ذلك سر الكفار فبشر الله عباده بأن الروم { سيغلبون في بضع سنين } وتكون الدولة لهم في الحرب ، وقرأ أبو سعيد الخدري وعلي بن أبي طالب ومعاوية بن قرة وعبد الله بن عمر «غَلَبت » الروم بفتح الغين واللام ، وتأويل ذلك أن الذي طرأ يوم بدر إنما كان أن الروم غلبت فعز ذلك على كفار قريش وسر المسلمون فبشر الله تعالى عباده بأنهم { سيغلبون } أيضاً { في بضع سنين } ، ذكر هذا التأويل أبو حاتم ، والرواية الأولى والقراءة بضم الغين أصح ، وأجمع الناس على «سيَغلبون » أنه بفتح الياء{[1]} يريد به الروم ، وروي عن ابن عمرو أنه قرأ أيضاً «سيُغلبون » بضم الياء ، وفي هذه القراءة قلب للمعنى الذي تظاهرت الروايات به ، و { أدنى الأرض } معناه أقرب الأرض ، فإن كانت الوقعة في أذرعات فهي من { أدنى الأرض } بالقياس إلى مكة وهي التي ذكر امرؤ القيس في قوله : [ الطويل ]
تنورتها من أذرعات وأهلها . . . بيثرب أدنى دارها نظر عال{[2]}
وإن كانت الوقعة بالجزيرة فهي { أدنى } بالقياس إلى أرض كسرى ، وإن كانت بالأردن فهي { أدنى } إلى أرض الروم ، قال أبو حاتم : وقرىء «أداني الأرض »{[3]} ، وقرأ جمهور الناس «غلَبهم » بفتح اللام كما يقال أحلب حلباً لك شطره{[4]} ، وقرأ ابن عمر بسكونها وهما مصدران بمعنى واحد وأضيف إلى المفعول{[5]} ، وروي في قصص هذه الآية عن ابن عباس وغيره أن الكفار لما فرحوا بمكة بغلب الروم بشر الله نبيه والمؤمنين بأن الروم { سيغلبون في بضع سنين } أي من الثلاثة إلى التسعة على مشهور قول اللغويين . كأنه تبضيع العشرة أي تقطيعها وقال أبو عبيدة : من الثلاث إلى الخمس ، وقوله مردود ، فلما بشرهم بذلك خرج أبو بكر الصديق إلى المسجد فقال لهم : أسركم إن غلبت الروم فإن نبينا أخبرنا عن الله تعالى أنهم { سيغلبون في بضع سنين } فقال له أبي بن خلف وأمية أخوه وقيل أبو سفيان بن حرب تعال يا أبا فصيل يعرضون بكنيته بالبكر{[6]} فلنتناخب ، أي نتراهن ، في ذلك فراهنهم أبو بكر قال قتادة : وذلك قبل أن يحرم القمار وجعل الرهن خمس قلائص ، والأجل ثلاث سنين ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال له «إن البضع إلى التسعة ولكن زدهم في الرهن واستزدهم في الأجل »
، ففعل أبو بكر فجعلوا القلائص مائة والأجل تسعة أعوام ، فغلبت الروم في أثناء الأجل ، فروي عن أبي سعيد الخدري أن إيقاع الروم بالفرس كان يوم بدر ، وروي أن ذلك كان يوم الحديبية وأن الخبر بذلك وصل يوم بيعة الرضوان ، روي نحوه عن قتادة ، وفي كلا اليومين كان نصر من الله تعالى للمؤمنين ، وذكر الناس أن سبب سرور المسلمين بغلبة الروم وهمهم أن تغلب وكون المشركين من قريش على ضد ذلك إنما هو أن الروم أهل كتاب كالمسلمين ، والفرس أهل الأوثان أو نحوه من عبادة النار ككفار قريش والعرب .
قال القاضي أبو محمد : ويشبه أن يعلل ذلك بما تقتضيه الفطر من محبة أن يغلب العدو الأصغر لأنه أيسر مؤنة ومتى غلب الأكبر كثر الخوف منه ، فتأمل هذا المعنى مع ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجاه من ظهور دينه وشرع الله الذي بعثه به وغلبته على الأمم وإرادة كفار مكة أن يرميه الله بملك يستأصله ويريحهم منه{[7]} . و { سنين } ، يجمع كجمع من يعقل عوضاً من النقص الذي في واحده لأن أصل سنة سنهة أو سنوة ، وكسرت السين منه دلالة على جمعه خارج عن قياسه ونمطه .
ثم أخبر تعالى بانفراده بالقدرة وأن ما في العالم من غلبة وغيرها إنما هي منه وبإرادته وقدره ، فقال { لله الأمر } أي إنفاذ الأحكام { من قبل ومن بعد } أي من بعد هذه الغلبة التي بين هؤلاء القوم ، و { قبل } و { بعد } ظرفان بنيا على الضم لأنهما تعرفا بحذف ما أضيفا إليه وصارا متضمنين ما حذف فخالفا معرب الأسماء وأشبها الحروف في التضمين فبينا وخصا بالضم لشبههما بالمنادى المفرد في أنه إذا نكر أو أَضيف زال بناؤه ، وكذلك هما فضما كما المنادى مبني على الضم ، وقيل في ذلك أيضاً أن الفتح تعذر فيهما لأنه حالهما في إظهار ما أضيفا إليه ، وتعذر الكسر لأنه حالهما عند إضافتهما إلى المتكلم ، وتعذر السكون لأن ما قبل أحدهما ساكن ، فلم يبق إلا الضم فبنيا عليه ، ومن العرب من يقول «من قبلٍ ومن بعدٍ » بالخفض والتنوين .
قال الفراء : ويجوز ترك التنوين فيبقى كما هو في الإضافة وإن حذف المضاف{[8]} ، وقوله تعالى : { ويومئذ } يحتمل أن يكون عطفاً على القبل والبعد ، كأنه حصر الأزمنة الثلاثة الماضي والمستقبل والحال ، ثم ابتدأ الإخبار بفرح المؤمنين بالنصر{[9]} ، ويحتمل أن يكون الكلام تم في قوله { بعد } ، ثم استأنف عطف جملة أخبر فيها أن يوم غلبت الروم الفرس { يفرح المؤمنون بنصر الله } ، وعلى هذا الاحتمال مشى المفسرون ، والنصر الذي { يفرح } به { المؤمنون } يحتمل أن يشار فيه إلى نصر الروم على فارس وهي نصرة الإسلام بحكم السببين اللذين قد ذكرتهما ، ويحتمل أن يشار فيه إلى نصر يخص المؤمنين على عدوهم وهذا أيضاً غيب أخبر به وأخرجه الوجود إما يوم بدر وإما يوم بيعة الرضوان ، ويحتمل أن يشار به إلى فرح المسلمين بنصر الله إياهم في أن صدق ما قال نبيهم من أن الروم ستغلب فارس فإن هذا ضرب من النصر عظيم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{في بضع سنين} يعني خمس سنين، أو سبع سنين إلى تسع.
{لله الأمر من قبل} حين ظهرت فارس على الروم، {ومن بعد} ما ظهرت الروم على فارس.
{ويومئذ يفرح المؤمنون} وذلك أن فارس غلبت الروم، ففرح بذلك كفار مكة، فقالوا: إن فارس ليس لهم كتاب، ونحن منهم، وقد غلبوا أهل الروم، وهم أهل كتاب قبلكم، فنحن أيضا نغلبكم كما غلبت فارس الروم، فخاطرهم أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، على أن يظهر الله عز وجل الروم على فارس، فلما كان يوم بدر غلب المسلمون كفار مكة، وأتى المسلمين الخبر بعد ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون بالحديبية أن الروم قد غلبوا أهل فارس، ففرح المسلمون بذلك، فذلك قوله تبارك وتعالى: {ويومئذ يفرح المؤمنون} {بنصر الله ينصر من يشاء} فنصر الله عز وجل الروم على فارس، ونصر المؤمنين على المشركين يوم بدر... {وهو العزيز} يعني المنيع في ملكه {الرحيم} بالمؤمنين حين نصرهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{لله الأمر من قبل ومن بعد} قال بعضهم: {لله الأمر من قبل} قبل غلبة فارس على الروم {ومن بعد} بعد غلبة فارس على الروم. ويقال: {لله الأمر من قبل} حين ظهرت الفارس على الروم {ومن بعد} بعدما ظهرت الروم [على فارس. وجائز أن يكون قوله: {لله الأمر} في خلقه، أي التدبير فيه وله الأمر فيهم، أي ليس لأحد في الخلق أمر ولا تدبير، وإنما ذلك له كقوله: {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف: 54] له التدبير فيهم والأمر.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قال أبو سعيد الخدري: كان النصر يوم بدر للفريقين للنبي (صلى الله عليه وآله) والروم على فارس، ففرح المؤمنون بالنصرين. وقيل: كان يوم الحديبية...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
" {قَبْلُ} إذا أُطْلق انتظم الأزل، "" وبَعْدُ "" إذا أطلق دلّ على الأبد؛ فالمعنى الأمر الأزلي لله، والأمر الأبدي للّهِ، لأنَّ الرَّبِّ الأزلي والسَّيِّدَ الأبدي اللَّهُ...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
أخبر تعالى بانفراده بالقدرة وأن ما في العالم من غلبة وغيرها إنما هي منه وبإرادته وقدره، فقال {لله الأمر} أي إنفاذ الأحكام {من قبل ومن بعد}.
{ويومئذ} يحتمل أن يكون عطفاً على القبل والبعد، كأنه حصر الأزمنة الثلاثة الماضي والمستقبل والحال، ثم ابتدأ الإخبار بفرح المؤمنين بالنصر، ويحتمل أن يكون الكلام تم في قوله {بعد}، ثم استأنف عطف جملة أخبر فيها أن يوم غلبت الروم الفرس {يفرح المؤمنون بنصر الله}، وعلى هذا الاحتمال مشى المفسرون.
والنصر الذي {يفرح} به {المؤمنون}...يحتمل أن يشار به إلى فرح المسلمين بنصر الله إياهم في أن صدق ما قال نبيهم من أن الروم ستغلب فارس فإن هذا ضرب من النصر عظيم...
{في بضع سنين} قيل هي ما بين الثلاثة والعشرة، أبهم الوقت مع أن المعجزة في تعيين الوقت أتم، فنقول السنة والشهر واليوم والساعة كلها معلومة عند الله تعالى وبينها لنبيه وما أذن له في إظهارها لأن الكفار كانوا معاندين، والأمور التي تقع في البلاد النائية تكون معلومة الوقوع بحيث لا يمكن إنكارها، لكن وقتها يمكن الاختلاف فيه، فالمعاند كان يتمكن من أن يرجف بوقوع الواقعة قبل الوقوع ليحصل الخلف في كلامه
{لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون}. ثم قال تعالى: {لله الأمر من قبل ومن بعد} أي من قبل الغلبة ومن بعدها أو من قبل هذه المدة ومن بعدها، يعني إن أراد غلبهم غلبهم قبل بضع سنين وإن أراد غلبهم غلبهم بعدها، وما قدر هذه المدة لعجز وإنما هي إرادة نافذة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
وعبر بالبضع ولم يعين إبقاء للعباد في ربقة نوع من الجهل، تعجيزاً لهم، وتحدياً لمن عاند بنفي ما أخبر به أو يعلم ما ستر منه، وتشريعاً للتعمية إذا قادت إليها مصلحة... ولما أخبر بهذه المعجزة، تلاها بمعجزة أخرى، وهو أن أهل الإسلام لا يكون لهم ما يهمهم فيسرون بنصره فقال: {ويومئذ يفرح المؤمنون}
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وحكمة إبهام عدد السنين أنه مقتضى حال كلام العظيم الحكيم أن يقتصر على المقصود إجمالاً وأن لا يتنازل إلى التفصيل لأن ذلك التفصيل يتنزل منزلة الحشو عند أهل العقول الراجحة وليكون للمسلمين رجاء في مدة أقرب مما ظهر ففي ذلك تفريج عليهم.
وهذه الآية من معجزات القرآن، وكان غلبهم السابق أيضاً بنصر الله إياهم على الروم لحكمة اقتضت هذا التعاقب وهي تهيئة أسباب انتصار المسلمين على الفريقين إذا حاربوهم بعد ذلك لنشر دين الله في بلاديْهم، وقد أومأ إلى هذا قوله لله الأمْرُ مِنْ قَبْلُ ومِنْ بَعْدُ}...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{لِلَّهِ الأمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} وهذه هي الحقيقة الإيمانية التي تحكم كل قضايا الحياة المتعلقة بالناس في علاقاتهم في ساحة النصر أو الهزيمة، فقد يتحركون في ذلك بإرادتهم الذاتية، في ما يأخذون به أو يتركونه من الوسائل الواقعية، ولكن العمق الأساس للإرادة الإِلهية التي تخطط للحياة قوانينها وسننها الطبيعية، هو أن الله من وراء كل شيء، فهو يملك كل الأمر في حركة الواقع، لأنه هو السبب الأعمق في كل مواقع الأسباب في قانون السببية للأشياء، ما يجعل الإنسان المؤمن واثقاً بالله في كل الأمور التي يتحرك بها الحاضر، أو يختزنها المستقبل، فلا يعيش الإنسان القلق الذي يثير الاهتزاز في داخله أمام أيّ حدثٍ طارئ، بل يترك الأمر لله من خلال هذه الحقيقة التي تؤكد للناس كلهم بأن الأمر لله من قبل ومن بعد، وإذا كان الأمر كذلك، وكانت الحكمة هي الأساس في تدبير الله للكون، وكانت الرحمة هي الصفة الإلهية التي ترعى للإنسان حياته، فلا مشكلة هناك، فيسلّم الأمر له، وينطلق إلى الأهداف الكبرى بخطواتٍ ثابتة.
وهكذا ينبغي للمؤمنين أن يواجهوا الموقف المعقّد الذي حاول المشركون أن يُسقطوا به روحهم المعنوية، للإيحاء لهم بالهزيمة المرتقبة لهم، من خلال هزيمة المؤمنين الآخرين من أهل الكتاب، على أساس أن انتصار الكفر في موقع يعني انتصار كل الكافرين، وأن ضعف الإيمان في موقعٍ يعني ضعف كل المؤمنين. إن عليهم أن يواجهوا المسألة من خلال الحقيقة الإيمانية لا من خلال بعض الأحداث القلقة التي لا تمثل قاعدةً ثابتةً للحياة كلها، بل هي من بعض أوضاع الحياة العامة التي تنتقل بين انتصار فريق هنا وهزيمة فريقٍ هناك، وذلك في ما توحي به الآية الكريمة: {وَتِلْكَ الأيامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140]. فإذا كان الله قد تكفل بنصر دينه، فعليهم أن يثقوا بذلك وينتظروا النصر المؤكد منه...