التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَيُذۡهِبۡ غَيۡظَ قُلُوبِهِمۡۗ وَيَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (15)

{ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ ( 13 ) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ( 14 ) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 15 ) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ( 1 ) وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( 16 ) } ( 13 – 16 ) .

عبارات الآيات واضحة . وفيها :

( 1 ) تحريض وجه الخطاب فيه إلى المسلمين بصيغة السؤال عما إذا كان يصح لهم أن يترددوا ويحجموا عن قتال قوم نكثوا أيمانهم بعد العهد وكانوا من قبل يكيدون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم . وتآمروا على إخراجه . كما كانوا هم الذين بدأوهم بالبغي والعدوان . وعما إذا كان يصح أن يخشوهم في حين أن الله تعالى وحده هو الأحق بالخشية إن كانوا مؤمنين حقا .

( 2 ) وتوكيد للتحريض ينطوي على التطمين ، فعليهم أن يقاتلوهم . فإن الله معذبهم بأيديهم ومخزيهم وناصر المسلمين عليهم . وشاف بذلك صدور قوم منهم مغيظة محنقة مما بدا منهم نحوهم . وقد يكون هذا القتال وسيلة لهداية الله من شاء هدايته منهم وتوبته عليهم ، وهو العليم بما في صدور الناس وطواياهم . الحكيم الذي لا يكون في أوامره وتوجيهاته إلا الحكمة والصواب .

( 3 ) وتنبيه بصيغة السؤال موجه إلى المسلمين أيضا عما إذا كانوا يحسبون أنهم قد نالوا رضاء الله واستحقوا وعده لهم وانتهت متاعبهم بما جرى وما تم إلى الآن من أحداث في حين أن الله تعالى ما يزال يرى ضرورة لاختبارهم لتمييز المجاهدين المخلصين منهم الذين لم يتخذوا لهم وليا ولا معتمدا ولا بطانة غير الله ورسوله والمؤمنين ولم يجعلوا لغير هؤلاء شركة ودخلا في أنفسهم وقلوبهم .

تعليق على الآية :

{ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ . . . . . . . . }

والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من تلقين وما ورد في صدد تأويلها من أقوال .

ولم يرو المفسرون رواية خاصة في مناسبة نزول هذه الآيات . غير أن الأقوال التي رواها الطبري عن أهل التأويل من التابعين ، ومنهم السدي ومجاهد في المقصود فيها متعددة ؛ حيث روي عن بعضهم أنها في صدد قريش والحث على قتالهم بعد أن نكثوا عهدهم في صلح الحديبية . كما روي عن بعض آخر أنها في صدد قتال الذين أعلنت البراءة منهم بسبب نقضهم وغدرهم وأمهلوا أربعة أشهر .

وصلة الآيات بما قبلها وثيقة حتى كأنها جزء منها واستمرار لها . وهذا يجعل القول إنها في صدد مشركي قريش محل تساؤل وتوقف ؛ لأن الآيات نزلت بعد فتح مكة . وقد دخلت قريش في الإسلام وانتهوا من موقف الشرك والعداء . وقد يجعل القول الثاني هو الأوجه غير أن الوصف الذي انطوى في الآية الأولى يثير الحيرة . لأن وصف : { وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } ينطبق لأول وهلة على قريش . ولقد كان من الذين دخلوا في صلح الحديبية إلى جانب قريش بطون بني بكر ؛ لأنهم حلفاء لهم في حين أنه دخل في هذا الصلح إلى جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بنو خزاعة لما كان بينهم وبين بني بكر من عداء . ولقد بقي بعض بطون بني بكر أوفياء لعهدهم حينما نقضه فريق منهم بتشجيع بعض جماعة من قريش على ما ذكرناه آنفا . وكان نقض هذا الفريق سبب زحف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على مكة . فلعل من هذا البعض من بدا منهم نكث وغدر بعد الفتح المكي ، وكانوا من جملة من كان موضوع البراءة . ولقد كانوا في الأصل حلفاء قريش فيمكن أن يكونوا وصفوا بما جاء في الآية على هذا الاعتبار . ولقد روى البغوي عن مجاهد أن جملة : { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } قد قصد بها خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين أعانت قريش أعداءهم بني بكر عليهم . وهذه الرواية قد تؤيد ما خمناه من أن يكون الذين بدا منهم نكث وغدر بعد الفتح المكي هم بعض بني بكر ، في حين ظل بعض آخر أوفياء لعهدهم . وتفيد الرواية كذلك أن بني خزاعة قد اعتنقوا الإسلام فصار يصح عليهم جملة : { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } ويمكن أن يكون هذا نتيجة لما كان من تحالف النبي صلى الله عليه وآله وسلم معهم ثم انتصاره لهم وزحفه على مكة . والله أعلم .

وفي الآية الأولى بخاصة توكيد لصواب التوجيهات التي وجهناها في سياق الآيات السابقة إن شاء الله . وهي كون الأمر بالقتال والتحريض عليه إنما كان ضد الناكثين والذين بدأوا المسلمين بالعدوان والأذى والطاعنين في دينهم .

ولقد قال المفسرون : إن الفقرة الأخيرة من الآية الثالثة احتوت إشارة إلى ما علم الله تعالى من دخول أهل مكة في الإسلام . والقول يكون وجيها لو كان نزول الآيات قبل الفتح المكي . وعلى كل حال فإن في الفقرة بشرى للمسلمين وتشجيعا لهم على قتال الناكثين من جهة . وإبقاء لباب التوبة والإسلام مفتوحا أمام المشركين والناكثين من جهة أخرى . وهو ما جرى عليه القرآن في مواضع ومناسبات عديدة سابقة . وفيه ما فيه من روعة وجلال من حيث تركيز كون هداية الناس بهدى الإسلام والرسالة المحمدية التي هي الهدف الجوهري في كل المواقف والمناسبات .

ولقد روى الطبري عن حذيفة وزيد بن وهب في صدد وصف أئمة الكفر : أن أهل هذه الآية لم يقاتلوا بعد . بحيث تفيد الرواية أنهم غير أئمة الكفر في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنهم جماعة آخرون يظهرون بعد . وروى الطبرسي عن علي بن أبي طالب أنه قرأ هذه الآيات يوم البصرة الذي كانت المعركة فيه بينه مع أنصاره من جهة وبين عائشة وطلحة والزبير وأنصارهم من جهة ثم قال : أما والله لقد عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلي قال : يا علي لتقاتلن الفئة الناكثة والفئة الباغية والفئة المارقة .

والرواية الأولى غريبة . وغير متسقة مع فحوى الآيات وسياقها ؛ حيث إنها تتحدث عن أمور واقعة في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم . أما الرواية الثانية فالهوى الشيعي بارز عليها . وهي من نوع ما يرويه رواة الشيعة ومفسروهم على هامش الآيات القرآنية من روايات كثيرة بسبيل تأييد أهوائهم .