تبارك الذي نزل الفرقان على عبده . . ( الذي له ملك السماوات والأرض . ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا ) . .
ومرة أخرى لا يذكر لفظ الجلالة ولكن يذكر الاسم الموصول لإبراز صلته الدالة على صفات يراد توكيدها في هذا المقام :
( الذي له ملك السماوات والأرض ) . . فله السيطرة المطلقة على السماوات والأرض . سيطرة الملكية والاستعلاء ، وسيطرة التصريف والتدبير ، وسيطرة التبديل والتغيير .
( ولم يتخذ ولدا ) . . فالتناسل ناموس من النواميس التي خلقها الله لامتداد الحياة ؛ وهو سبحانه باق لا يفنى ، قادر لا يحتاج .
( ولم يكن له شريك في الملك ) . . وكل ما في السماوات والأرض شاهد على وحدة التصميم ، ووحدة الناموس ، ووحدة التصريف .
( وخلق كل شيء فقدره تقديرا ) . قدر حجمه وشكله . وقدر وظيفته وعمله . وقدر زمانه ومكانه . وقدر تناسقه مع غيره من أفراد هذا الوجود الكبير .
وإن تركيب هذا الكون وتركيب كل شيء فيه ، لمما يدعو إلى الدهشة حقا ، وينفي فكرة المصادفة نفيا باتا . ويظهر التقدير الدقيق الذي يعجز البشر عن تتبع مظاهره ، في جانب واحد من جوانب هذا الكون الكبير . وكلما تقدم العلم البشري فكشف عن بعض جوانب التناسق العجيب في قوانين الكون ونسبه ومفرداته اتسع تصور البشر لمعنى ذلك النص القرآني الهائل : ( وخلق كل شيء فقدره تقديرا ) . .
يقول [ أ . كريسي موريسون ] رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك في كتابه بعنوان : " الإنسان لا يقوم وحده " .
" ومما يدعو إلى الدهشة أن يكون تنظيم الطبيعة على هذا الشكل ، بالغا هذه الدقة الفائقة . لأنه لو كانت قشرة الأرض أسمك مما هي بمقدار بضعة أقدام ، لامتص ثاني أكسيد الكربون الأوكسجين ، ولما أمكن وجود حياة النبات .
" ولو كان الهواء أرفع كثيرا مما هو فإن بعض الشهب التي تحترق الآن بالملايين في الهواء الخارجي كانت تضرب جميع أجزاء الكرة الأرضية ، وهي تسير بسرعة تترواح بين ستة أميال وأربعين ميلا في الثانية . وكان في إمكانها أن تشعل كل شيء قابل للاحتراق . ولو كانت تسير ببطء رصاصة البندقية لارتطمت كلها بالأرض ، ولكانت العاقبة مروعة . أما الإنسان فإن اصطدامه بشهاب ضئيل يسير بسرعة تفوق سرعة الرصاصة تسعين مرة كان يمزقه إربا من مجرد حرارة مروره !
" إن الهواء سميك بالقدر اللازم بالضبط لمرور الأشعة ذات التأثير الكيميائي التي يحتاج إليها الزرع ، والتي تقتل الجراثيم وتنتج الفيتامينات ، دون أن تضر بالإنسان ، إلا إذا عرض نفسه لها مدة أطول من اللازم ، وعلى الرغم من الانبعاثات الغازية من الأرض طول الدهور - ومعظهما سام - فإن الهواء باق دون تلويث في الواقع ، ودون تغير في نسبته المتوازنة اللازمة لوجود الإنسان . وعجلة الموازنة العظيمة هي تلك الكتلة الفسيحة من الماء - أي المحيط - الذي استمدت منه الحياة والغذاء والمطر والمناخ المعتدل ، والنباتات . وأخيرا الإنسان نفسه . . . " .
" لو كان الأوكسجين بنسبة 50 في المائة مثلا أو أكثر في الهواء بدلا من 21 في المائة فإن جميع المواد القابلة للاحتراق في العالم تصبح عرضة للاشتعال ، لدرجة أن أول شرارة من البرق تصيب شجرة لا بد أن تلهب الغابة حتى لتكاد تنفجر . ولو أن نسبة الأوكسجين في الهواء قد هبطت إلى 10 في المائة أو أقل ، فإن الحياة ربما طابقت نفسها عليها في خلال الدهور . ولكن في هذه الحالة كان القليل من عناصر المدنية التي ألفها الإنسان - كالنار مثلا - تتوافر له " .
" ما أعجب نظام الضوابط والموازنات الذي منع أي حيوان - مهما يكن من وحشيته أو ضخامته أو مكره - من السيطرة على العالم ، منذ عصر الحيوانات القشرية المتجمدة ! غير أن الإنسان وحده قد قلب هذا التوازن الذي للطبيعة بنقله النباتات والحيوانات من مكان إلى آخر . وسرعان ما لقي جزاءه القاسي على ذلك ، ماثلا في تطور آفات الحيوان والحشرات والنبات .
" والواقعة الآتية فيها مثل بارز على أهمية تلك الضوابط فيما يتعلق بوجود الإنسان . فمنذ سنوات عديدة زرع نوع من الصبار في استراليا . كسياج وقائي . ولكن هذا الزرع مضى في سبيله حتى غطى مساحة تقرب من مساحة انجلترا ، وزاحم أهل المدن والقرى ، وأتلف مزارعهم ، وحال دون الزراعة . ولم يجد الأهالي وسيلة تصده عن الانتشار ؛ وصارت أستراليا في خطر من اكتساحها بجيش من الزرع صامت ، يتقدم في سبيله دون عائق !
" وطاف علماء الحشرات بنواحي العالم حتى وجدوا أخيرا حشرة لا تعيش إلا على ذلك الصبار ، ولا تتغذى بغيره ، وهي سريعة الانتشار ، وليس لها عدو يعوقها في استراليا . وما لبثت هذه الحشرة حتى تغلبت على الصبار . ثم تراجعت ، ولم يبق منها سوى بقية قليلة للوقاية ، تكفي لصد الصبار عن الانتشار إلى الأبد .
" وهكذا توافرت الضوابط والموازين ، وكانت دائما مجدية .
" ولماذا لم تسيطر بعوضة الملاريا على العالم إلى درجة كان أجدادنا يموتون معها ، أو يكسبون مناعة منها ? ومثل ذلك أيضا يمكن أن يقال عن بعوضة الحمى الصفراء التي تقدمت شمالا في أحد الفصول حتى وصلت إلى نيويورك . كذلك البعوض كثير في المنطقة المتجمدة . ولماذا لم تتطور ذبابة تسي تسي حتى تستطيع أن تعيش أيضا في غير مناطقها الحارة ، وتمحو الجنس البشري من الوجود ? يكفي أن يذكر الإنسان الطاعون والأوبئة والجراثيم الفاتكة التي لم يكن له وقاء منها حتى الأمس القريب ، وأن يذكر كذلك ما كان له من جهل تام بقواعد الوقاية الصحية ، ليعلم أن بقاء الجنس البشري رغم ذلك يدعو حقا إلى الدهشة ! . . .
" إن الحشرات ليست لها رئتان كما للإنسان ؛ ولكنها تتنفس عن طريق أنابيب . وحين تنمو الحشرات وتكبر ، لا تقدر تلك الأنابيب أن تجاريها في نسبة تزايد حجمها . ومن ثم لم توجد قط حشرة أطول من بضع بوصات ، ولم يطل جناح حشرة إلا قليلا . وبفضل جهاز تكوين الحشرات وطريقة تنفسها لم يكن في الإمكان وجود حشرة ضخمة . وهذا الحد من نمو الحشرات قد كبح جماحها كلها ، ومنعها من السيطرة على العالم . ولولا وجود هذا الضابط الطبيعي لما أمكن وجود الإنسان على ظهر الأرض . وتصور إنسانا فطريا يلاقي دبورا يضاهي الأسد في ضخامته ، أو عنكبوتا في مثل هذا الحجم !
" ولم يذكر إلا القليل عن التنظيمات الأخرى المدهشة في فيزيولوجيا الحيوانات ، والتي بدونها ما كان أي حيوان - بل كذلك أي نبات - يمكن أن يبقى في الوجود . . . الخ " .
وهكذا ينكشف للعلم البشري يوما بعد يوم ، شيء من تقدير الله العجيب في الخلق ، وتدبيره الدقيق في الكون ، ويدرك البشر شيئا من مدلولات قوله في الفرقان الذي نزله على عبده : ( وخلق كل شيء فقدره تقديرا ) . .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.