2- هو سبحانه الذي يملك - وحده - السماوات والأرض ، والمنزه عن اتخاذ الولد ، ولم يكن له أي شريك في ملكه ، وقد خلق كل شيء وقدَّره تقديراً دقيقاً بنواميس تكفل له أداء مهمته بنظام{[155]} .
{ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ْ } أى : له التصرف فيهما وحده ، وجميع من فيهما مماليك وعبيد له مذعنون لعظمته خاضعون لربوبيته ، فقراء إلى رحمته الذي { لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ْ } وكيف يكون له ولد أو شريك وهو المالك وغيره مملوك ، وهو القاهر وغيره مقهور وهو الغني بذاته من جميع الوجوه ، والمخلوقون مفتقرون إليه فقرا ذاتيا من جميع الوجوه ؟ "
وكيف يكون له شريك في الملك ونواصي العباد كلهم بيديه ، فلا يتحركون أو يسكنون ولا يتصرفون إلا بإذنه فتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، فلم يقدره حق قدره من قال فيه ذلك ولهذا قال : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ْ } شمل العالم العلوي والعالم السفلي من حيواناته ونباتاته وجماداته ، { فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ْ } أي : أعطى كل مخلوق منها ما يليق به ويناسبه من الخلق وما تقتضيه حكمته من ذلك ، بحيث صار كل مخلوق لا يتصور العقل الصحيح أن يكون بخلاف شكله وصورته المشاهدة ، بل كل جزء وعضو من المخلوق الواحد لا يناسبه غير محله الذي هو فيه . قال تعالى : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ْ } وقال تعالى : { رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ْ }
ثم وصف - سبحانه - ذاته بجملة من الصفات التى توجب له العبادة والطاعة فقال : { الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض } فهو الخالق لهما . وهو المالك لأمرهما ، لا يشاركه فى ذلك مشارك .
والجملة الكريمة خبر لمبتدأ محذوف . أو بدل من قوله : { الذي نَزَّلَ } .
{ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً } فهو - سبحانه - منزه عن ذلك وعن كل ما من شأنه أن يشبه الحوادث .
{ وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ } بل هو المالك وحده لكل شىء فى هذا الوجود .
{ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } أى : وهو - سبحانه - الذى خلق كل شىء فى هذا الوجود خلقا متقنا حكيما بديعا فى هيئته ، وفى زمانه ، وفى مكانه ، وفى وظيفته ، على حسب ما تقتضيه إرادته وحكمته . وصدق الله إذ يقول : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } فجملة " فقدره تقديرا " بيان لما اشتمل عليه هذا الخلق من إحسان واتقان فهو - سبحانه - لم يكتف بمجرد إيجاد الشىء من العدم ، وإنما أوجده فى تلك الصورة البديعة التى عبر عنها فى آية أخرى بقوله : { . . . صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ . . } قال صاحب الكشاف : فإن قلت : فى الخلق معنى التقدير . فما معنى قوله : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } .
قلت : معناه أنه أحدث كل شىء إحداثا مراعى فيه التقدير والتسوية ، فقدره وهيأه لما يصلح له . مثاله : أنه خلق الإنسان على هذا الشكل المقدر المسوى الذى تراه ، فقدره للتكاليف والمصالح المنوطة به فى بابى الدين والدنيا ، وكذلك كل حيوان وجماد ، جاء به على الجبلة المستوية المقدرة بأمثلة الحكمة والتدبير . . .
أجريت على اسم الله تعالى هذه الصفات الأربعُ بطريق تعريف الموصوليَّة لأن بعض الصلات معروف عند المخاطبين اتصافُ الله به وهما الصفتان الأولى والرابعة ؛ وإذ قد كانتا معلومتين كانت الصلتان الأخريان المذكورتان معهما في حكم المعروف لأنهما أجريتا على مَن عُرِف بالصلتين الأولى والرابعة فإن المشركين ما كانوا يمترون في أن الله هو مالك السماوات والأرض ولا في أن الله هُوَ خالق كل شيء كما في قوله : { قل مَن رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله } الآياتتِ من سورة المؤمنين ( 86 ، 87 ) ، ولكنهم يثبتون لله ولَداً وشريكاً في الملك .
ومن بديع النظم أن جعل الوصفان المختلف فيهما مَعهم متوسطين بين الوصفين اللذين لا مرية فيهما حتى يكون الوصفان المسلَّمَين كالدليل أوّلاً والنتيجة آخراً ، فإن الذي له ملك السماوات والأرض لا يليق به أن يتخذ ولَداً ولا أن يتخذ شريكاً لأن ملكه العظيم يقتضي غِنَاهُ المطلقَ فيقتضي أن يكون اتخاذه ولداً وشريكاً عبثاً إذ لا غاية له ، وإذا كانت أفعال العقلاء تصان عن العبث فكيف بأفعال أحكم الحكماء تعالى وتقدس .
فقوله : { الذي له ملك السموات والأرض } بدل مِن { الذي نزّل الفرقان } [ الفرقان : 1 ] .
وإعادة اسم الموصول لاختلاف الغرض من الصلتين لأن الصلة الأولى في غرض الامتنان بتنزيل القرآن للهدى ، والصلة الثانية في غرض اتصاف الله تعالى بالوحدانيَّة .
وفي الملك إيماء إلى أن الاشتراك في الملك ينافي حقيقة الملك التامة التي لا يليق به غيرها .
والخلق : الإيجاد ، أي أوجد كل موْجود من عظيم الأشياء وحقيرها . وفُرع على { خلق كل شيء فقدره تقديراً } لأنه دليل على إتقان الخلق إتقاناً يدل على أن الخالق متصف بصفات الكمال .
ومعنى { قدّره } جعله على مقدار وحدَ معيّن لا مجرد مصادفة ، أي خلقه مقدراً ، أي محكماً مضبوطاً صالحاً لما خلق لأجله لا تفاوت فيه ولا خلل . وهذا يقتضي أنه خلقه بإرادة وعلم على كيفية أرادها وعيّنها كقوله : { إنا كلَّ شيء خلقناه بقَدَر } [ القمر : 49 ] . وقد تقدم في قوله تعالى : { أنزل من السماء ماء فسالت أوديةً بقَدَرِها } في سورة الرعد ( 17 ) . وتأكيد الفعل بالمفعول المطلق بقوله : تقديراً } للدلالة على أنه تقدير كامل في نوع التقادير .
وما جاء من أول السورة إلى هنا براعة استهلال بأغراضها وهو يتنزل منزلة خطبة الكتاب أو الرسالة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.