فقال أحدهما : { إِنَّ هَذَا أَخِي } نص على الأخوة في الدين أو النسب أو الصداقة ، لاقتضائها عدم البغي ، وأن بغيه الصادر منه أعظم من غيره . { لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً } أي : زوجة ، وذلك خير كثير ، يوجب عليه القناعة بما آتاه اللّه .
{ وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ } فطمع فيها { فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا } أي : دعها لي ، وخلها في كفالتي . { وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ } أي : غلبني في القول ، فلم يزل بي حتى أدركها أو كاد .
ثم أخذا فى شرح قضيتهما فقال أحدهما : " إن هذا أخى له تسع وتسعون نعجة ولى نعجة واحدة ، فقال أكفلنيها وعزنى فى الخطاب " .
والمراد بالأخوة هنا : الأخوة فى الدين أو فى النسب ، أوفيهما وفى غيرهما كالصحبة والشركة .
والنعجة : الأنثى من الضأن . وتطلق على أنثى البقر .
وقوله : { أَكْفِلْنِيهَا } أى : ملكنى إياها ، وتنازل لى عنها ، بحيث تكون تحت كفالتى وملكيتى كبقية النعاج التى عندى ، ليتم عددها مائة .
وقوله : { وَعَزَّنِي فِي الخطاب } أى : غلبنى فى المحاجة والمخاطبة لأنه أفصح وأقوى منى . . يقال : فلان عز فلانا فى الخطاب ، إذا غلبه . ومنه قولهم فى المثل : من عزَّ بزَّ . أى : من غلب غيره سلبه حقه . أى : قال أحدهما لداود - عليه السلام - : إن هذا الذى يجلس معى للتحاكم أمامك أخى . وهذا الأخ له تسع وتسعون نعجة ، أما أنا فليس لى سوى نعجة واحدة ، فطمع فى نعجتى وقال لى : { أَكْفِلْنِيهَا } أى : ملكنيها وتنازل عنها { وَعَزَّنِي فِي الخطاب } .
{ إن هذا أخي } بالدين أو بالصحبة . { له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة } هي الأنثى من الضأن وقد يكنى بها عن المرأة ، والكناية والتمثيل فيما يساق للتعريض أبلغ في المقصود ، وقرئ " تسع وتسعون " بفتح التاء ونعجة بكسر النون ، وقرأ حفص بفتح ياء " لي نعجة " . { فقال أكفلنيها } ملكنيها وحقيقته اجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي ، وقيل اجعلها كفلي أي نصيبي . { وعزني في الخطاب } وغلبني في مخاطبته إياي محاجة بأن جاء بحجاج لم أقدر على رده ، أو في مغالبته إياي في الخطبة يقال : خطبت المرأة وخطبها هو فخاطبني خطابا حيث زوجها دوني ، وقرئ " وعازني " أي غالبني " وعزني " على تخفيف غريب .
وقوله : { إن هذا أخي } إعراب أخي عطف بيان ، وذلك أن ما جرى من هذه الأشياء صفة كالخلق والخلق وسائر الأوصاف ، فإنه نعت محض ، والعامل فيه هو العامل في الموصوف ، وما كان منها مما ليس ليوصف به بتة فهو بدل ، والعامل فيه مكرر ، وتقول : جاءني أخوك زيد ، فالتقدير : جاءني أخوك جاءني زيد ، فاقتصر على حذف العامل في البدل والمبدل منه في قوله : { ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون } [ يس : 31 ] وما كان منها مما لا يوصف به واحتيج إلى أن يبين به ويجري مجرى الصفة فهو عطف بيان ، وهو بين في قول الشاعر : [ الرجز ]
يا نصر نصراً نصرا*** . . . . . . . . . . . .
فإن الرواية في الثاني بالتنوين ، فدل ذلك على أن النداء ليس بمكرر عليه ، فليس ببدل ، وصح فيه عطف البيان ، وهذه الأخوة مستعارة ، إذ هما ملكان ، لكن من حيث تصورا آدميين تكلما بالأخوة التي بينهما في الدين والإيمان ، والله أعلم . و «النعجة » في هذه الآية ، عبر بها عن المرأة . والنعجة في كلام العرب تقع على أنثى بقر الوحش ، وعلى أنثى الضأن ، وتعبر العرب بها عن المرأة ، وكذلك بالشاة ، قال الأعشى : [ الكامل ]
فرميت غفلة عينه عن شاته***فأصبت حبة قلبها وطحالها .
أراد عن امرأته ، وفي قراءة ابن مسعود : «وتسعون نعجة أنثى » . وقرأ حفص عن عاصم : «وليَ » بفتح الياء . وقرأ الباقون بسكونها ، وهما حسنان . وقرأ الحسن والأعرج : «نِعجة » بكسر النون ، والجمهور على فتحها . وقرأ الحسن : «تَسع وتَسعون » بفتح التاء فيهما وهي لغة .
وقوله : { أكفلنيها } أي ردها في كفالتي ، وقال ابن كيسان ، المعنى : اجعلها كفلي ، أي نصيبي . { وعزتي } : معناه غلبني ، ومنه قول العرب : من عز بز ، أي من غلب سلب وقرأ أبو حيوة : «وعزني » بتخفيف الزاي . قال أبو الفتح : أراد عززني ، فحذف الزاي الواحدة تخفيفاً كما قال أبو زيد : أحسن به فهن إليه شوس .
قال أبو حاتم : ورويت «عزني » بتخفيف الزاي عن عاصم . وقرأ ابن مسعود وأبو الضحى وعبيد بن عمير : «وعازني » ، أي غالبني .
ومعنى قوله : { في الخطاب } كان أوجه مني وأقوى ، فإذا خاطبته كان كلامه أقوى من كلامي ، وقوته أعظم من قوتي ، فيروى أن داود عليه السلام لما سمع هذه الحجة قال للآخر : ما تقول ؟ فأقر وألد ، فقال له داود : لئن لم ترجع إلى الحق لأكسرن الذي فيه عيناك . وقال للثاني : لقد ظلمك ، فتبسما عند ذلك ، وذهبا ولم يرهما لحينه ، فشعر حينئذ للأمر .
وروي أنهما ذهبا نحو السماء بمرأى منه . وقيل بل بينا فعله في تلك المرأة وزوجها ، وقالا له : إنما نحن مثال لك . وقال بعض الناس : إن داود قال : لقد ظلمك ، قبل أن يسمع حجة الآخر ، وهذه كانت خطيئة ولم تنزل به هذه النازلة المروية قط .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق ابن عطية رضي الله عنه : وهذا ضعيف من جهات ، لأنه خالف متظاهر الروايات ، وأيضاً فقوله : { لقد ظلمك } إنما معناه إن ظهر صدقك ببينة أو باعتراف ، وهذا من بلاغة الحاكم التي ترد المعوج إلى الحق ، وتفهمه ما عند القاضي من الفطنة . وقال الثعلبي : كان في النازلة اعتراف من المدعى عليه حذف اختصاراً ، ومن أجله قال داود : { لقد ظلمك } .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهذا مثل ضربه الخصم المتسوّرون على داود محرابه له...
"إنّ هَذَا أَخي": أي على ديني، "لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً ولي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ"...
وقوله: "فقالَ أكْفِلْنِيها "يقول: فقال لي: انزل عنها لي وضمها إليّ... وقوله: "وَعَزّنِي فِي الخِطابِ": يقول: وصار أعزّ مني في مخاطبته إياي، لأنه إن تكلم فهو أبين مني، وإن بطش كان أشدّ مني فقهرني... عن قتادة: "وَعَزّني فِي الخِطابِ": أي ظلمني وقهرني.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يشبه أن تكون خصومة هؤلاء الملائكة عند داوود عز وجل وما كان منهم من القول والخصومة، ليتقرر ما كان منه من الهفوة والزلة ليعرف ذلك ويرجع عنها.
فإن قيل: كيف عوتب كل هذا العتاب حتى بعث الله الملائكة إليه بالخصومة عنده والتمسك بما ذكر وتقرير ذلك عنده، ثم أخبر أنه غفر له بعد طول المدة أن كان معذورا في ذلك غير مؤاخذ به؟ قيل: إن الأنبياء، صلوات الله عليهم أجمعين، كانوا يؤاخذون بأدنى شيء كان منهم ما لا يؤاخذ غيرهم بذلك، بل يعد ذلك منهم من أرفع الخصال وأجلها، نحو ما عوتب يونس عليه السلام في خروجه من بين قومه ليسلم دينه أو نفسه، لكنه خرج بلا إذن كان له من الله، فعوتب لذلك. فعلى ذلك داوود عليه السلام وإنما فعل ذلك بلا إذن من الله عز وجل.
{أكفلنيها}... قال بعضهم: أكفلته أي أعطيته، وهو قول أبي عوسجة، وقال بعضهم: أي ضمها إلي، واجعلني كافلها، وهو قول القتبي.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَخِي} بدل من هذا أو خبر ل (إنّ) والمراد... أخوّة الصداقة والألفة، و أخوّة الشركة والخلطة؛ لقوله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ الخلطاء} [ص: 24] كل واحدة من هذه الأخوات تدلي بحق مانع من الاعتداء والظلم...
اعلم أنهم لما أخبروا عن وقوع الخصومة على سبيل الإجمال أردفوه ببيان سبب تلك الخصومة على سبيل التفصيل...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
القضية -كما عرضها أحد الخصمين- تحمل ظلماً صارخاً مثيراً لا يحتمل التأويل.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{إنَّ هذا أخِي} إلى آخرها بيان لجملة {خصمان بغى بعضنا على بعضٍ} وظاهر الأخ أنهما أرادا أخوّة النسب، وقد فرضا أنفسهما أخوين وفرضا الخصومة في معاملات القرابة وعلاقة النسب واستبقاء الصلات، ثم يجوز أن يكون {أخِي} بدلاً من اسم الإِشارة، ويجوز أن يكون خبر {إنَّ} وهو أولى؛ لأن فيه زيادة استفظاع اعتدائه عليه. {عَزّني}... أظهر في الكلام عزّة عليّ وتطاولاً، فجَعل الخطاب ظرفاً للعزّة مجازاً؛ لأن الخطاب دل على العزة والغلبة فوقع تنزيل المدلول منزلة المظروف وهو كثير في الاستعمال، والمعنى: أنه سأله أن يعطيه نعجته، ولمّا رأى منه تمنّعاً اشتدّ عليه بالكلام وهدّده، فأظهر الخصم المتشكي أنه يحافظ على أواصر القرابة فشكاه إلى الملك ليصدّه عن معاملة أخيه معاملة الجفاء والتطاول ليأخذ نعجته عن غير طيب نفس، وبهذا يتبين أن موضع هذا التحاكم طلب الإِنصاف في معاملة القرابة لئلا يفضي الخلافُ بينهم إلى التواثب فتنقطع أواصر المبرة والرحمة بينهم، وقد عَلم داود من تساوقهما للخصومة ومن سكوت أحد الخصمين أنهما متقاربان على ما وصفه الحاكي منهما، أو كان المدعَى عليه قد اعترف.