روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{وَيُذۡهِبۡ غَيۡظَ قُلُوبِهِمۡۗ وَيَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (15)

{ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } بما نالهم منهم من الأذى ولم يكونوا قادرين على دفعه ، وقيل : المراد يذهب غيظهم لانتهاك محارم الله تعالى والكفر به عز وجل وتكذيب رسوله عليه الصلاة والسلام .

ظاهر العطف أن اذهاب الغيظ غير شفاء الصدور . ووجه بأن الشفاء بقتل الاعداء وخزيهم واذهاب الغيظ بالنصرة عليهم أجمعين . ولكون النصرة مدار القصد كان أثرها اذهاب الغيظ من القلب الذي هو أخص من الصدر . وقيل : اذهاب الغيظ كالتأكيد لشفاء الصدر وفائدته المبالغة في جعلهم مسرورين بما يمن الله تعالى عليهم من تعذيبه أعداءهم واخزائهم ونصرته سبحانه لهم عليهم ، ولعل اذهاب الغيظ من القلب أبلغ مما عطف عليه فيكون ذكره من باب الترقي ولا يخلو عن حسن . وقيل : إن شفاء الصدور بمجرد الوعد بالفتح واذهاب الغيظ بوقوغ الفتح نفسه وليس بشيء ، وقد أنجز الله تعالى جميع ما وعدهم به على أجمل ما يكون فالآية من المعجزات لما فيها من الأخبار بالغيب ووقوع ما أخبر عنه . واستدل بها على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ، وقيل : إن أسناد التعذيب إليه سبحانه مجاز باعتبار أنه جل وعلا مكنهم منه وأقدرهم عليه .

وفي الحواشي الشهابية قيل : إن قوله سبحانه : { بِأَيْدِيكُمْ } [ التوبة : 14 ] كالصريح بأن مثل هذه الأفعال التي تصلح للباري فعل له تعالى وإنما للعبد الكسب بصرف القوى والآلات ، وليس الحمل على الإسناد المجازي بمرضى عند العارف بأساليب الكلام ، ولا الالزام بالاتفاق على امتناع كتب الله تعالى بأيديكم وامتناع كذب الله تعالى شأنه بألسنه الكفار بوارد لأن مجرد خلق الفعل لا يصحح إسناده إلى الخالق ما لم يصلح محلا له ، وإمتناع ما ذكر للاحتراز عن شناعة العبارة إذ لا يقال : يا خالق القادورات ولا المقدر للزنا والممكن منه ، ثم قال : ولا يخفى ما فيه فإنه تعالى لا يصلح محلا للقتل ولا للضرب ونجوه ما قصد بالاذلال وإنما هو خالق له ، والفعل لا يسند حقيقة إلى خالقه وإن كان هو الفاعل الحقيقي للفرق بينه وبين الفاعل اللغوي إذ ر يقال : كتب الله تعالى بيد زيد على أنه حقيقة بلا شبهة مع أنه لا شناعة فيه لقوله سبحانه : { كتاب الله } [ المجادلة : 21 ] فما ذكره غير مسلم ا ه . وأنا أقول : ءن مسألة خلق الأفعال قد قضى العلماء المحققون الوطر منها فلا حاجة إلى بسط الكلام فيها ، وقد تكلموا في الآية بما تكلموا لكن بقي فيها شيء وهو السر في نسبة التعذيت إليه تعالى وذكر الأيدي ولم يذكروه ، ولعل ذلك في النسبة ارادة المبالغة فانه تعذيب الله تعالى القوى العزيز وإن كان بأيدي العباد وفي ذكر الأيدي إما التنصيص على أن ذلك في الدنيا لا في الآخرة وإما لتكون البشارة بالتعذيب على الوجه الأتم الذي يترتب عليه شفاء الصدور ونحوه على الوجه الأكمل إذ فرق بين تعذيب العدو بيد عدوه وتعذيبه لا بيده ، ولعمري أن الأول أحلى وأوقع في النفس فافهم .

ولا يخفى ما في الآية من الانسجام حيث يخرج منها بيت كامل من الشعر { وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَاء } ابتداء إخبار بأن بعض هؤلاء الذين أمروا بمقاتلتهم يتوب من كفره فيتوب الله تعالى عليه وقد كان كذلك حيث أسلم منهم أناس وحسن أسلامهم . وقرأ الأعرج . وابن أبي إسحاق . وتعيسى الثقفي . وعمرو بن عبيد { وَيَتُوبَ } بالنصب ورويت عن أبي عمرو . ويعقوب أيضاً ، واستشكلها الزجاج بأت توبة الله تعالى على من يشاء واقعة قاتلوا أو لم يقاتلوا والمنصوب في جواب الأمر مسبب عنه فلا وجه لادخال التوبة في جوابه ، وقال ابن جنى : إن ذلك كقولك : إن تزرني أحسن إليك وأعطى زيداً كذا على أن المسبب عن الزيارة جميع الأمرين لا أن كل واحد مسبب بالاستقلال ، وقد قالوا بنظير ذلك في قوله تعالى : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تأخَّر } [ الفتح : 1 ، 2 ] الخ وفيه تعسف .

وقال بعضهم : إنه تعالى لما أمرهم بالمقاتلة شق ذلك على البعض فإذا قاتلوا جرى قتالهم جرى التوبة من تلك الكراهية فيصير المعنى إن تقاتلوهم يعذبهم الله ويتب عليكم من كراهة قتالهم ، ولا يخفى أن الظاهر أن التوبة للكفار ، وذكر بعض المدققين أن دخول التوبة في جملة ما أجيب به الأمر من طريق المعنى لأنه يكون منصوباً بالفاء فهو على عكس { فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن } [ المنافقون : 10 ] وهو المسمى بعطف التوهم ، ووجهه أن القتال سبب لغل شوكتهم وإزالة نخوتهم فيتسبب لذلك لتأملهم ورجوعهم عن الكفر كما كان من أبي سفيان . وعكرمة . وغيرهما ، والتقييد بالمشيئة للاسارة إلى أنها السبب الأصلي وأن الأول سبب عادي وللتنبيه إلى أن إفضاء القتال إلى التوبة ليس كافضائه إلى البواقي ؛ وزعم بعض الأجلة أن قراءة الرفع على مراعاة المعنى حيث ذكر مضارع مرفوع بعد مجزوم هو جواب الأمر ففهم منه أن المعنى ويتوب الله على من يشاء على تقدير المقابلة لما يرون من ثباتكم وضعف حالهم .

وأما على قراءة النصب فمراعاة اللفظ إذ عطف على المجزوم منصوب بتقدير نصبه وليس بشيء ، والحق أنه على الرفع مستأنف كما قدمنا { والله عَلِيم } لا تخفى عليه خافية { حَكِيمٌ } لا يفعل ولا يأمر إلا بما فيه حكمة ومصلحة فمتثلوا أمره عز وجل ، وأيثار إظهار الاسم الجليل على الاضمار لتربية المهابة وإدخاله الروعة .