{ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ } أي : مترددين بين فريق المؤمنين وفريق الكافرين . فلا من المؤمنين ظاهرا وباطنا ، ولا من الكافرين ظاهرا وباطنا . أعطوا باطنهم للكافرين وظاهرهم للمؤمنين ، وهذا أعظم ضلال يقدر . ولهذا قال : { وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا } أي : لن تجد طريقا لهدايته ولا وسيلة لترك غوايته ، لأنه انغلق عنه باب الرحمة ، وصار بدله كل نقمة .
فهذه الأوصاف المذمومة تدل بتنبيهها على أن المؤمنين متصفون بضدها ، من الصدق ظاهرا وباطنا ، والإخلاص ، وأنهم لا يجهل ما عندهم ، ونشاطهم في صلاتهم وعباداتهم ، وكثرة ذكرهم لله تعالى . وأنهم قد هداهم الله ووفقهم للصراط المستقيم . فليعرض العاقل نفسه على هذين الأمرين وليختر أيهما أولى به ، وبالله{[248]} المستعان .
{ مّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَىَ هََؤُلآءِ وَلاَ إِلَى هََؤُلآءِ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { مُذَبْذَبِينَ } : مردّدين ، وأصل التذبذب : التحرّك والاضطراب ، كما قال ، النابغة :
ألَمْ تَرَ أنْ اللّهَ أعْطَاكَ سُورَةً ***ترَى كُلّ مَلْكٍ دُوَنها يَتَذبْذَبُ
وإنا عنى بذلك : أن المنافقين متحيرون في دينهم ، لا يرجعون إلى اعتقاد شيء على صحةٍ فهم لامع المؤمنين على بصيرة ، ولا مع المشركين على جهالة ، ولكنهم حيارى بين ذلك ، فمثلهم المثل الذي ضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي :
حدثنا به محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهبا ، قال : حدثنا عبيد الله عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «مَثَلُ المُنافِقِ كَمَثَله الشّاةِ العائِرةِ بَيَنَ الغَنَمَيْنِ ، تَعِيرُ إلى هَذِهِ مَرّةً وَإلى هَذِهِ مَرّةً ، لا تَدْرِي أيّتَهُما تَتْبَعُ » .
وحدثنا به محمد بن المثنى مرّة أخرى عن عبد الوهاب ، فوقفه على ابن عمر ولم يرفعه ، قال : حدثنا عبد الوهاب مرْتين كذلك .
ثني عمران بن بكار ، قال : حدثنا أبو روح ، قال : حدثنا ابن عباس ، قال : حدثنا عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مثله .
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { مُذَبْذَبِينَ بينَ ذَلِكَ لا إلى هَؤلاءِ وَلا إلى هَؤُلاءِ } يقول : ليسوا بمشركين فيظهروا الشرك ، وليسوا بمؤمنين .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { مُذَبْذَبينَ بينَ ذَلِكَ لا إلى هَؤُلاءِ وَلا إلى هَؤُلاءِ } يقول : ليسوا بمؤمنين مخلصين ولا مشركين مصرّحين بالشرك . قال : وذكر لنا أن نبيّ الله عليه الصلاة والسلام كان يضرب مثلاً للمؤمن والمنافق والكافر ، كمثل رهط ثلاثة دفعوا إلى نهر ، فوقع المؤمن فقطع ، ثم وقع المنافق حتى إذا كاد يصل إلى المؤمن ، ناداه الكافر : أن هلمّ إليّ فإني أخشى عليك ! وناداه المؤمن : أن هلمّ إليّ فإن عندي وعندي ! يحصي له ما عنده . فما زال المنافق يتردّد بينهما حتى أتي عليه الماء فغرّقه ، وإن المنافق لم يزل في شكّ وشبهة حتى أتى عليه الموت وهو كذلك . قال : وذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «مَثَلُ المُنافِقِ كَمَثَلِ ثاغِيَةٍ بينَ غَنَمَيْنِ رأتْ غَنَما عَلى نَشَزٍ ، فَأتَتْها فَلَمْ تُعْرَفْ ، ثمّ رأتْ غَنما على نَشَزٍ فَأتَتْها وَشامّتْها فَلَمْ تُعْرَفْ » .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { مُذَبْذَبِينَ } قال : المنافقون .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { مُذَبْذَبينَ بينَ ذَلِكَ لا إلى هَؤُلاءِ وَلا إلى هُؤلاءِ } يقول : لا إلى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا إلى هؤلاء اليهود .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : { مُذَبْذَبِينَ بينَ ذَلِكَ } قال : لم يخلصوا الإيمان فيكونوا مع المؤمنين ، وليسوا مع أهل الشرك .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { مذَبْذَبِينَ بينَ ذَلكَ } : بين الإسلام والكفر { لا إلى هَؤُلاءِ وَلا إلى هَؤلاءِ } .
وأما قوله : { وَمَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } فإنه يعني : من يخذ له الله عن طريق الرشاد وذلك هو الإلام الذي دعا الله إليه عباده ، يقول : من يخذ له الله عنه فلم يوفقه له ، فلن تجد له يا محمد سبيلاً : يعني طريقا يسلكه إلى الحقّ غيره . وأيّ سبيل يكون له إلى الحقّ غير الإسلام ؟ وقد أخبر الله جل ثناؤه : أنه من يتبع غيره دينا فلن يُقبل منه ، ومن أضله الله عنه فقد غوى ، فلا هادي له غيره .
{ مذبذبين بين ذلك } حال من واو { يراؤون } كقوله : { ولا يذكرون } أي يراؤونهم غير ذاكرين مذبذبين أو واو يذكرون أو منصوب على الذم ، والمعنى : مرددين بين الإيمان والكفر من الذبذبة وهي جعل الشيء مضطربا ، وأصله الذي بمعنى الطرد . وقرئ بكسر الذال بمعنى يذبذبون قلوبهم أو دينهم أو يتذبذبون كقولهم : صلصل بمعنى تصلصل . وقرئ بالدال غير المعجمة بمعنى أخذوا تارة في دبة وتارة في دبة وهي الطريقة . { لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء } لا منسوبين إلى المؤمنين ولا إلى الكافرين ، أو لا صائرين إلى أحد الفريقين بالكلية . { ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا } إلى الحق والصواب ، ونظيره قوله تعالى : { ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور } .
و { مذبذبين } معناه : مضطربين لا يثبتون على حال : والتذبذب : الاضطراب بخجل أو خوف أو إسراع في مشي ونحوه ، ومنه قول النابغة :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** ترى كل ملك دونها يتذبذب{[4342]}
ومنه قول الآخر : [ البعيث بن حريث ] :
خَيَالٌ لأُمِّ السَّلْسَبيلِ وَدُونَها مَسِيرةُ شَهْرٍ للْبَرِيدِ المُذَبْذَبِ{[4343]}
بكسر الذال الثانية ، قال أبو الفتح : أي المهتز القلق الذي لا يثبت ، ولايتمهل فهؤلاء المنافقون مترددون بين الكفار والمؤمنين ، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين »{[4344]} فالإشارة بذلك إلى حالي الكفر والإيمان ، وأشار إليه وإن لم يتقدم ذكره ، لظهور تضمن الكلام له ، كما جاء { حتى توارت بالحجاب } [ ص : 32 ] { وكل من عليها فان }{[4345]} وقرأ جمهور الناس «مذبذَبين » بفتح الذال الأولى والثانية ، وقرأ ابن عباس وعمرو بن فائد ، «مذَبذِبين » بكسر الذال الثانية وقرأ أبي بن كعب «متذبذِبين » بالتاء وكسر الذال الثانية وقرأ الحسن بن أبي الحسن «مَذَبذَبين » بفتح الميم والذالين وهي قراءة مردودة وقوله تعالى : { فلن تجد له سبيلاً } معناه سبيل هدى وإرشاد .
جاء بحال تعبر عن جامع نفاقهم وهي قوله : { مُذبذبينَ بينَ ذلك } وهو حال من ضمير { يُراءون } .
والمذَبْذَب اسم مفعول من الذّبْذَبة . يقال : ذبذبه فتذبذب . والذبذبة : شدّة الاضطراب من خوف أو خجل ، قيل : إن الذبذبة مشتقّة من تكرير ذَبّ إذا طَرد ، لأنّ المطرود يعجّل ويضطرب ، فهو من الأفعال التي أفادت كثرة المصدر بالتكرير ، مثل زلزل ولَمْلَم بالمكان وصلصل وكبكب ، وفيه لغة بدالين مهملتين ، وهي التي تجري في عاميتنا اليوم ، يقولون : رجل مدبدب ، أي يفعل الأشياء على غير صواب ولا توفيق . فقيل : إنّها مشتقّة من الدْبَّة بضمّ الدال وتشديد الباء الموحدة أي الطريقة بمعنى أنّه يَسلك مرّة هذا الطريق ومرّة هذا الطريق .
والإشارة بقوله : { بين ذلك } إلى ما استفيد من قوله : { يُراءون الناس } لأنّ الذي يقصد من فعله إرضاء الناس لا يلبث أن يصير مذبذباً ، إذ يجد في النماس أصنافاً متبايَنة المقاصد والشهوات . ويجوز جعل الإشارة راجعة إلى شيء غير مذكور ، ولكن إلى ما من شأنه أن يشار إليه ، أي مذبذبين بين طرفين كالإيمان والكفر .
وجملة { لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء } صفة ل { مذبذبين } لقصد الكشف عن معناه لما فيه من خفاء الاستعارة ، أو هي بيان لقوله : { مذبذبين بين ذلك } . و { هؤلاء } أحدهما إشارة إلى المؤمنين ، والآخر إشارة إلى الكافرين من غير تعيين ، إذ ليس في المقام إلاّ فريقان فأيّها جعلته مشاراً إليه بأحد اسمي الإشارة صحّ ذلك ، ونظيره قوله تعالى { فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوّه } .
والتقدير لا هُم إلى المسلمين ولا هُم إلى الكافرين . و ( إلى ) متعلّقة بمحذوف دلّ عليه معنى الانتهاء ، أي لا ذاهبين إلى هذا الفريق ولا إلى الفريق الآخر ، والذهاب الذي دلّت عليه ( إلى ) ذهاب مجازي وهو الانتماء والانتساب ، أي هُم أضاعوا النسبتين فلا هم مسلمون ولا هم كافرون ثابتون ، والعرب تأتي بمثل هذا التركيب المشتمل على ( لا ) النافية مكرّرةً في غرضين : تارة يقصدون به إضاعة الأمرين ، كقول إحدى نساء حديث أمّ زرع « لا سَهْلٌ فيُرْتقَى ولا سمين فيُنْتَقَل » وقوله تعالى : { فَلاَ صَدَّقَ ولا صلّى } [ القيامة : 31 ] { لا ذلول تثير الأرض وَلا تسْقي الحرث } [ البقرة : 71 ] . وتارة يقصدون به إثبات حالة وسَط بين حالين ، كقوله تعالى : { لا شرقيةٍ ولا غريبةٍ } [ النور : 35 ] { لا فارض ولا بكر } [ المائدة : 68 ] ، وقول زهير :
فلاَ هُو أخفاها ولم يَتَقَدّمِ
وعلى الاستعمالين فمعنى الآية خفي ، إذ ليس المراد إثبات حالة وسط للمنافقين بين الإيمان والكفر ، لأنّه لا طائل تحت معناه ، فتعيّن أنّه من الاستعمال الأول ، أي ليسوا من المؤمنين ولا من الكافرين . وهم في التحقيق . ، إلى الكافرين . كما دَلّ عليه آيات كثيرة . كقوله : { الذين يتّخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين } [ النساء : 139 ] وقوله : { وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين } [ النساء : 141 ] . فتعيّن أنّ المعنى أنهم أضاعوا الإيمان والانتماء إلى المسلمين ، وأضاعوا الكفر بمفارقة نصرة أهله ، أي كانوا بحالة اضطراب وهو معنى التذبذب . والمقصود من هذا تحقيرهم وتنفير الفريقين من صحبتِهم لينبذهم الفريقان .
وقوله : { فلن تجد له سبيلاً } الخطاب لغير مُعّين ، والمعنى : لم تجد له سيبلاً إلى الهدى بقرينة مقابلته بقوله : { ومن يضلل الله } .