40- قال الذي آتاه الله قوة روحية وعلماً من الكتاب : أنا آتيك بهذا العرش قبل أن تحرك أجفانك . وقد نفذ ما قال . فلما رأى سليمان العرش ثابتاً عنده غير مضطرب قال : هذا من فضل الله الذي خلقني وأمدني بخيره ليختبرني أأشكر هذه النعمة أم لا أؤدي حقها ؟ ومن شكر الله فإنما يحط عن نفسه عبء الواجب ، ومن يترك الشكر على النعمة فإن ربي غنى عن الشكر ، كريم بالإنعام .
وهذا الملك العظيم الذي عند آحاد رعيته هذه القوة والقدرة وأبلغ من ذلك أن { قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ } . قال المفسرون : هو رجل عالم صالح عند سليمان يقال له : " آصف بن برخيا " كان يعرف اسم الله الأعظم الذي إذا دعا الله به أجاب وإذا سأل به أعطى .
{ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } بأن يدعو الله بذلك الاسم فيحضر حالا وأنه دعا الله فحضر . فالله أعلم [ هل هذا المراد أم أن عنده علما من الكتاب يقتدر به على جلب البعيد وتحصيل الشديد ]{[595]} .
{ فَلَمَّا رَآهُ } سليمان { مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ } حمد الله تعالى على إقداره وملكه وتيسير الأمور له و { قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ } أي : ليختبرني بذلك . فلم يغتر عليه السلام بملكه وسلطانه وقدرته كما هو دأب الملوك الجاهلين ، بل علم أن ذلك اختبار من ربه فخاف أن لا يقوم بشكر هذه النعمة ، ثم بين أن هذا الشكر لا ينتفع الله به وإنما يرجع نفعه إلى صاحبه فقال : { وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } غني عن أعماله كريم كثير الخير يعم به الشاكر والكافر ، إلا أن شكر نعمه داع للمزيد منها وكفرها داع لزوالها .
قوله : قَالَ الّذِي عِنْدَه عِلْمٌ مِنَ الكِتابِ يقول جلّ ثناؤه : قال الذي عنده علم من كتاب الله ، وكان رجلاً فيما ذكر من بني آدم ، فقال بعضهم : اسمه بليخا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو عثمة ، قال : حدثنا شعبة ، عن بشر ، عن قَتادة ، في قوله قالَ الّذي عنْدَه عِلْمٌ مِنَ الكِتابِ قال : كان اسمه بليخا .
حدثنا يحيى بن داود الواسطي ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح ، في قوله الّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتابِ رجل من الإنس .
حدثنا ابن عرفة ، قال : حدثنا مروان بن معاوية الفزاريّ ، عن العلاء بن عبد الكريم ، عن مجاهد ، في قول الله : قالَ الّذِي عِنْدَه عِلْمٌ مِنَ الكِتابِ أنا آتِيكَ بِهِ قال : أنا أنظر في كتاب ربي ، ثم آتيك به قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَيْكَ طَرْفُكَ قال : فتكلم ذلك العالم بكلام دخل العرش تحت الأرض حتى خرج إليهم .
حدثنا ابن عرفة ، قال : ثني حماد بن محمد ، عن عثمان بن مطر ، عن الزهريّ ، قال : دعا الذي عنده علم من الكتاب : يا إلهنا وإله كلّ شيء إلها واحدا ، لا إله إلا أنت ، ائتني بعرشها ، قال : فمثل بين يديه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة قالَ الّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتابِ قال : رجل من بني آدم أحسبه قال : من بني إسرائيل ، كان يعلم اسم الله الذي إذا دعي به أجاب .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله الّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتابِ قال : الاسم الذي إذا دعي به أجاب ، وهو : يا ذا الجلال والإكرام .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول : قال سليمان لمن حوله : أيّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلِ أنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ فقال عفريت أنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أن تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ قال سليمان : أريد أعجل من ذلك ، فقال رجل من الإنس عنده علم من الكتاب ، يعني اسم الله إذا دعي به أجاب .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الجِنّ أنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ ، وإنّي عَلَيْهِ لَقَوِيّ أمِينٌ لا آتيك بغيره ، أقول غيره أمثله لك . قال : وخرج يومئذٍ رجل عابد في جزيرة من البحر ، فلما سمع العفريت قالَ أنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَيْكَ طَرْفُكَ قال : ثم دعا باسم من أسماء الله ، فإذا هو يحمل بين عينيه ، وقرأ : فَلَمّا رآهُ مُسْتَقرّا عنْدَهُ قالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبّي . . . حتى بلغ إنّ رَبّي غَنِيّ كَرِيمٌ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال رجل من الإنس . قال : وقال مجاهد : الذي عنده علم من الكتاب : علم اسم الله .
وقال آخرون : الذي عنده علم من الكتاب ، كان آصف . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قَالَ عِفْرِيتٌ لسليمان أنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ ، وإنّي عَلَيْهِ لَقَوِيّ أمِينٌ فزعموا أن سليمان بن داود قال : أبتغي أعجل من هذا ، فقال آصف بن برخيا ، وكان صدّيقا يعلم الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله به أجاب ، وإذا سئل به أعطى : أنا يا نبيّ الله آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَيْكَ طَرْفُكَ .
وقوله : أنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَيْكَ طَرْفُكَ اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : أنا آتيك به قبل أن يصل إليك من كان منك على مدّ البصر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني إبراهيم ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن سعيد بن جُبَير قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَيْكَ طَرْفُكَ قال : من قبل أن يرجع إليك أقصى من ترى ، فذلك قوله قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَيْكَ طَرْفُكَ .
قال : ثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، قال : قال غير قَتادة قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَيْكَ طَرْفُكَ قبل أن يأتيك الشخص من مدّ البصر .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : من قبل أن يبلغ طرفك مداه وغايته . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم عن وهب بن منبه قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَيْكَ طَرْفُكَ تمدّ عينيك فلا ينتهي طرفك إلى مداه حتى أمثله بين يديك . قال : ذلك أريد .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا عثام ، عن إسماعيل ، عن سعيد بن جُبَير ، قال : أخبرت أنه قال : ارفع طرفك من حيث يجيء ، فلم يرجع إليه طرفه حتى وضع العرش بين يديه .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، قال : حدثنا سفيان ، عن عطاء ، عن مجاهد ، في قوله قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَيْكَ طَرْفُكَ قال : مدّ بصره .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَيْكَ طَرْفُكَ قال : إذا مدّ البصر حتى يردّ الطرف خاسئا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَيْكَ طَرْفُكَ قال : إذا مدّ البصر حتى يحسر الطرف .
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : قبل أن يرجع إليك طرفك من أقصى أثره ، وذلك أن معنى قوله يَرَتَدّ إلَيْكَ يرجع إليك البصر ، إذا فتحت العين غير راجع ، بل إنما يمتدّ ماضيا إلى أن يتناهى ما امتدّ نوره . فإذا كان ذلك كذلك ، وكان الله إنما أخبرنا عن قائل ذلك أنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ لم يكن لنا أن نقول : أنا آتيك به قبل أن يرتدّ راجعا إلَيْكَ طَرْفُكَ من عند منتهاه .
وقوله : فَلَمّا رآه مُسْتَقِرّا عِنْدَهُ يقول : فلما رأى سليمان عرش ملكة سبأ مستقرّا عنده . وفي الكلام متروك استغني بدلالة ما ظهر عما ترك ، وهو : فدعا الله ، فأتى به فلما رآه سليمان مستقرّا عنده .
وذُكر أن العالم دعا الله ، فغار العرش في المكان الذي كان به ، ثم نبع من تحت الأرض بين يدي سليمان . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سليمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه ، قال : ذكروا أن آصِف بن برخيا توضأ ، ثم ركع ركعتين ، ثم قال : يا نبيّ الله ، امدد عينك حتى ينتهي طرفك ، فمدّ سليمان عينه ينظر إليه نحو اليمن ، ودعا آصف فانخرق بالعرش مكانه الذي هو فيه ، ثم نبع بين يدي سليمان فَلَمّا رَآهُ سليمان مُسْتَقِرّا عِنْدَهَ قالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبّي لِيَبْلُوَنِي . . . الاَية .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، قال : نبع عرشها من تحت الأرض .
وقوله : قالَ هَذَا مِنْ فَضِلِ رَبّي لِيَبْلُوَنِي يقول : هذا البصر والتمكن والملك والسلطان الذي أنا فيه حتى حمل إليّ عرش هذه في قدر ارتداد الطرف من مأرب إلى الشام ، من فضل ربي الذي أفْضَلَه عليّ وعطائه الذي جاد به عليّ ، ليبلوني ، يقول : ليختبرني ويمتحنني ، أأشكر ذلك من فعله عليّ ، أم أكفر نعمته عليّ بترك الشكر له ؟
وقد قيل : إن معناه : أأشكر على عرش هذه المرأة إذ أُتيت به ، أم أكفر إذ رأيت من هو دوني في الدنيا أعلم مني ؟ ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : أخبرني عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، في قوله : فَلَمّا رآهُ مُسْتَقِرّا عِنْدَهُ قالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبّي لِيَبْلُوَنِي أأشْكُرُ على السرير إذ أُتيت به أمْ أكْفُرُ إذ رأيت من هو دوني في الدنيا أعلم مني ؟ .
وقوله : وَمَنْ شَكَرَ فإنّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ يقول : ومن شكر نعمة الله عليه ، وفضله عليه ، فإنما يشكر طلب نفع نفسه ، لأنه ليس بنفع بذلك غير نفسه ، لأنه لا حاجة لله إلى أحد من خلقه ، وإنما دعاهم إلى شكره تعريضا منه لهم للنفع ، لا لاجتلاب منه بشكرهم إياه نفعا إلى نفسه ، ولا دفع ضرّ عنها . وَمَنْ كَفَرَ فإنّ رَبّي غَنِيّ كَرِيمٌ يقول : ومن كفر نعمه وإحسانه إليه ، وفضله عليه ، لنفسه ظلم ، وحظّها بخَس ، والله غنّي عن شكره ، لا حاجة به إليه ، لا يضرّه كفر من كفر به من خلقه ، كريمٌ ، ومِن كرمه إفضاله على من يكفر نعمه ، ويجعلها وصلة يتوصل بها إلى معاصيه .