172- بيَّن اللَّه هنا هداية بني آدم بنصب الأدلة في الكائنات ، بعد أن بيَّنها عن طريق الرسل والكتب ، فقال : واذكر - أيها النبي - للناس حين أخرج ربك من أصلاب بني أدم ونسلهم وما يتوالدون قرنا بعد قرن ، ثم نصب لهم دلائل ربوبيته في الموجودات ، وركز فيهم عقولا وبصائر يتمكنون بها من معرفتنا ، والاستدلال بها على التوحيد والربوبية ، حتى صاروا بمنزلة من قيل لهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بل أنت ربنا شهدنا بذلك على أنفسنا ، لأن تمكينهم من العلم بالأدلة وتمكنهم منه في منزلة الإقرار والاعتراف . وإنما فعلنا هذا لئلا تقولوا يوم القيامة : إنا كنا عن هذا التوحيد غافلين لا نعرفه .
172 -174 وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ * وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ .
يقول تعالى : وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ أي : أخرج من أصلابهم ذريتهم ، وجعلهم يتناسلون ويتوالدون قرنا بعد قرن .
و حين أخرجهم من بطون أمهاتهم وأصلاب آبائهم أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ أي : قررهم بإثبات ربوبيته ، بما أودعه في فطرهم من الإقرار ، بأنه ربهم وخالقهم ومليكهم .
قالوا : بلى قد أقررنا بذلك ، فإن اللّه تعالى فطر عباده على الدين الحنيف القيم .
فكل أحد فهو مفطور على ذلك ، ولكن الفطرة قد تغير وتبدل بما يطرأ عليها من العقائد الفاسدة ، ولهذا قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أي : إنما امتحناكم حتى أقررتم بما تقرر عندكم ، من أن اللّه تعالى ربكم ، خشية أن تنكروا يوم القيامة ، فلا تقروا بشيء من ذلك ، وتزعمون أن حجة اللّه ما قامت عليكم ، ولا عندكم بها علم ، بل أنتم غافلون عنها لاهون .
ثم بدأت السورة بعد أن انتهت من حديثها عن بنى إسرائيل وحتى نهايتها تحدثنا عن قضية التوحيد من زاوية جديدة عميقة ، زاوية الفطرة التي فطر الله عليها البشر ، ولنتصاحب سويا - أيها القارىء الكريم - متأملين فيما ساقته لنا السورة الكريمة في الربعين الأخيرين منها من آيات تزخر بالأدلة العقلية والمنطقية التي تثبت وحدانية الله وتبطل الشرك والشركاء ، مستعيننة في ذلك بما تهدى إليه الفطرة البشرية والطبيعة الإنسانية .
تدبر معى قوله - تعالى - : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ . . . } .
قال صاحب المنار ، هذه الآيات بدء سياق جديد في شئون البشر العامة المتعلقة بهداية الله لهم بما أودع في فطرتهم وركب في عقولهم من الاستعداد للايمان به وتمجيده وشكره ، في إثر بيان هدايته لهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب في قصة بنى إسرائيل . فالمناسبة بين هذا وما قبله ظاهرة ، ولذلك عطف عليه عطف جملة على جملة أو سياق على سياق .
قوله { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } الظهور : جمع ظهر وهو العمود الفقرى لهيكل الإنسان الذي هو قوام بنيته .
والذرية : سلالة الإنسان من الذكور والإناث .
وقوله { مِن ظُهُورِهِمْ } بدل بعض من قوله { مِن بني ءَادَمَ } و { ذُرِّيَّتَهُمْ } مفعول أخذ .
والمعنى : واذكر أيها الرسول وذكر كل عاقل وقت أن استخرج الله - تعالى - من أصلاب بنى آدم ذريتهم ، وذلك الإخراج أنهم كانوا نطفة فاخرجها - سبحانه - في أرحام الأمهات ، وجعلها علقة ثم مضغة ، ثم جعلها بشراً سويا ، وخلقا كاملا مكلفاً .
قال الآلوسى : وإيثار الأخذ على الإخراج للإيذان بشأن المأخوذ إذ ذاك لما فيه من الإنباء عن الإجتباء والاصطفاء وهو السبب في إسناده إلى اسم الرب بطريق الالتفات مع ما فيه من التمهيد للاستفهام الآتى . وقيل إن إيثار الأخذ على الإخراج لمناسبة ما تضمنته الآية من الميثاق ، فإن الذي يناسبه هو الأخذ دون الإخراج .
والتعبير بالرب لما أن ذلك الأخذ باعتبار ما يتبعه من آثار الربوبية .
وقوله : { وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ } أى : أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل وحدانيته ، وعجائب خلقه ، وغرائب صنعته ، وبما أودع في قلوبهم من غريزة الإيمان ، وفى عقولهم من مدارك تهديهم إلى معرفة ربهم وخالقهم .
وقوله : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } مقول لقول محذوف : أى : قائلا لهم - بعد أن أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل الوحدانية - ألست بربكم ، ومالك أمركم ، ومربيكم على الإطلاق ، من غير أن يكون لأحد مدخل في شأن من شئونكم { قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ } أى : قالوا بلى شهدنا على أنفسنا عن عقيدة وإقناع بأنك أنت ربنا وخالقنا ولا رب لنا سواك ، فإن آثار رحمتك وعجائب خلقك ، ومظاهر قدرتك تجعلنا لا نتردد في هذه الشهادة .
و { بلى } حرف جواب ، وتختص بالنفى فلا تقع إلا جوابه فتفيد إبطاله سواء أكان مجردا أم مقرونا بالاستفهام ولذلك قال ابن عباس وغيره ، لو قالوا نعم لكفروا . لأن نعم حرف تصديق للمخبر بنفى أو إيجاب .
قال صاحب الكشاف : وقوله : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى } من باب التمثيل ومعنى ذلك أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته ، وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى ، فكأنه أشهدهم على أنفسهم وقررهم وقال لهم : ألست بربكم ؟ وكأنهم قالوا : بلى أنت ربنا شهدنا على أنفسنا وأقررنا بوحدانيتك ، وباب التمثيل واسع في كلام الله - تعالى - وفى كلام رسوله صلى الله عليه وسلم وفى كلام العرب .
ونظيره قوله تعالى - { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } وقوله { فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } ومعلوم أنه لا قول ثم وإنما تمثيل وتصوير للمعنى " .
والمقصود من الآية الكريمة الاحتجاج على المشركين بمعرفتهم ربوبيته - تعالى - معرفة فطرية لازمة لهم لزوم الاقرالر منهم والشهادة . قال - تعالى - : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله } والفطرة هى معرفة ربوبيته - سبحانه - :
وقد وردت أحاديث كثيرة تشهد بأن الناس قد فطرهم الله - تعالى - على معرفته ، ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من مولود إلا ويولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ، كما تنتج البهيمة جمعاء - أى سالمة الأذن - هل تحسون فيها من جدعاء - أى مقطوعة الأذن " .
وفى صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله - تعالى - إنى خلقت عبادى حنفاء ، فجاءتهم الشياطين فاجتالهم عن دينهم - أى صرفتهم عن دينهم - وحرمت عليهم ما أحللت لهم " .
وروى الطبرى عن الحسن الأسود بن سريع قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها فأبواها يهودانها أو ينصرانها " ولذلك يتبين لنا أن المعنى الإجمالى للآية الكريمة أن الله - تعالى - نصب للناس في كل شىء من مخلوقاته - ومنها أنفسهم - دلائل توحيده وربوبيته ، وركز فيهم عقولا وبصائر يتمكنون بها تمكنا تاما من معرفته والاستجلال بها على التوحيد والربوبية حتى صاروا بمنزلة من إذا دعى إلى الإيمان بها سارع إليه بدون شك أو تردد .
فالكلام على سبيل المجاز التمثيلى لكون الناس قد فطرهم الله - تعالى - على معرفته والإيمان به ، وجعلهم مستعدين جميعا للنظر المؤدى إلى الاعتراف بوحدانيته ، ولا إخراج للذرية ولا قول ولا إشهاد بالفعل .
وعلى هذا الرأى سار المحققون من مفسرى السلف والخلف .
ويرى بعض المفسرين أن معنى الآية الكريمة : أن الله - تعالى - مسح ظهر آدم فأخرج منه ذريته كالذر ، وأحيانهم وجعل لهم العقل والنطق ، وألهمهم ذلك الاقرار ، ثم أعادهم إلى ظهر ابيهم آدم ، واستشهدوا لذلك بأحاديث وآثار ليست صحيحة الاسناد ، وما حسن إسناده منها فقد أوله العلماء بما يتفق مع منطوق الآية الكريمة .
وقد رد أصحاب الرأى الأول على هذا البعض بردود منها : أ ، الله - تعالى - قال : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني ءَادَمَ } ولم يقل من آدم ، وقال { مِن ظُهُورِهِمْ } ولم يقل من ظهره ، وقال { ذُرِّيَّتَهُمْ } ولم ذريته . قال { أَوْ تقولوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا } ولم يكن لهم يومئذ أب مشرك ، لأن آدم حاشاه من الشرك بالله - تعالى :
قال الإمام ابن كثير بعد أن ساق عدداً كبيراً من الأحاديث في هذا المعنى : ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف : إن المراد بهذا الاشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد كما تقدم في حديث أبى هريرة وعياض والأسود بن سريع وقد فسر الحسن الاية بذلك " .
ثم بين - سبحانه - سبب الاشهاد وعلله فقال : { أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ } أى : فعلنا ما فعلنا كراهة أن تقولوا ، أو منعا من أن تقولوا يوم القيامة معتذرين عن شرككم : إنا عن هذا الأمر وهو إفراد الله - تعالى - بالربوبية غافلين لم ننبه إليه ، لأنهم ما داموا قد خلقوا على الفطرة ، ونصب الله لهم في كل شىء من مخلوقاته ما يدل على وحدانيته ، وجاءتهم الرسل فبشرتهم وأنذرتهم ، فقد بطل عذرهم ، وسقطت حجتهم .
{ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } أي أخرج من أصلابهم نسلهم على ما يتوالدون قرنا بعد قرن ، و{ من ظهورهم } بدل { من بني آدم } بدل البعض . وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب " ذرياتهم " . { وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا } أي ونصب لهم دلائل ربوبيته وركب في عقولهم ما يدعوهم إلى الإقرار بها حتى صاروا بمنزلة من قيل لهم : { قالوا بلى } فنزل تمكينهم من العلم بها وتمكنوا منه بمنزلة الاشهاد والاعتراف على طريقة التمثيل ويدل عليه قوله : { أن تقولوا يوم القيامة } أي كراهة أن تقولوا . { إنا كنا عن هذا غافلين } لم ننبه عليه بدليل .
وقوله تعالى : { وإذ أخذ ربك } الآية ، التقدير واذكر إذ أخذ وقوله : { من ظهورهم } قال النحاة : هو بدل اشتمال من قوله : { من بني آدم } ، وألفاظ هذه الآية تقتضي أن الأخذ إنما كان من بني آدم من ظهورهم وليس لآدم في الآية ذكر بحسب اللفظة وتواترت الأحاديث في تفسير هذه الآية عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبد الله بن عباس وغيرهما أن الله عز وجل لما خلق آدم وفي بعض الروايات لما أهبط آدم إلى الأرض في دهناء من أرض السند قاله ابن عباس ، وفي بعضها أن ذلك بنعمان وهي عرفة وما يليها ، قاله أيضاً ابن عباس وغيره ، مسح على ظهره ، وفي بعض الروايات بيمينه ، وفي بعض الروايات ضرب منكبه فاستخرج منها أي من المسحة أو الضربة نسم بنيه ، ففي بعض الروايات كالَّذر ، وفي بعضها كالخردل ، وقال محمد بن كعب : إنها الأرواح جعلت لها مثالات ، وروى عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «أخذوا من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس وجعل الله لهم عقولاً كنملة سليمان وأخذ عليهم العهد بأنه ربهم وأن لا إله غيره » فأقروا بذلك والتزموه وأعلمهم أنه سيبعث الرسل إليهم مذكرة وداعية ، فشهد بعضهم على بعض ، قال أبيّ بن كعب وأشهد عليهم السماوات السبع فليس من أحد يولد إلى يوم القيامة إلا وقد أخذ عيله العهد في ذلك اليوم والمقام ، وقال السدي : أعطى الكفار العهد يومئذ كارهين على وجه التقية .
قال القاضي أبو محمد : هذه نخيلة مجموع الروايات المطولة ، وكأن ألفاظ هذه الأحاديث لا تلتئم مع ألفاظ الآية ، وقد أكثر الناس في روم الجمع بينهما فقال قوم : إن الآية مشيرة إلى هذا التناسل الذي في الدنيا ، و { آخذ } بمعنى أوجد على المعهود وأن الإشهاد هو عند بلوغ المكلف وهو قد أعطي الفهم ونصبت له هذه الصنعة الدالة على الصانع ، ونحا إلى هذا المعنى الزجّاج ، وهو معنى تحتمله الألفاظ لكن يرد عليه تفسير عمر بن الخطاب وابن عباس رضي الله عنهما الآية بالحديث المذكور ، وروايتهما ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وطوّل الجرجاني في هذه المسألة ومدار كلامه على أن المسح وإخراج الذرية من أظهر آدم حسب الحديث ، وقيل في الآية أخذ من ظهورهم إذ الإخراج من ظهر آدم الذي هو الأصل إخراج من ظهور بنيه الذين هم الفرع إذ الفرع والأصل شيء واحد ، إلى كلام كثير لا يثبت للنقد ، وقال غيره : إن جميع ما في الحديث من مسح بيمينه وضرب منكبه ونحو هذا إنما هي عبارة عن إيجاد ذلك النسم منه ، و «اليمين » عبارة عن القدرة أو يكون الماسح ملكاً بأمر الله عز وجل فتضمن الحديث صدر القصة وإيجاد النسم من آدم ، وهذه زيادة على ما في الآية ، ثم تضمنت الآية ما جرى بعد هذا من أخذ العهد والنسم حضور موجودون . وهي تحتمل معنيين : أحدهما أن يكون [ أخذ ] عاملاً في عهد أو ميثاق تقدره بعد قوله : { ذرياتهم } ويكون قوله { من ظهورهم } لبيان جنس البنوة ، إذ المراد من الجميع التناسل ، ويشركه في لفظة بني آدم بنوه لصلبه وبنوه بالشفقة والحنان ، ويكون قوله : { من ذرياتهم } بدلاً من { بني آدم } ، والمعنى الآخر أنه لما كانت كل نسمة هنالك لها نسبة إلى التي هي من ظهرها كأن تعيين تلك النسبة أخذ من الظهر إذ ستخرج منه فهي المستأنف ، فالمعنى : وإذ عينوا بهذه النسبة وعرفوا بها فذلك أخذ ما و { أخذ } على هذا عامل في { ذرياتهم } وليس بمعنى مسح وأوجد بل قد تقدم إيجادهم كما تقدم الحديث المذكور ، فالحديث يزيد معنى على الآية وهو ذكر آدم وأول إيجاد النسم كيف كان .
وقال الطرطوشي : إن هذا العهد يلزم البشر وإن كانوا لا يذكرونه في هذه الحياة كما يلزم الطلاق من شهد عليه به وهو قد نسيه إلى غير هذا مما ليس بتفسير ولا من طريقه .
وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر : «ذرياتهم » جمع جمع وقرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي : «ذريتهم » والإفراد هنا جمع وقد تقدم القول على لفظ الذرية في سورة آل عمران .
وروي في قصص هذه الآية : أن الأنبياء عليهم السلام كانوا بين تلك النسم أمثال السرج ، وأن آدم عليه السلام رأى داود فأعجبه فقال : من هذا ؟ فقيل : نبي من ذريتك فقال : كم عمره ؟ فقيل ستون سنة ، فقال زيدوه من عمري أربعين سنة فزيدت قال : وكان عمر آدم ألفاً فلما أكمل تسعمائة وستين جاء ملك الموت فقال له آدم بقي لي أربعون سنة فرجع ملك الموت إلى ربه فأخبره فقال له قل له إنك أعطيتها لابنك داود فتوفي عليه السلام بعد أن خاصم في الأربعين ، قال الضحاك بن مزاحم : من مات صغيراً فهو على العهد الأول ومن بلغ فقد أخذه العهد الثاني يعني الذي في هذه الحياة المعقولة الآن ، وحكى الزجاج عن قوم أنهم قالوا إن هذه الآية عبارة عن أن كل نسمة إذا ولدت وبلغت فنظرها في الأدلة المنصوبة عهد عليها في أن تؤمن وتعرق وتعرف الله ، وقد تقدم ذكر هذا القول وهو قول ضعيف منكب عن الأحاديث المأثورة مطرح لها .
وقوله : { شهدنا } يحتمل أن يكون من قول بعض النسم لبعض أي شهدنا عليكم لئلا تقولوا يوم القيامة غفلنا عن معرفة الله والإيمان به فتكون مقالة من هؤلاء لهؤلاء ، ذكره الطبري ، وعلى هذا لا يحسن الوقف على قوله : { بلى } ويحتمل أن يكون قوله { شهدنا } من قول الملائكة فيحسن الوقف على قوله { بلى } ، قال السدي : المعنى قال الله وملائكته شهدنا ، ورواه عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقرأ السبعة غير أبي عمرو : «أن تقولوا » على مخاطبة حاضرين ، وقرأ أبو عمرو وحده ، «أن يقولوا » على الحكاية عن غائبين وهي قراءة ابن عباس وابن جبير وابن محيصن ، والقراءتان تتفسران بحسب المعنيين المذكورين ، و { أن } في موضع نصب على تقدير مخافة أن .
هذا كلام مصروف إلى غير بني إسرائيل ، فإنهم لم يكونوا مشركين والله يقول { أو تقولوا إنما أشرك آباءنا من قبل } فهذا انتقال بالكلام إلى محاجة المشركين من العرب ، وهو المقصود من السورة ابتداء ونهاية ، فكان هذا الانتقال بمنزلة رد العجز على الصدر . جاء هذا الانتقال بمناسبة ذكر العهد الذي أخذ الله على بني إسرائيل في وصية موسى ، وهو ميثاق الكتاب ، وفي يوم رفع الطور . وهو عهد حصل بالخطاب التكويني أي بجعل معناه في جبلة كل نسمة وفطرتها ، فالجملة معطوفة على الجمل السابقة عطف القصة على القصة . والمقصود به ابتداءهم المشركون .
وتَبَدُّل أسلوب القصة واضح إذ اشتملت هذه القصة على خطاب في قوله : { أن تقولوا يوم القيامة } إلى آخر الآية . وإذ صرح فيها بمعاد ضمير الغيبة وهو قوله { من بني آدم } فعموم الموعظة تابع لعموم العظة . فهذا ابتداء لتقريع المشركين على الإشراك ، وما ذكر بعده إلى آخر السورة مناسب لأحوال المشركين .
و { إذ } اسم للزمن الماضي ، وهو هنا مجردٌ عن الظرفية ، فهو مفعول به لفعل « اذكرْ » محذوف .
وفعل { أخذ } يتعلق به { من بني آدم } وهو معدَّى إلى ذرياتهم ، فتعين أن يكون المعنى : أخذ ربك كلَّ فرد من أفراد الذرية . من كل فرد من أفراد بني آدم ، فيحصل من ذلك أن كل فرد من أفراد بني آدم أقر على نفسه بالمربوبية لله تعالى .
و ( من ) في قوله : { من بني آدم } وقوله : { من ظهورهم } ابتدائية فيهما .
والذُرّيات جمع ذُرَيّةَ ، والذّريّة اسمُ جمع لما يتولد من الإنسان ، وجمعُه هنا للتنصيص على العموم .
وأخذُ العهد على الذرية المخرَجين من ظهور بني آدم يقتضي أخذَ العهد عى الذرية الذين في ظهر آدم بدلالة الفحوى ، وإلا لكان أبناء آدم الأدْنَون ليسوا مأخوذا عليهم العهد مع أنهم أولى بأخذ العهد عليهم في ظهر آدم .
ومما يثبت هذه الدلالة أخبار كثيرة رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن جمع من أصحابه ، متفاوتة في القوة غيرُ خالٍ واحدٌ منها عن مُتكلَّم ، غير أن كثرتها يؤيد بعضُها بعضاً ، وأوضحها ما روى مالك في « الموطأ » في ترجمة « النهيُ عن القول بالقدر » بسنده إلى عمر بن الخطاب قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل عن هذه الآية { وإذْ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم } فقال إن الله تعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه حتى استخرج منه ذرية فقال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ، ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون وساق الحديث بما لا حاجة إليه في غرضنا ، ومحمل هذا الحديث على أنه تصريح بمدلول الفحوى المذكور ، وليس تفسيراً لمنطوق الآية ، وبه صارت الآية دالة على أمرين ، أحدهما : صريح وهو ما أفاده لفظها ، وثانيهما : مفهوم وهو فحوى الخطاب .
وجاء في الآية أن الله أخذ على الذريات العهد بالإقرار بربوبية الله ، ولم يُتعرض لذلك في الحديث ، وذُكر فيه أنه ميز بين أهل الجنة وأهل النار منهم ، ولعل الحديث اقتصار على بيان ما سأل عنه السائِلُ فيكون تفسيراً للأية تفسيرَ تكميل لما لم يذكر فيها ، أو كان في الحديث اقتصار من أحد رواته على بعض ما سمعه .
والأخذ مجاز في الإخراج والانتزاع قال الله تعالى : { قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم } [ الأنعام : 46 ] الآية .
وقوله : { من ظهورهم } بدل { من بني آدم } أبدل بعض من كل ، وقد أعيد حرف الجر مع البدل للتأكيد كما تقدم في قوله تعالى : { ومن النخل من طلعها قنوانٌ دانيةٌ } في سورة الأنعام ( 99 ) .
والإشهاد على الأنفس يطلق على ما يساوي الإقرار أو الحمل عليه ، وهو هنا الحمل على الإقرار ، واستعير لحالة مغيبة تتضمن هذا الإقرار يعلمها الله لاستقرار معنى هذا الاعتراف في فطرتهم . والضمير في { أشهدهم } عائد على الذرية باعتبار معناه ، لأنه اسم يدل على جمعَ .
والقول في { قالوا بلى } مستعار أيضاً لدلالة حالهم على الاعتراف بالربوبية لله تعالى .
وجملة { ألستُ بربكم } مقولٌ لقول محذوف هو بيان لجملة { أشهدهم على أنفسهم } أي قررهم بهذا القول وهو من أمر التكوين . والمعنى واحد ، لأن الذرية لما أضيف إلى ضمير بني آدم كان على معنى التوزيع .
والاستفهام في { ألست بربكم } تقريري ، ومثله يقال في تقرير من يُظن به الإنكار أو يُنزل منزلة ذلك ، فلذلك يقرر على النفي استدراجاً له حتى إذا كان عاقداً قلبه على النفي ظن أن المقّرر يطلبه منه ، فأقدم على الجواب بالنفي ، فأما إذا لم يكن عاقداً قلبه عليه فإنه يجيب بإبطال النفي ، فيتحقق أنه بريء من نفي ذلك ، وعليه قوله تعالى : { ويوم يُعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق } [ الأحقاف : 34 ] تنزيلاً لهم منزلة من يظنه ليس بحق ، لأنهم كانوا ينكرونه في الدنيا ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسلٌ منكم } في سورة الأنعام ( 130 ) .
والكلام تمثيل حال من أحوال الغيب ، من تسلط أمر التكوين الإلهي على ذوات الكائنات وأعراضها عند إرادة تكوينها ، لا تبلغ النفوس إلى تصورها بالكُنْه ، لأنها وراء المعتاد المألوف ، فيراد تقريبها بهذا التمثيل ، وحاصل المعنى : أن الله خلق في الإنسان من وقت تكوينه إدراك أدلة الوحدانية ، وجعل في فطرة حركة تفكير الإنسان التطلع إلى إدراك ذلك ، وتحصيل إدراكه إذا جرد نفسه من العوارض التي تدخل على فطرته فتفسدها .
وجملة : { قالوا بلى } جواب عن الاستفهام التقريري ، وفصلت لأنها جاءت على طريقة المحاورة كما تقدم في قوله تعالى : { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } في سورة البقرة ( 30 ) .
وأطلق القول إما حقيقة فذلك قول خارق للعادة ، وإمّا مجازاً على دلالة حالهم على أنهم مربوبون لله تعالى ، كما أطلق القول على مثله في قوله تعالى : { فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين } [ فصلت : 11 ] أي ظهرت فيهما آثار أمر التكوين . وقال أبو النجم :
قالت له الطيرُ تقّدم راشداً *** إنك لا ترجع إلا حامداً
فهو من المجاز الذي كثر في كلام العرب .
و { بلى } حرف جواب لكلام فيه معنى النفي ، فيقتضي إبطال النفي وتقرير المنفي ، ولذلك كان الجواب بها بعد النفي أصرح من الجواب بحرف ( نَعم ) ، لأن نعم تحتمل تقرير النفي وتقرير المنفي ، وهذا معنى ما نقل عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال : « لو قالوا نعم لكفروا » أي لكان جوابهم محتملا للكفر ، ولما كان المقام مقام إقرار كان الاحتمال فيه تفصيا من الاعتراف .
وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو جعفر ، ويعقوب : { ذرياتهم } ، بالجمع ، وقرأ الباقون { ذُريتهم } ، بالإفراد .
وقولهم : { شهدنا } تأكيد لمضمون { بلى } والشهادة هنا أيضاً بمعنى الإقرار .
ووقع { أن تقولوا } في موقع التعليل لفعل الأخذ والإشهاد ، فهو على تقرير لام التعليل الجارة ، وحذفُها مع أنْ جار على المطرد الشائع . والمقصود التعليل بنفي أن يقولوا { إنا كنا عن هذا غافلين } لا بإيقاع القول ، فحذف حرف النفي جريا على شيوخ حذفه مع القول ، أو هو تعليل بأنهم يقولون ذلك ، إن لم يقع إشهادهم على أنفسهم كما تقدم عند قوله تعالى : { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب } في سورة الأنعام ( 156 ) .
وقرأ الجمهور : أن تقولوا بتاء الخطاب وقد حول الأسلوب من الغيبة إلى الخطاب ، ثم من خطاب الرسول إلى خطاب قومه ، تصريحاً بأن المقصود من قصة أخذ العهد تذكير المشركين بما أودع الله في الفطرة من التوحيد ، وهذا الأسلوب هو من تحويل الخطاب عن مخاطب إلى غيره ، وليس من الالتفاف لاختلاف المخاطبين . وقرأه أبو عمرو ، وحده : بياء الغيبة ، والضمير عائد إلى ذريات بني آدم .
والإشارة { بهذا } إلى مضمون الاستفهام وجوابه وهو الاعتراف بالربوبية لله تعالى على تقديره بالمذكور .
والمعنى : أن ذلك لمَّا جُعل في الفطرة عند التكوين كانت عقول البشر منساقة إليه ، فلا يغفل عنه أحد منهم فيعتذرَ يوم القيامة ، إذا سئل عن الإشراك ، بعذر الغفلة ، فهذا إبطال للاعتذار بالغفلة ، ولذلك وقع تقدير حرف نفي أي أنْ لا تقولوا إلخ .