وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ْ } فإن في قلوبهم من الحنق والغيظ عليهم ما يكون قتالهم وقتلهم شفاء لما في قلوب المؤمنين من الغم والهم ، إذ يرون هؤلاء الأعداء محاربين للّه ولرسوله ، ساعين في إطفاء نور اللّه ، وزوالا للغيظ الذي في قلوبهم ، وهذا يدل على محبة اللّه لعباده المؤمنين ، واعتنائه بأحوالهم ، حتى إنه جعل -من جملة المقاصد الشرعية- شفاء ما في صدورهم وذهاب غيظهم .
ثم قال : { وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ ْ } من هؤلاء المحاربين ، بأن يوفقهم للدخول في الإسلام ، ويزينه في قلوبهم ، ويُكَرِّهَ إليهم الكفر والفسوق والعصيان .
{ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ْ } يضع الأشياء مواضعها ، ويعلم من يصلح للإيمان فيهديه ، ومن لا يصلح ، فيبقيه في غيه وطغيانه .
أما الفائدة الخامسة فقد بينها - سبحانه - . في قوله { وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } : أى : ويذهب غيظ قلوب هؤلاء القوم المؤمنين ويزيل كربها وغمها ، لأن الشخص الذي طال أذى خصمه له . ثم مكنه منه على أحسنا لوجوه فإن هذا الشخص في هذه الحالة يعظم سروره ، ويفرح قلبه ، ويتحول غيظه السابق إلى غبطة وارتياح نفسى .
قال الآلوسى : " وظاهر العطف أن إذهاب الغيظ غير شفاء الصدور . ووجه بأن الشفاء يكون بقتل الأعداء وخزيهم ، وإذهاب الغيظ يكون بالنصر عليهم . . وقيل ؛ إذهاب الغيظ كالتأكيد لشفاء الصدر ، وفائدته المبالغة في جعلهم مسرورين بما يمن الله به عليهم من تعذيبه لأعدائهم ، ونصرته لهم عليهم ، ولعل إذهاب الغيظ من القلب أبلغ مما عطف عليه ، فيكون ذكره من باب الترقى . .
وقوله : - تعالى - { وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَآءُ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } كلام مستأنف لبيان شمول قدرة الله - تعالى - ، وواسع رحمته ، وبالغ حكمته .
أى : ويتوب الله على من يشاء أن يتوب عليه من عباده فيوفقه للايمان ، ويشرح صدره للاسلام ، والله - تعالى - عليم بسائر شئون خلقه ، حكيم في كل أقواله وأفعاله وسائر تصرفاته ، فامتثلوا أمره ، واجتنبوا نهيه ، لتنالوا السعادة في دنياكم وآخرتكم .
قال الإِمام الرازى ما ملخصه : وهذه الآية تدل على كون الصحابة مؤمنين في علم الله - تعالى - إيمانا حقيقيا ؛ لأنها تدل على أن قلوبهم كانت مملوءة بالغضب وبالحمية من أجل الدين ، ومن أجل الرغبة الشديدة في علو دين الإِسلام ، وهذه الأحوال لا تحصل إلا في قلوب المؤمنين الصادقين .
كما تدل على أنها من المعجزات ، لأنه - تعالى - أخبر عن حصول هذه الأحوال ، وقد وقعت كما أخبر فقد انتصر المؤمنون ، وأسلم من المشركين أناس كثيرون - فيكون ذلك إخبار عن الغيب ، والإِخبار عن الغيب معجزة .
{ ويُذهب غيظ قلوبهم } لما لقوا منهم وقد أوفى الله بما وعدهم والآية من المعجزات . { ويتوب الله على من يشاء } ابتداء إخبار بأن بعضهم يتوب عن كفره وقد كان ذلك أيضا ، وقرئ { ويتوب } بالنصب على إضمار أن على أنه من جملة ما أجيب به الأمر فإن القتال كما تسبب لتعذيب قوم تسبب لتوبة قوم آخرين . { والله عليم } بما كان وما سيكون . { حكيم } لا يفعل ولا يحكم إلا على وفق الحكمة .
وقرأ جمهور الناس «ويُذهب غيظ قلوبهم » على إسناد الفعل إلى الله عز وجل ، وقرأت فرقة «ويَذهب غيظ قلوبهم » على إسناد الفعل إلى الغيظ ، وقرأ جمهور الناس «يتوبُ » بالرفع على القطع مما قبله ، والمعنى أن الآية استأنفت الخبر بأنه قد يتوب على بعض هؤلاء الكفرة الذين أمر بقتالهم ، قال أبو الفتح : وهذا أمر موجود سواء قوتلوا أو لم يقاتلوا ، فلا وجه لإدخال التوبة في جواب الشرط الذي في { قاتلوهم } على قراءة النصب ، وإنما الوجه الرفع على الاستئناف والقطع ، وقرأ الأعرج وابن أبي إسحاق وعيسى الثقفي وعمرو بن عبيد وأبو عمرو فيما روي عنه «ويتوبَ » بالنصب على تقدير وأن يتوب ، ويتوجه ذلك عندي إذا ذهبت إلى أن التوبة إنما يراد بها هنا أن قتل الكافرين والجهاد في سبيل الله هو توبة لكم أيها المؤمنون وكمال لإيمانكم ، فتدخل التوبة على هذا في شرط القتال{[5551]} ، و { عليم حكيم } صفتان نسبتهما إلى الآية واضحة .
عَطْفُ فعل { ويذهب غيظ قلوبهم } على فعل { ويشف صدور قوم مؤمنين } ، يؤذن باختلاف المعطوف والمعطوف عليه ، ويكفي في الاختلاف بينهما اختلاف المفهومين والحالين ، فيكون ذهاب غيظ القلوب مساوياً لشفاء الصدور ، فيحصل تأكيد الجملة الأولى بالجملة الثانية ، مع بيان متعلّق الشفاء ويجوز أن يكون الاختلاف بِالمَاصْدق مع اختلاف المفهوم ، فيكون المراد بشفاء الصدور ما يحصل من المسرّة والانشراح بالنصر ، والمراد بذهاب الغيظ استراحتهم من تعب الغيظ ، وتحرّق الحقد . وضمير قلوبهم عائد إلى قوم مؤمنين فهم موعودون بالأمرين : شفاء صدورهم من عدوهم ، وذهاب غيظ قلوبهم على نكث الذين نكثوا عهدهم .
والغيظ : الغضب المشوب بإرادة الانتقام ، وتقدّم في قوله تعالى : { عضوا عليكم الأنامل من الغيظ } في سورة آل عمران ( 119 ) .
{ ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم }
جملة ابتدائية مستأنفة ، لأنّه ابتداء كلام ليس ممّا يترتب على الأمر بالقتال ، بل لذكر من لم يُقتَلوا ، ولذلك جاء الفعل فيها مرفوعاً ، فدلّ هذا النظم على أنّها راجعة إلى قوم آخرين ، وهم المشركون الذين خانوا وغدروا ، ولم يُقتلوا ، بل أسلموا من قبل هذا الأمر أو بعده . وتوبة الله عليهم : هي قبول إسلامهم أو دخولهم فيه ، وفي هذا إعذار وإمهال لمن تأخّر . وإنّما لم تفصل الجملة : للإشارة إلى أنّ مضمونها من بقية أحوال المشركين ، فناسب انتظامها مع ما قبلها . فقد تاب الله على أبي سفيان ، وعكرمة بن أبي جهل ، وسليم بن أبي عمرو ( ذكر هذا الثالث القرطبي ولم أقف على اسمه في الصحابة ) .
والتذييل بجُملة { والله عليم حكيم } لإفادة أنّ الله يعامل الناس بما يعلم من نياتهم ، وأنّه حكيم لا يأمر إلا بما فيه تحقيق الحكمة ، فوجب على الناس امتثال أوامره ، وأنّه يقبل توبة من تاب إليه تكثيراً للصلاح .