ثم إنه سبحانه وصف ذاته بأربع أنواع من صفات الكبرياء أولها : قوله : { الذي له ملك السماوات والأرض } وهذا كالتنبيه على الدلالة على وجوده سبحانه لأنه لا طريق إلى إثباته إلا بواسطة احتياج أفعاله إليه ، فكان تقديم هذه الصفة على سائر الصفات كالأمر الواجب وقوله : { له ما في السماوات والأرض } إشارة إلى احتياج هذه المخلوقات إليه سبحانه بزمان حدوثها وزمان بقائها في ماهيتها وفي وجودها ، وأنه سبحانه هو المتصرف فيها كيف يشاء . وثانيها : قوله : { ولم يتخذ ولدا } فبين سبحانه أنه هو المعبود أبدا ، ولا يصح أن يكون غيره معبودا ووارثا للملك عنه . فتكون هذه الصفة كالمؤكدة لقوله : { تبارك } ولقوله : { الذي له ملك السماوات والأرض } وهذا كالرد على النصارى . وثالثها : قوله : { ولم يكن له شريك في الملك } والمراد أنه هو المنفرد بالإلهية ، وإذا عرف العبد ذلك انقطع خوفه ورجاؤه عن الكل ، ولا يبقى مشغول القلب إلا برحمته وإحسانه . وفيه الرد على الثنوية والقائلين بعبادة النجوم ، والقائلين بعبادة الأوثان . ورابعها : قوله : { وخلق كل شيء فقدره تقديرا } وفيه سؤالات :
الأول : هل في قوله : { وخلق كل شيء } دلالة على أنه سبحانه خالق لأعمال العباد ؟ والجواب : نعم من وجهين : الأول : أن قوله : { وخلق كل شيء } يتناول جميع الأشياء فيتناول أفعال العباد ، والثاني : وهو أنه تعالى بعد أن نفى الشريك ذكر ذلك ، والتقدير أنه سبحانه لما نفى الشريك كأن قائلا قال : ههنا أقوام يعترفون بنفي الشركاء والأنداد ، ومع ذلك يقولون إنهم يخلقون أفعال أنفسهم . فذكر الله تعالى هذه الآية لتكون معينة في الرد عليهم ، قال القاضي الآية لا تدل عليه لوجوه . أحدها : أنه سبحانه صرح بكون العبد خالقا في قوله : { وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير } وقال : { فتبارك الله أحسن الخالقين } . وثانيها : أنه سبحانه تمدح بذلك فلا يجوز أن يريد به خلق الفساد . وثالثها : أنه سبحانه تمدح بأنه قدره تقديرا ولا يجوز أن يريد به إلا الحسن والحكمة دون غيره ، فثبت بهذه الوجوه أنه لابد من التأويل لو دلت الآية بظاهرها عليه ، فكيف ولا دلالة فيها البتة ، لأن الخلق عبارة عن التقدير فهو لا يتناول إلا ما يظهر فيه التقدير ، وذلك إنما يظهر في الأجسام لا في الأعراض والجواب :
أما قوله : { وإذ تخلق } وقوله : { أحسن الخالقين } فهما معارضان بقوله : { الله خالق كل شيء } وبقوله : { هل من خالق غير الله } وأما قوله لا يجوز التمدح بخلق الفساد ، قلنا لم لا يجوز أن يقع التمدح به نظرا إلى تقادير القدرة وإلى أن صفة الإيجاد من العدم والإعدام من الوجود ليست إلا له ؟ وأما قوله : الخلق لا يتناول إلا الأجسام ، فنقول لو كان كذلك لكان قوله { خلق كل شيء } خطأ لأنه يقتضي إضافة الخلق إلى جميع الأشياء مع أنه لا يصح في العقل إضافته إليها .
السؤال الثاني : في الخلق معنى التقدير فقوله : { وخلق كل شيء فقدره تقديرا } معناه وقدر كل شيء فقدره تقديرا والجواب : المعنى أحدث كل شيء إحداثا يراعي فيه التقدير والتسوية ، فقدره تقديرا وهيأه لما يصلح له ، مثاله أنه خلق الإنسان على هذا الشكل المقدر المستوي الذي تراه ، فقدره للتكاليف والمصالح المنوطة به في باب الدين والدنيا ، وكذلك كل حيوان وجماد جاء به على الجبلة المستوية المقدرة بأمثلة الحكمة والتدبير فقدره لأمر ما ومصلحة ما مطابقا لما قدر غير متخلف عنه .
السؤال الثالث : هل في قوله : { فقدره تقديرا } دلالة على مذهبكم ؟ الجواب : نعم وذلك من وجوه . أحدها : أن التقدير في حقنا يرجع إلى الظن والحسبان ، أما في حقه سبحانه فلا معنى له إلا العلم به والإخبار عنه ، وذلك متفق عليه بيننا وبين المعتزلة ، فلما علم في الشيء الفلاني أنه لا يقع . فلو وقع ذلك الشيء لزم انقلاب علمه جهلا وانقلاب خبره الصدق كذبا ، وذلك محال والمفضي إلى المحال محال فإذن وقوع ذلك الشيء محال والمحال غير مراد فذلك الشيء غير مراد وإنه مأمور به ، فثبت أن الأمر والإرادة لا يتلازمان ، وظهر أن السعيد من سعد في بطن أمه ، والشقي من شقي في بطن أمه . وثانيها : أنه عند حصول القدرة والداعية الخالصة إن وجب الفعل ، كان فعل العبد يوجب فعل الله تعالى ، وحينئذ يبطل قول المعتزلة ، وإن لم يجب فإن استغنى عن المرجح فقد وقع الممكن لا عن مرجح وتجويزه يسد باب إثبات الصانع وإن لم يستغن عن المرجح ، فالكلام يعود في ذلك المرجح ، ولا ينقطع إلا عند الانتهاء إلى واجب الوجود . وثالثها : أن فعل العبد لو وقع بقدرته لما وقع إلا الشيء الذي أراد تكوينه وإيجاده ، لكن الإنسان لا يريد إلا العلم والحق فلا يحصل له إلا الجهل والباطل ، فلو كان الأمر بقدرته لما كان كذلك ، فإن قيل إنما كان لأنه اعتقد شبهة أوجبت له ذلك الجهل ، قلنا إن اعتقد تلك الشبهة لشبهة أخرى لزم التسلسل وهو محال فلابد من الانتهاء إلى جهل أول ، ووقع في قلب الإنسان لا بسبب جهل سابق ، بل الإنسان أحدثه ابتداء من غير موجب ، وذلك محال لأن الإنسان قط لا يرضى لنفسه بالجهل ولا يحاول تحصيل الجهل لنفسه بل لا يحاول إلا العلم ، فوجب أن لا يحصل له إلا ما قصده وأراده ، وحيث لم يكن كذلك علمنا أن الكل بقضاء سار وقدر نافذ ، وهو المراد من قوله : { وخلق كل شيء فقدره تقديرا } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.