اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَيُذۡهِبۡ غَيۡظَ قُلُوبِهِمۡۗ وَيَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (15)

وخامسها : قوله : { وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } كرْبَهَا ووَجْدهَا بمعونة قريش بني بكر عليهم .

فإن قيل : قوله { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } معناه : أنه يشفي من ألم الغيظ ، وهذا هو عين إذهاب الغيظ ، فكان قوله : { ويذهب غيظ قلوبهم } تكرارا .

فالجواب : أنه تعالى وعدهم بحصول هذا الفتح ، فكانوا في زحمة الانتظار ، كما قيل : الانتظار الموت الأحمر ، فشفى صدورهم من زحمة الانتظار ، فظهر الفرق بين قوله : { ويشف صدور قوم مؤمنين } وبين قوله : { وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } فهذه المنافع الخمسة ترجع إلى تسكين الدَّواعي الناشئة من القوَّة الغضبيَّة ، وهي التَّشفي ، ودرك الثَّأر وإزالة الغيظ ، ولم يذكر فيها وجدان المال ، والفوز بالمطاعم والمشارب ؛ لأنَّ العرب جبلوا على الحميّة والأنفة ، فرغبهُم في هذه المعاني لكونها لائقة بطباعهم .

وقرأ الجمهور : " ويُذْهب " بضمِّ الياء وكسرِ الهاء مِنْ : " أذْهَبَ " ، و " غَيْظَ " مفعول به وقرئ{[17644]} " ويَذْهَب " بفتح الياء والهاء ، جعله مضارعاً ل " ذَهَبَ " ، و " غيظُ " فاعل به وقرأ زيد بن علي كذلك ، إلاَّ أنَّه رفع الفعل مستأنفاً ، ولم ينسقْه على المجزوم قبله ، كما قَرَءُوا " ويتوبُ " بالرفع عند الجمهور .

قوله : { وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَآءُ } قرأ الجمهور بالرَّفع ، وقرأ زيدُ{[17645]} بنُ علي ، والأعرج ، وابن أبي إسحاق ، وعمرو بن عبيد{[17646]} ، وعمرو بن فائد ، وعيسى الثقفي ، وأبو عمرو في رواية ويعقوب " ويتُوبَ " بالنَّصب ، فأمَّا قراءةُ الجمهور فإنَّهَا استئنافُ إخبارٍ ، وكذلك وقع ، فإنه قد أسلم ناسٌ كثيرون ، كأبي سفيان ، وعكرمة بن أبي جهل ، وسهيل بن عمرو وغيرهم .

قال الزجاج : وأبُو الفتح : وهذا أمرٌ موجودٌ ، سواءٌ قوتلوا ، أمْ لمْ يقاتلوا ، ولا وجه لإدخال التوبة في جواب الشرط الذي في : " قَاتِلُوهم " . يعنيان بالشَّرط : ما فُهِمَ من الجملة الأمرية . قالوا : ونظيره : { فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ } [ الشورى : 24 ] وتمَّ الكلامُ ههنا ، ثم استأنف فقال : { وَيَمْحُ الله الباطل } . [ الشورى : 24 ] . وأمَّا قراءةُ زيد ومنْ ذُكر معه فإنَّ التوبةَ تكونُ داخلة في جواب الأمر من طريقِ المعنى ، وفي توجيه ذلك غموضٌ ، فقال بعضهم : إنَّه لمَّا أمرهُمْ بالمقاتلة شقَّ ذلك على بعضهم ، فإذا أقدموا على المقاتلةِ صار ذلك العملُ جارياً مجرى التوبة من تلك الكراهة ، قاله الأصمُّ . فيصير المعنى : إن تقاتلوهم يُعذِّبهمُ الله ، ويتُب عليكم من تلك الكراهة لقتالهم ، وقال آخرون - في توجيه ذلك - : إنَّ حصول الظَّفَر وكثرة الأموال لذَّةٌ تطلبُ بطريقٍ حرام ، فلمَّا حصلتْ لهُم بطريقٍ حلالٍ ، كان ذلك داعياً لهم إلى التَّوبة ممَّا تقدم ، فصارت التوبةُ معلقةً على المقاتلة .

وقال ابنُ عطية{[17647]} - في توجيه ذلك - : " يتوجه عندي إذا ذهب إلى أنَّ التوبة يراد بها هنا قتل الكافرين والجاهد في سبيل الله ، هو توبةٌ لكم أيها المؤمنون ، وكمالٌ لإيمانكم ، فتدخلُ التسوية على هذا في شرطِ القتال " .

قال أبُو حيان{[17648]} " وهذا الذي قرروه من كون التَّوبة تدخلُ تحت جواب الأمر بالنسبة للمؤمنين الذين أمِرُوا بقتال الكُفَّارِ ، والذي يظهر أنَّ ذلك بالنسبة إلى الكُفَّار ، والمعنى : على من يشاء من الكفار ، لأنَّ قتال الكفارِ ، وغلبة المسلمين إياهم قد يكونُ سبباً لإسلام كثير ، ألا ترى إلى فتح مكَّة ، كيف أسلم لأجله ناسٌ كثيرون ، وحسنُ إسلامُ بعضهم جدّاً ، ك : ابن أبي سرح ، ومن تقدم ذكره ، وغيرهم " فيصير المعنى : إن تقاتلوهم يتب الله على من يشاء من الكُفَّار ، أي : يُسْلمُ من يشاء منهم ، والمرادُ بالتَّوبة هنا : الهداية إلى الإسلام كما ذكره جمهور المفسرين ، ثمَّ قال { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } عليم بكل ما يفعل في ملكه " حَكِيمٌ " مصيب في أحكامه وأفعاله .


[17644]:ينظر: المحرر الوجيز 3/14، البحر المحيط 5/19، الدر المصون 3/452.
[17645]:انظر السابق
[17646]:ينظر: الكشاف 2/252-253، المحرر الوجيز 3/14، البحر المحيط 5/19، الدر المصون 3/452
[17647]:ينظر: المحرر الوجيز 3/14.
[17648]:ينظر: البحر المحيط 5/19.