69- إن حالكم - أيها المنافقون - كحال أمثالكم ممن سبقوكم إلى النفاق والكفر ، فإنهم وقد كانوا أقوى منكم وأكثر أموالاً وأولاداً ، استمتعوا بما قُدِّر لهم من حظوظ الدنيا ، وأعرضوا عن ذكر الله وتقواه ، وقابلوا أنبياءهم بالاستخفاف ، وسخروا منهم فيما بينهم وبين أنفسهم ، وقد استمتعتم بما قُدِّر لكم من ملاذ الدنيا كما استمتعوا ، وخضتم فيما خاضوا فيه من المنكر والباطل ، إنهم قد بطلت أعمالهم ، فلم تَنْفعهُم في الدنيا ولا في الآخرة ، وكانوا هم الخاسرين ، وأنتم مثلهم في سوء الحال والمآل .
{ 69 - 70 } { كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }
ثم ساقت السورة الكريمة - لهؤلاء المنافقين - نماذج لمن حبطت أعمالهم بسبب غرورهم ، وضربت لهم الأمثال بمن هلك من الطغاة السابقين بسبب تكذيبهم لأنبيائهم ، فقال - تعالى - : { كالذين مِن قَبْلِكُمْ . . . . أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } .
قوله - تعالى - { كالذين مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً . . . } جاء على أسلوب الالفتات من الغيبة إلى الخطاب لزجر المنافقين ، وتحريك نفوسهم إلا الاعتبار والاتعاظ .
والكاف في قوله : { كالذين } للتشبيه ، وهى في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف .
والتقدير : أنتم - أيها المنافقون - حالكم كحال الذين خلوا من قبلكم من الطغاة في الانحراف عن الحق ، والاغترار بشهوات الدنيا وزينتها ، ولكن هؤلاء الطغاة المهلكين ، يمتازون عنكم بأنهم { كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً } في أبدانهم ، وكانوا " أكثر " منكم { أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً } .
وقوله : { فاستمتعوا بِخَلاقِهِمْ } بيان لموقف هؤلاء المهلكين من نعم الله - تعالى - والخلاق : مشق من الخلق بمعنى التقدير . وأطلق على الحظ والنصيب لأنه مقدر لصاحبه .
أى : كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالاً وأولاداً ، ولكنهم لم يشكروا الله على إحسانه ، بل فتنوا بما بين أيديهم من نعم ، واستمتعوا بنصيبهم المقدر لهم في هذه الحياة الدنيا ، استمتاع الجاحدين الفاسقين .
والتعبير بالفاء المفيدة للتعقيب في قوله : { فاستمتعوا } ؛ للإِشعار بأن هؤلاء المهلكين بمجرد أن امتلأت أيديهم بالنعم ، قد استعملوها في غير ما خلقت له ، وسخروها لإِرضاء شهواتهم الخسيسة ، وملذاتهم الدنيئة .
وقوله : { فاستمتعوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ } ذم للمخاطبين وللذين سبقوهم ؛ لانتهاجهم جميعاً طريق الشر والبطر .
أى : فأنتم - أيها المنافقون - قد استمعتم بنصيبكم المقدر لكم من ملاذ الدنيا ، وشهواتها الباطلة ، كما استمتع الذين من قبلكم بنصيبكم في ذلك .
وقوله : { وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا } معطوف على ما قبله .
أى : وخضتم - أيها المنافقون - في حمأة الباطل وفى طريق الغرور والهوى ، كالخوض الذي خاضه السابقون من الأمم المهلكة .
قال الآلوسى قوله : " وخضتم " أى : دخلتم في الباطل { كالذي خاضوا } .
أى : كالذين فحذفت نونه تخفيفاً ، كما في قول الشاعر :
إن الذي حانت بفلج دماؤهم . . . هم القو كل القوم يا أم خالد
ويجوز أن يكون " الذي " صفة لمفرد اللفظ ، مجموع المعنى ، كالفوج والفريق ، فلوحظ في الصفة اللفظ . وفى الضمير المعنى ، و هو صفة لمصدر محذوف ، أى : كالخوض الذي خاضوه ، ورجح بعدم التكلف فيه .
وقال صاحب الكشاف : فإن قلت : أى فائدة في قوله : { فاستمتعوا بِخَلاقِهِمْ } وقوله : { كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ } مغن عنه كما أغنى قوله : { كالذي خاضوا } عن أن يقال : وخاضوا فخضتم كالذى خاضوا ؟
قلت : فائدته أن يذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا ورضاهم بها ، والتهائم بشهواتهم الفانية عن النظر في العاقبة ، وطلب الفلاح في الآخرة ، وأن يخسس أمر الاستمتاع ، ويهجن أمر الرضا به ، ثم يشبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم ، كما تريد أن تنبيه بعض الظلمة على سماجة فعله فنقول : أنت مثل فرعون : كان يقتل بغير جرم ، ويعذب ويعسف وأنت تفعل مثل ما فعله .
وأما { وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا } فمعطوف على ما قبله مستند إليه ، مستغن باسناده إليه عن تلك التقدمة .
وقوله : { أولئك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة وَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون } بيان لسوء مصيرهم في الدارين .
واسما الإِشارة يودان على المتصفين بتلك الصفات القحبية من السابقين واللاحقين .
أى : أولئك المستمتعون بنصيبهم المقدر لهم في الشهوات الخسيسة ، والخائضون في الشرور والآثام " حبطت أعمالهم " أى : فسدت وبطلت أعمالهم التي كانوا يرجون منفعتها { فِي الدنيا والآخرة } لأن هذه الأعمال لم يكن معها إيمان أو إخلاص ، وإنما كان معها الرياء والنفاق ، والفسوق والعصيان ، والله - تعالى - لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم .
وقوله : { وَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون } أى : الكاملون في الخسران ، الجامعون لكل ما من شأنه أن يؤدى إلى البوار والهلاك .
يقول تعالى : أصاب هؤلاء من عذاب الله في الدنيا والآخرة كما أصاب من قبلهم ، وقد كانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا ، { فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ } قال الحسن البصري : بدينهم ، { كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا } أي : في الكذب والباطل ، { أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } أي : بطلت مساعيهم ، فلا ثواب لهم عليها لأنها فاسدة { فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } ؛ لأنهم لم يحصل لهم عليها ثواب .
قال ابن جُرَيْج عن عُمَر بن عَطَاء ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس في قوله : { كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } الآية ، قال ابن عباس : ما أشبه الليلة بالبارحة ، { كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } هؤلاء بنو إسرائيل ، شبهنا بهم ، لا أعلم إلا أنه قال : " والذي نفسي بيده ، لتتبعنهم حتى لو دخل الرجل منهم جُحر ضَبٍّ لدخلتموه " .
قال ابن جُرَيْج : وأخبرني زياد بن سعد ، عن محمد بن زيد{[13613]} بن مهاجر ، عن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده ، لتتبعن سَنَن الذين من قبلكم ، شبرا بشبر ، وذراعا بذراع ، وباعا بباع ، حتى لو دخلوا جُحْر ضَبٍّ لدخلتموه " . قالوا : ومن هم يا رسول الله ؟ أهل الكتاب ؟ قال : " فَمَه " {[13614]} وهكذا رواه أبو مَعْشَر ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره وزاد : قال أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم القرآن . { كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ } قال أبو هريرة : الخلاق : الدين . { وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا } قالوا : يا رسول الله ، كما صنعت فارس والروم ؟ قال : " فهل الناس إلا هم " {[13615]}
وهذا الحديث له شاهد في الصحيح{[13616]}
وقوله تعالى { كالذين من قبلكم } الآية ، أمر الله نبيه أن يخاطب بها المنافقين فيقول لهم { كالذين من قبلكم } ، والمعنى أنتم كالذين أو مثلكم مثل الذين من قبلكم ، وقال الزجّاج : المعنى وعداً كما وعد الذين من قبلكم فهو متعلق بوعد .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قلق ، ثم قال { كانوا أشد منكم } وأعظم فعصوا فأهلكوا فأنتم أحرى بالإهلاك لمعصيتكم وضعفكم ، والخلاق الحظ من القدر والدين وجميع حال المرء وخلاق المرء : الشيء الذي هو به خليق ، والمعنى : عجلوا حظهم في دنياهم وتركوا باب الآخرة فاتبعتموهم أنتم .
قال القاضي أبو محمد : وأورد الطبري في تفسير هذه الآية قوله صلى الله عليه وسلم «لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه »{[5774]} ، وما شاكل هذا الحديث مما يقتضي اتباع محمد صلى الله عليه وسلم لسائر الإمم ، وهو معنى لا يليق بالآية جداً إذ هي مخاطبة لمنافقين كفار أعمالهم حابطة والحديث مخاطبة لموحدين يتبعون سنن من مضى في أفعاله دنيوية لا تخرج عن الدين ، وقوله { خضتم كالذي خاضوا } أي خلطتم كالذي خلطوا ، وهو مستعار من الخوض في المائعات ، ولا يستعمل إلا في الباطل ، لأن التصرف في الحقائق إنما هو على ترتيب ونظام ، وأمور الباطل إنما هي خوض ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم
«رب متخوض في مال الله له النار يوم القيامة »{[5775]} ، ثم قال تعالى : { أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة } فيحتمل أن يراد ب { أولئك } القوم الذين وصفهم بالشدة وكثرة الأموال والاستمتاع بالخلاق ، والمعنى وأنتم أيضاً كذلك يعتريكم بإعراضكم عن الحق ، ويحتمل أن يريد ب { أولئك } المنافقين المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم ، ويكون الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم وفي ذلك خروج من خطاب إلى خطاب غير الأول ، و «حبط العمل » وما جرى مجراه يحبط حبطاً إذا بطل بعد التعب فيه ، وحبَط البطن حبَطاً بفتح الباء وهو داء في البطن ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم «إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم »{[5776]} ، وقوله { في الدنيا } معناه إذا كان في المنافقين ما يصيبهم في الدنيا من المقت من المؤمنين وفساد أعمالهم عليهم وفي الآخرة بأن لا تنفع ولا يقع عليها جزاء ، ويقوي أن الإشارة ب { أولئك } إلى المنافقين قوله في الآية المستقبلة { ألم يأتهم } فتأمله .
قيل هذا الخطاب التفات ، عن ضمائر الغيبة الراجعة إلى المنافقين ، إلى خطابهم لقصد التفريع والتهديد بالموعظة ، والتذكير عن الغرور بما هم فيه من نعمة الإمهال بأنّ آخر ذلك حبط الأعمال في الدنيا والآخرة ، وأن يحقّ عليهم الخسران .
فكاف التشبيه في موضع الخبر عن مبتدأ محذوف دلّ عليه ضمير الخطاب ، تقديره : أنتم كالذين من قبلكم ، أو الكاف في موضع نصب بفعل مقدّر ، أي : فعلتم كفعل الذين من قبلكم ، فهو في موضع المفعول المطلق الدالّ على فعله ، ومثله في حذف الفعل والإتيان بما هو مفعول الفعل المحذوف قول النمر بن تولب :
حتّى إذا الكلاَّب قال لها *** كاليومِ مطلوباً ولا طالِبا
أراد : لم أر كاليوم ، إلاّ أنّ عامل النصب مختلف بين الآية والبيت .
وقيل هذا من بقية المَقول المأمور بأن يبلغه النبي صلى الله عليه وسلم إيّاهم من قوله : { قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون } [ التوبة : 65 ] الآية . فيكون ما بينهما اعتراضاً بقوله : { المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض } [ التوبة : 67 ] إلخ فضمير الخطاب لهم جار على مقتضى الظاهر بدون التفات والكلام مسوق لتشبيه حالهم في مصيرهم إلى النار .
والإتيان بالموصول لأنّه أشمل وأجمع للأمم التي تقدّمت مثل عاد وثمود ممّن ضرب العرب بهم المثل في القوة .
و { أشَدّ } معناه أقوى ، والقوة هنا القدرة على الأعمال الصعبة كقوله : { أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة } [ فصلت : 15 ] أو يُراد بها العزّة وعُدّة الغلب باستكمال العَدد والعُدد ، وبهذا المعنى أوقعت القوة تمييز ال { أشد } كما أوقعت مضافاً إليه شديد في قوله تعالى : { علمه شديد القوى } [ النجم : 5 ] .
وكثرة الأموال لها أسباب كثيرة : منها طيب الأرض للزرع والغرس ورَعِي الأنعام والنحلِ ، ومنها وفرة التجارة بحسن موقع الموطن بين مواطن الأمم ، ومنها الاقتراب من البحار للسفر إلى الأقطار وصيد البحر ، ومنها اشتمال الأرض على المعادن من الذهب والفضّة والحديد والمواد الصناعية والغذائية من النبات ، كأشجار التوابل ولحاء الدبغ والصبغ والأدوية والزراريع والزيوت .
وكثرة الأولاد تأتي من الأمن بسبب بقاء الأنفس ، ومن الخصب المؤثر قوة الأبدان والسلامة من المجاعات المعقبة للموتان ، ومن حسن المُناخ بالسلامة من الأوبئة المهلكة ، ومن الثروة بكثرة الأزواج والسراري والمراضع .
والاستمتاع : التمتّع ، وهو نوال أحدٍ المتاعَ الذي به التذاذ الإنسان وملائمه وتقدّم عند قوله تعالى : { ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين } في سورة الأعراف ( 24 ) .
والسين والتاء فيه للمبالغة في قوة التمتّع .
والخلاق : الحَظ من الخير وقد تقدّم عند قوله تعالى : { فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق } في سورة البقرة ( 200 ) .
وتفرّع فاستمتعوا بخلاقهم } على { كانوا أشد } : لأنّ المقصود إدخاله في الحالة المشبه بها كما سيأتي .
وتفرَّع { فاستمتعتم بخلاقكم } على ما أفاده حرف الكاف بقوله : { كالذين من قبلكم } من معنى التشبيه ، ولذلك لم تعطف جملة { فاستمتعتم } بواو العطف ، فإنّ هذه الجملة هي المقصد من التشبيه وما تفرّع عليه ، وقد كان ذكر هذه الجملة يغني عن ذكر جملة : { فاستمتعوا بخلاقهم } لولا قصد الموعظة بالفريقين : المشبّهِ بهم ، والمشبّهين ، في إعراض كليهما عن أخذ العدّة للحياة الدائمة وفي انصبابهما على التمتّع العاجل فلم يكتف في الكلام بالاقتصار على حال أحد الفريقين ، قصداً للاعتناء بكليهما فذلك الذي اقتضى هذا الاطناب ولو اقتصر على قوله : { فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم } ولم يذكر قبله { فاستمتعوا بخلاقهم } لحصل أصل المعنى ولم يستفد قصد الاهتمام بكلا الفريقين .
ولذلك لمّا تقرّر هذا المقصد في أنفس السامعين لم يحتج إلى نسج مثل هذا النظم في قوله : { وخضتم كالذي خاضوا } .
وقوله : { كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم } تأكيد للتشبيه الواقع في قوله : { كالذين من قبلكم } إلى قوله فاستمتعتم بخلاقكم للتنبيه على أنّ ذلك الجزء بخصوصه ، من بين الحالة المشبهةِ والحالةِ المشبه بها ، هو محلّ الموعظة والتذكير ، فلا يغرّهم ما هم فيه من نعمة الإمهال والاستدراج ، فقدّم قوله : { فاستمتعوا بخلاقهم } وأتى بقوله : { كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم } مؤكِّداً له دون أن يقتصر على هذا التشبيه الأخير ، ليتأتى التأكيد ، ولأنّ تقديم ما يتمّم تصوير الحالة المشبّه بها المركّبة ، قبل إيقاع التشبيه ، أشدّ تمكيناً لمعنى المشابهة عند السامع .
وقوله : { كالذي خاضوا } تشبيه لخوض المنافقين بخوض أولئك وهو الخوض الذي حكي عنهم في قوله : { ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب } [ التوبة : 65 ] ولبساطة هذا التشبيه لم يؤت فيه بمثل الأسلوب الذي أتي به في التشبيه السابق له . أي : وخضتم في الكفر والاستهزاء بآيات الله ورسوله كالخوض الذي خاضوه في ذلك ، فأنتم وهم سواء ، فيوشك أن يَحيق بكم ما حاق بهم ، وكلامنا في هذين التشبيهين أدقّ ما كتب فيهما .
و { الذي } اسم موصول ، مفرد ، وإذ كان عائد الصلة هنا ضمير جمع تعيّن أن يكون المراد ب { الذي } : تأويله بالفريق أو الجَمْع ، ويجوز أن يكون { الذي } هنا أصله الذين فخُفّف بحذف النون على لغة هذيل وتميم كقول الأشهب بن زميلة النهشلي :
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم *** هُم القومُ كلُّ القومِ يا أمَّ خالد
ونحاة البصرة يرون هذا الاستعمال خاصّاً بحالة أن تطول الصلة كالبيت فلا ينطبق عندهم على الآية ، ونحاة الكوفة يجوزّونه ولو لم تطل الصلة ، كما في الآية ، وقد ادّعى الفرّاء : أنّ { الذي } يكون موصولاً حرفياً مؤوّلاً بالمصدر ، واستشهد له بهذه الآية ، وهو ضعيف .
ولمّا وصفت حالة المشبه بهم من الأمم البائدة أعقب ذلك بالإشارة إليهم للتنبيه على أنّهم بسبب ذلك كانوا جديرين بما سيخبر به عنهم ، فقال تعالى : { أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون } وفيه تعريض بأنّ الذين شابهوهم في أحوالهم أحرياء بأن يحلّ بهم ما حلّ بأولئك ، وفي هذا التعريض من التهديد والنذارة معنى عظيم .
والخوض : تقدّمت الحوالة على معرفته آنفاً .
والحبط : الزوال والبطلان ، وتقدّم في قوله تعالى : { فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة } في سورة البقرة ( 217 ) .
والمراد بأعمالهم : ما كانوا يعملونه ويكدحون فيه : من معالجة الأموال والعيال والانكباب عليهما ، ومعنى حبْطها في الدنيا استئصالها وإتلافها بحلول مختلف العذاب بأولئك الأمم ، وفي الآخرة بعدم تعويضها لهم ، كقوله تعالى : { ونرثه ما يقول } [ مريم : 80 ] أي في الدنيا { ويأتينا فرداً } [ مريم : 80 ] أي في الآخرة لا مال له ولا ولد ، كقوله : { ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه } [ الحاقة : 28 ، 29 ] .
وفي هذا كلّه تذكرة للنبيء صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأنْ لا يظنّوا أن الله لمّا أمهل المنافقين قد عفا عنهم .
ولمّا كانت خسارتهم جسيمة جعل غيرهم من الخاسرين كلاً خاسرين فحصرت الخسارة في هؤلاء بقوله : { وأولئك هم الخاسرون } قصراً مقصوداً به المبالغة .
وإعادة اسم الإشارة للاهتمام بتمييز المتحدّث عنهم لزيادة تقرير أحوالهم في ذهن السامع .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
هؤلاء المنافقون والكفار، {كالذين من قبلكم}، يعني من الأمم الخالية، {كانوا أشد منكم قوة}، يعني بطشا، {وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم} يعني بنصيبهم من الدنيا، {فاستمتعتم بخلاقكم}، يعني بنصيبكم من الدنيا، كقوله: {لا خلاق لهم} [آل عمران:77] يعنى لا نصيب لهم، ثم قال: {كما استمتع الذين من قبلكم} من الأمم الخالية، {بخلاقهم}، يعني بنصيبهم، {وخضتم} أنتم في الباطل والتكذيب، {كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم} يعني بطلت أعمالهم، فلا ثواب لهم {في الدنيا و} ولا في {والآخرة}؛ لأنها كانت في غير إيمان، {وأولئك هم الخاسرون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المنافقين الذين قالوا إنما كنا نخوض ونلعب: أبالله وآيات كتابه ورسوله كنتم تستهزءون، كالذين من قبلكم من الأمم الذين فعلوا فعلكم فأهلكهم الله، وعجّل لهم في الدنيا الخزي مع ما أعدّ لهم من العقوبة والنكال في الآخرة؟ يقول لهم جل ثناؤه: واحذروا أن يحلّ بكم من عقوبة الله مثل الذي حلّ بهم، فإنهم كانوا أشدّ منكم قوّة وبطشا، وأكثر منكم أموالاً وأولادا. "فاسْتَمْتَعُوا بخَلاقِهِمْ "يقول: فتمتعوا بنصيبهم وحظهم من دنياهم ودينهم، ورضوا بذلك من نصيبهم في الدنيا عوضا من نصيبهم في الآخرة. وقد سلكتم أيها المنافقون سبيلهم في الاستمتاع بخلاقكم، يقول: فعلتم بدينكم ودنياكم كما استمتع الأمم الذين كانوا من قبلكم الذين أهلكتهم بخلافهم أمري، "بخلاقهم"، يقول: كما فعل الذين من قبلكم بنصيبهم من دنياهم ودينهم، وخضتم في الكذب والباطل على الله كالذي خاضوا، يقول: وخضتم أنتم أيها المنافقون كخوض تلك الأمم قبلكم...
وأما قوله: "أُولَئِكَ حَبِطَتْ أعمالُهُمْ" فإن معناه: هؤلاء الذين قالوا إنما كنا نخوض ونلعب، وفعلوا في ذلك فعل الهالكين من الأمم قبلهم، حبطت أعمالهم يقول: ذهبت أعمالهم باطلاً، فلا ثواب لها إلا النار، لأنها كانت فيما يسخط الله ويكرهه. "وأُولَئكَ هُمُ الخاسِرُونَ" يقول: وأولئك هم المغبونون صفقتهم ببيعهم نعيم الاَخرة، بخلاقهم من الدنيا اليسير الزهيد.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً) أي هؤلاء المنافقون والكفرة (كالذين من قبلكم) ولم يبين كأولئك في ماذا؟ ولكن يحتمل قوله (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً) وبطشا (وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً). وفي الشاهد إنما يدفع العذاب والعقوبة بهذا، وبه يتناصر بعضهم من بعض، ثم لم يقدروا على دفع ذلك، هذا قد قيل. وقيل: (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي صرتم وما اخترتم من الأعمال كما صار أولئك في ما اختاروا من الأعمال وكل أنواع الخلاف لله وتكذيب الرسل وتعاطي ما لا يحل، فصرتم أنتم كما صاروا هم. وقوله تعالى: (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ...)...قيل انتفعوا بخلاقهم؛ أي أكلتم أنتم الدنيا بدينكم كما أكل أولئك الدنيا بدينهم. وقيل (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ) أي بنصيبهم من الدنيا، ولم يقدموا شيئا للآخرة، والخلاق: النصيب... قال أبو هريرة: الخلاق: الدين؛ وكذلك قال الحسن في قوله: (بخلاقهم) أي بدينهم. وقوله تعالى: (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا) أي خضتم أنتم في الباطل والتكذيب كالذي خاض أولئك من الأمم الخالية. قال أبو عبيدة: قوله (وخضتم) أي لعبتم (كالذي خاضوا) أي لعبوا بالتكذيب. وقوله تعالى: (أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) فلا ثواب لها في الدنيا والآخرة لأنها كانت في غير إيمان. فثواب الأعمال إنما يكون في الآخرة بالإيمان. (وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ) خسران بينا. وبطلان أعمالهم في الدنيا لما لا يقبل واحد من الفريقين من المؤمنين والكفار صنيعهم لأنهم يرون من أنفسهم الموافقة لكل واحد منهما وما كانوا مع واحد من الفريقين كقوله: (مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء) [النساء: 143]...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يقال: سلكتم طريقَ مَنْ قَبْلَكم من الكفار وأهل النفاق وقد كافأناهم. ويقال الذين تقدموكم زادوا عليكم فكافأناهم كما نكافئ أهل الشقاق والنفاق؛ في كثرة المدَّةِ وقوةِ العُدَّةِ، والاستمتاع في الدنيا، والاغترار بالانخراط في سِلْك الهوى.. ولكن لم تَدُمْ في الراحة مُدَّتُهم، ولم تُغْنِ عنهم يومَ الشِدَّةِ عُدَّتُهم، وعما قريبٍ يَلْحَقُ بِكُم ما لَحِقَ بالذين هم قبلكم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: أي فائدة في قوله: {فاستمتعوا بخلاقهم} وقوله: {كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بخلاقهم} مغن عنه كما أغنى قوله: {كالذي خَاضُواْ} عن أن يقال: وخاضوا فخضتم كالذي خاضوا؟ قلت: فائدته أن يذمّ الأوّلين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا ورضاهم بها، والتهائم بشهواتهم الفانية عن النظر في العاقبة وطلب الفلاح في الآخرة، وأن يخسس أمر الاستمتاع ويهجن أمر الرضى به، ثم يشبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم، كما تريد أن تنبه بعض الظلمة على سماجة فعله فتقول: أنت مثل فرعون، كان يقتل بغير جرم ويعذب ويعسف وأنت تفعل مثل فعله.
وأما {وَخُضْتُمْ كالذي خَاضُواْ} فمعطوف على ما قبله مستند إلى مستغن باستناده إليه عن تلك التقدمة.
{حَبِطَتْ أعمالهم فِي الدنيا والآخرة} نقيض قوله: {وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين} [العنكبوت: 27].
اعلم أن هذا رجوع من الغيبة إلى الخطاب، وهذا الكاف للتشبيه، وهو يحتمل وجوها:
الأول: قال الفراء: فعلتم كأفعال الذين من قبلكم، والمعنى: أنه تعالى شبه المنافقين بالكفار الذين كانوا قبلهم في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، وقبض الأيدي عن الخيرات، ثم إنه تعالى وصف أولئك الكفار بأنهم كانوا أشد قوة من هؤلاء المنافقين وأكثر أموالا وأولادا، ثم استمتعوا مدة بالدنيا ثم هلكوا وبادوا وانقلبوا إلى العقاب الدائم، فأنتم مع ضعفكم وقلة خيرات الدنيا عندكم أولى أن تكونوا كذلك.
والوجه الثاني: أنه تعالى شبه المنافقين في عدولهم عن طاعة الله تعالى، لأجل طلب لذات الدنيا بمن قبلهم من الكفار، ثم وصفهم تعالى بكثرة الأموال والأولاد وبأنهم استمتعوا بخلاقهم، والخلاق: النصيب، وهو ما خلق للإنسان، أي قدر له من خير، كما قيل له: قسم لأنها قسم ونصيب، لأنه نصب أي ثبت، فذكر تعالى أنهم استمتعوا بخلاقهم فأنتم أيها المنافقون استمتعتم بخلاقكم كما استمتع أولئك بخلاقهم.
فإن قيل: ما الفائدة في ذكر الاستمتاع بالخلاق في حق الأولين مرة ثم ذكره في حق المنافقين ثانيا ثم ذكره في حق الأولين ثالثا. قلنا: الفائدة فيه أنه تعالى ذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا وحرمانهم عن سعادة الآخرة بسبب استغراقهم في تلك الحظوظ العاجلة، فلما قرر تعالى هذا الذم عاد فشبه حال هؤلاء المنافقين بحالهم، فيكون ذلك نهاية في المبالغة...
وبالجملة فالتكرير ههنا للتأكيد، ولما بين تعالى مشابهة هؤلاء المنافقين لأولئك المتقدمين في طلب الدنيا، وفي الإعراض عن طلب الآخرة، بين حصول المشابهة بين الفريقين في تكذيب الأنبياء وفي المكر والخديعة والغدر بهم. فقال: {وخضتم كالذي خاضوا} قال الفراء: يريد كخوضهم الذي خاضوا...
ثم قال تعالى: {أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة} أي بطلت حسناتهم في الدنيا بسبب الموت والفقر والانتقال من العز إلى الذل ومن القوة إلى الضعف، وفي الآخرة بسبب أنهم لا يثابون بل يعاقبون أشد العقاب. {وأولئك هم الخاسرون} حيث أتعبوا أنفسهم في الرد على الأنبياء والرسل، فما وجدوا منه إلا فوات الخيرات في الدنيا والآخرة، وإلا حصول العقاب في الدنيا والآخرة، والمقصود أنه تعالى لما شبه حال هؤلاء المنافقين بأولئك الكفار بين أن أولئك الكفار لم يحصل لهم إلا حبوط الأعمال وإلا الخزي والخسار، مع أنهم كانوا أقوى من هؤلاء المنافقين وأكثر أموالا وأولادا منهم، فهؤلاء المنافقون المشاركون لهم في هذه الأعمال القبيحة أولى أن يكونوا واقعين في عذاب الدنيا والآخرة، محرومين من خيرات الدنيا والآخرة.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
قال ابن جُرَيْج: وأخبرني زياد بن سعد، عن محمد بن زيد بن مهاجر، عن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده، لتتبعن سَنَن الذين من قبلكم، شبرا بشبر، وذراعا بذراع، وباعا بباع، حتى لو دخلوا جُحْر ضَبٍّ لدخلتموه". قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ أهل الكتاب؟ قال: "فَمَه "وهكذا رواه أبو مَعْشَر، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره وزاد: قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم القرآن. {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ} قال أبو هريرة: الخلاق: الدين. {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} قالوا: يا رسول الله، كما صنعت فارس والروم؟ قال:"فهل الناس إلا هم "وهذا الحديث له شاهد في الصحيح
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان حالهم في الإقبال على العاجلة لكونها حاصلة والإعراض عن العاقبة لأنها غائبة متشابهاً لحال من كان قبلهم من الأمم الخالية والقرون الماضية، بين لهم ذلك وختم ببيان سوء أحوالهم وقبح مآلهم بتلاشي أعمالهم فقال ملتفتاً إلى أسلوب الخطاب لأنه أوقع في باب العتاب وأقعد في استجلاب المصالح للمتاب: {كالذين} أي حاصل ما مضى من أمركم أيها المنافقون أنكم مثل الذين؛ ولما كان فاعل ما يذكر إنما هو بعض من مضى أثبت الجارّ فقال: {من قبلكم} أي من الأمم الخالية، ثم شرع في شرح حالهم وذكر وجه الشبه فقال: {كانوا أشد منكم قوة} لأن الزمان كان إذ ذاك أقرب إلى سن الشباب {وأكثر أموالاً وأولاداً} وهذا ناظر إلى قوله: "فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم {فاستمتعوا} أي طلبوا المتاع والانتفاع في الدنيا بغاية الرغبة معرضين عن العقبى {بخلاقهم} أي نصيبهم الذي قدره الله وخلقه لهم، وكان الأليق بهم أن يتبلغوا به في السفر الذي لا بد منه إلى الآخرة {فاستمتعتم بخلاقكم} أي كالمقتفين لآثارهم والقاصدين لنارهم {كما استمتع} وفي الإتيان بقوله: {الذين} ولما كانوا لم يستغرقوا الزمن الماضي، أثبت الجارّ فقال: {من قبلكم بخلاقهم} ظاهراً غير مضمر تنبيه على ذمهم بقلة النظر لنفسهم المستلزم لقلة عقولهم حيث كانوا دونهم في القوة أبداناً وأموالاً وأولاداً لم يكفوا عن الاستمتاع والخوض خوفاً مما محق أولئك الأحزاب على قوتهم من العذاب من غير أن ينفعهم سبب من الأسباب {وخضتم} أي ذهبتم في أقوالكم وأفعالكم خبطاً على غير سنن قويم {كالذي} أي كخوضهم الذي {خاضوا} وهو ناظر إلى قولهم {إنما كنا نخوض ونلعب}
قال أبو حيان: وهو مستعار من الخوض في الماء ولا يستعمل إلا في الباطل لأن التصرف في الحق إنما هو على ترتيب ونظام، وأمور الباطل إنما هي خوض، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "رب متخوض في مال الله له النار يوم القيامة".
ولما آذن هذا النظم لهم بالخسارة، حصل التشوف إلى عاقبة أمرهم فأخبر عن ذلك بقوله: {أولئك} أي البعداء من الخير، والظاهر أنه إشارة إلى الذين وصفهم بالشدة وكثرة الأموال والأولاد {حبطت} أي فسدت فبطلت {أعمالهم في الدنيا} أي بزوالها عنهم ونسيان لذاتها {والآخرة} أي وفي الدار الباقية لأنهم لم يسعوا لها سعيها؛ وزاد في التنبيه على بعدهم مما قصدوا لأنفسهم من النفع فقال: {وأولئك هم} أي خاصة {الخاسرون} أي لا خاسر في الحقيقة غيرهم لأنهم خسروا خلاقهم في الدارين فخسروا أنفسهم فلا أخسر ممن تشبه بهم، ولعل في الالتفات إلى مقام الخطاب أيضاً إشارة إلى تحذير كل سامع من مثل هذه الحال لصحة أن يكون مراداً بهذا المقال، فإن من أسرار القرآن في إعجازه أن تكون عبارته متوجهة إلى شيء وإشارته شاملة لغيره من حيث اتصافه بعلة ذلك الحال أو غير ذلك من الخلال.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{كالذين من قبلكم} هذا عود إلى خطاب المنافقين الذين نزلت في شأنهم الآيات السابقة واللاحقة بعد ذكر حال جنس المنافقين وصفاتهم في كل زمان، يقول لهم: أنتم أيها المنافقون المؤذون لله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين كأولئك المنافقين الذين خلوا من قبلكم في أقوام الأنبياء، مفتونون بأموالكم وأولادكم، مغرورون بدنياكم، كما كانوا مفتونين ومغرورين بأموالهم وأولادهم، ولكنهم {كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم}، أي فكان مطلبهم من أعمالهم وسعيهم التمتع والتنعم بنصيبهم وحظهم الدنيوي من الأموال والأولاد، لم يكن لهم مطلب ولا غرض من الدنيا إلا التمتع بعظمتها تطغيهم بها القوة، وبلذاتها تغريهم بها الثروة، وبزينتها تفرحهم بها كثرة الذربة؛ لأنهم لم يكن لهم مقاصد شريفة عالية من الحياة سواها كالذي يقصده أهل الإيمان بالله ورسله والدار الآخرة من إعلاء كلمة الحق، وإقامة ميزان العدل في الخلق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل كان خلاقهم كخلاق السباع والأنعام من العدوان واللذات البدنية والنسل. {فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم} من القوة والأموال والأولاد سواء، لم يفضلوا عليهم بشيء من إرشاد كلام الله وهدي رسوله في الفضائل والأعمال الصالحة التي تتزكى بها الأنفس البشرية، وتكون بها أهلا للسعادة الدنيوية والأخروية، فكنتم أجدر باللائمة والعقاب منهم، لأنهم أوتوا من القوة المطغية، والأموال المبطرة، والأولاد الفاتنة، فوق ما أوتيتم، ولم يروا من آيات الله تعالى ما رأيتم، ولا سمعوا من حكم كلامه وشرائعه ما سمعتم، ولا نصب لهم من المثل الأعلى لهداية رسله ما نصب لكم بهدي محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله نزل عليه أحسن الحديث وأفضل الكتب وأكمل به الدين، وجعله خاتم النبيين، وأعاد ذكر استمتاع من قبلهم لما يقتضيه التبكيت والتأنيب من الإطناب لبيان اختلاف الحالين، فهو يقول لهم: إنكم فعلتم فعلتهم حذو القذة بالقذة مع توفر الدواعي على ضده. {وخضتم كالذي خاضوا} أي وخضتم في حمأة الباطل كالخوض الذي خاضوه من كل وجه، على ما بين حالكم وحالهم من الفرق، الذي كان يقتضي أن تكونوا أهدى منهم، وقال الفراء من علماء العربية: إن (الذي) تأتي مصدرية كما، فيكون التقدير: وخضتم كخوضهم، وقيل: إن (الذي) هنا للجنس كمن وما، وأنه بمعنى الذين، ولكن هذا ضعيف لفظاً ومعنى؛ إذ المراد أنكم تخوضون كخوض من قبلكم وهو الذي يقتضيه العطف لا كالذين خاضوا مطلقاً من أي فريق كانوا. {أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة} حبط العمل بكسر الباء حبطاً بسكونها وحبوطاً: فسد وذهبت فائدته، وحبط دم القتيل: هدر، وهو من حبط بطن البعير حبطاً [بفتحتين] انتفخ وفسد من كثرة أكل الحندقوق فلم يثلط، أي أولئك المستمتعون بخلاقهم وحظهم مما ذكر والخائضون في الباطل حبطت أعمالهم الدنيوية في الدنيا، فكان ضررها أكبر من نفعها لهم لإسرافهم فيها، وإفسادهم في الأرض، كما تحبط بطون الماشية تأكل الخضر فتستوبله فتنتفخ وتفسد ويكون سبب هلاكها، وحبطت أعمالهم الدينية في الآخرة من العبادات وصلة الرحم وصنع المعروف والصدقة وقرى الضيوف، فلم يكن لها أجر ينقذهم من عذاب النار ويدخلهم الجنة، لأنها كانت لأجل الرياء والسمعة وحب الظهور والثناء، ولأجل أن يعاملوا معاملة المسلمين وتجري عليهم أحكامهم، لم تكن لأجل تزكية النفس، ولا لمرضاة الله عز وجل، وفي التنزيل عدة آيات في حبوط الأعمال بالشرك والرياء، أي بطلان ثوابها، وهو مستعار من حبط بطون الماشية كما تقدم، ويا لها من استعارة، فإن الماشية عندما تأكل الخضر من النبات تلذذاً به فتكثر منه فتستوبله وتستوخمه يكون حظها منها فساد بطونها وهلاكها، بدلاً من التغذي والانتفاع الذي تطلبه بشهوتها. وقيل: إن المراد بحبوط أعمالهم في الدنيا فشلهم وخيبتهم فيما كانوا يكيدون للمؤمنين. وجملة القول: إن أعمالهم إما دينية وإما دنيوية: فالدينية تحبط كلها في الآخرة لأن شرط قبولها الإيمان والإخلاص، وتحبط في الدنيا إذا ظهر نفاقهم، وافتضح أمرهم، ولحبوطها معنى آخر وهو أنها لا تأثير لها في تهذيب أخلاقهم وتزكية أنفسهم من الفحشاء والمنكر ومساوئ الأخلاق، لأن هذا لا يحصل إلا بالإخلاص. وأما الدنيوية فهي قسمان: 1 تمتع بالأموال والأولاد والقوة. 2 – كيد ومكر ونفاق. وقد بينا معنى حبوطهما آنفا بما يطرد في أزمنة الأنبياء وما يشبهها كعهد الخلفاء الراشدين. وأما أعمال النفاق الدنيوية في أيام الملوك والأمراء الظالمين الفاسقين، فإنها تكون أكثر رواجاً ونتاجاً من أعمال الصادقين المخلصين، ولا دليل على فساد الملوك والأمراء والرؤساء أدل من تقريبهم للمنافقين المتملقين منهم، وإبعادهم للناصحين الصادقين عنهم، قال الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم: (الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف) متفق عليه. {وأولئك هم الخاسرون} التامو الخسران دون غيرهم ممن لم يكن كل حظهم من نعم الله الاستمتاع العاجل، والخوض في الباطل، إذ جاء خسارهم من مظنة الربح والمنفعة، كقوله تعالى فيهم: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً} [الكهف: 104]، وكلُّ خسار دون هذا هين كأنه ليس بخسار، وهذا معنى صيغة الحصر في الجملة، فهل يعتبر بهذا أهل هذا الزمان؟ أم هل يعتبر به التالون والمفسرون للقرآن، أم يقرؤونه ويفسرونه لكسب الحطام؟...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه الطبيعة الفاسقة المنحرفة الضالة، ليست جديدة، ففي تاريخ البشرية لها نظائر وأمثال. ولقد حوى تاريخ البشرية من قبل هؤلاء نماذج كثيرة من هذا الطراز. ولقد لاقى السابقون مصائر تليق بفسوقهم عن الفطرة المستقيمة والطريق القويمة، بعدما استمتعوا بنصيبهم المقدر لهم في هذه الأرض. وكانوا أشد قوة وأكثر أموالاً و أولادا فلم يغن عنهم من ذلك كله شيء. والقرآن يذكر القوم بما كان من أسلافهم، ويبصرهم بأنهم يسلكون طريقهم، ويحذرهم أن يلاقوا مصيرهم. لعلهم يهتدون: (كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالاً وأولاداً، فاستمتعوا بخلاقهم. فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم، وخضتم كالذي خاضوا. أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون). إنها الفتنة بالقوة، والفتنة بالأموال والأولاد. فأما الذين اتصلت قلوبهم بالقوة الكبرى فهم لا يفتنون بالقوة العارضة التي تخول لهم في الأرض، لأنهم يخشون من هو أقوى، فينفقون قوتهم في طاعته وإعلاء كلمته. وهم لا يفتنون بالأموال والأولاد، لأنهم يذكرون من أنعم عليهم بالأموال والأولاد، فيحرصون على شكر نعمته، وتوجيه أموالهم وأولادهم إلى طاعته.. وأما الذين انحرفت قلوبهم عن مصدر القوة والنعمة فهم يبطرون ويفجرون في الأرض، ويتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام: (أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة).. وبطلت بطلانا أساسياً، لأنها كالنبتة بلا جذور، لا تستقر ولا تنمو ولا تزدهر. (وأولئك هم الخاسرون).. الذين خسروا كل شيء على وجه الإجمال بلا تحديد ولا تفصيل...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
بين الله تعالى في الآية السابقة العقاب الشديد الذي يستقبل الكافرين، وخص المنافقين بالذكر؛ لأنهم كفار أخساء لؤماء، مفسدون، ثم بين سبحانه وتعالى أن ذلك العذاب قريب وليس بعيد، وأنه أصاب الذين من قبلكم، فقال مقربا لعذابهم ممثلا له بعذاب من سبقوهم، فقال: {كالذين من قبلكم} الذين سبقوكم بالكفر والطغيان، والخطاب للكفار والمنافقين، وإن ذكرهم وقد فنوا يومئ إلى أنهم سيكونون مثلهم في فناء، وأن الحياة الدنيا التي آثروا متعها فانية، وقوى ذلك المعنى المشار إليه بقوله تعالت كلماته: {كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا} كانوا في قوة غزت الأقاليم وفتحت البلاد ودانت لهم رقاب العباد، وسيطروا على الأرض، كان عدد الملأ من قوم فرعون كثيرا، والأموال من الزرع والثمار والسائمة، تجري في أيديهم، فأنى يكون عددهم بجوار عددهم، وأموالكم وأنتم بواد غير ذي زرع بجوار أموالهم، ومع ذلك حسبوا الحياة كل شيء ففنوا مع فناء حياتهم الدنيوية. قوله تعالى: {فاستمتعوا بخلاقهم} أي بنصيبهم الذي خلقه الله تعالى لهم، استمتعوا بهذا النصيب، وحسبوه الحياة ولا حياة بعدها، وتحكموا واستكبروا، وقال الطاغوت الأكبر لفرعون- ومن شابهه-: {أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي} (الزخرف 51) وسرتهم سيرهم، فحسبتم أن الدنيا هي الحياة، ولا حياة بعدها. ولذا قال تعالى: {فاستمتعوا بخلاقهم}. استمتع معناها طلب المتعة، ونالها، فالأقدمون استمتعوا بما أوتوا من حظوظ الدنيا، وجعلوها متعتهم، وقصروا متع حياتهم عليها لا يطلبون غيرها من متع الآخرة، ولا يريدونها، والفاء في قوله تعالى: {فاستمتعوا بخلاقهم)؛ تدل على ترتب ما بعدها على ما قبلها، ترتب محاكاة واتباع، فطلبتم ما طلبوا وحاكيتموها فيما فعلوا، ولذا قال: {كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم} ثم قال تعالى: {وخضتم كالذي خاضوا} قلنا: إن الخوض معناه دخول الماء، واختفاء الأرجل والسير فيه، وأطلق على الخوض في الباطل والإثم، وفيه مجاز، من حيث تشبيه الخوض في الباطل بالخوض في الماء من غير تعرف لما فيه، وقد يكون فيه صخور، أو أشياء تجرح وتضر. {وخضتم كالذي خاضوا} أي خضتم في الباطل كالذي خاضوا فيه. والمعنى تشابهت أحوالكم مع أحوال من سبقوكم فاستمتعتم بحياة لاهية رخيصة، من غير نظر إلى عاقبة أموركم وأمورهم وحسبتم أن خلاقكم في الدنيا هو الحظ الأوفر، فلم تفكروا في الآخرة، ولم تعملوا على صلاح أموركم فيها، بل إنكم وأنتم حسبتم أن حياتكم هي الدنيا، وظننتم أنكم خلقتم عبثا من غير غاية، وأنه ليس هناك يوم تجازون فيه، وإن الصيغة الكريمة تومئ إلى أن قصر الحياة على حظوظ الدنيا استهانة بأنفسهم، وقد قال الزمخشري في بيان السبب في تكرار التشبيه لحالهم بحال من سبقوهم من الفجرة الآثمين العاتين، وفائدته أن يذم الأولين بما أوتوا من حظوظ الدنيا ورضاهم بها، والتهائهم بشهواتها الفانية عن النظر في العاقبة، وطلب الصلاح في الآخرة، وأن يصغر أمر الاستمتاع بها، ويهين أمر الراضي بها، ثم يشبه حال المخاطبين بحالهم، كما تريد أن تنبه بعض الظلمة على سماجة فعله، فتقول: أنت مثل فرعون؛ كان يقتل بغير جرم ويعذب ويعسف، وأنت تفعل مثل فعله. فهو سبحانه وتعالى يشير إلى سوء حال من سبقوهم، ويبين أنهم مثلهم. ثم قال تعالى: {أولئك حبطت أعمالهم} الإشارة إلى أوصافهم من أنهم حسبوا الحياة لهوا ولعبا، فاستمتعوا بحظهم فيها، واستمتعتم أنتم مثلهم، هذا سبب أن حبطت أعمالكم، أي بطلت؛ لأنها تحمل في نفسها أسباب فسادها، وأولئك هم الخاسرون، وقد تأكد خسارتهم، وفي الكلام قصر، واختصاص أنهم مقصورون على الخسران، فلا فلاح لهم في الدنيا إذ تكون حياتهم يأكلون ويمرحون، ولا فلاح لهم في الآخرة إذ يستقبلهم العذاب المهين. وقد أشار سبحانه إلى الهلاك الذي نال من سبقوهم فقال تعالى:
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
... وتلك هي مسيرة النفاق في الحاضر التي ترتبط بمسيرته في التاريخ، في المقدّمات والنتائج، {كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَولادًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ} ونصيبهم من الدنيا وسارت بهم الحياة كما يشتهون، {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخلاقِكُمْ} ونصيبكم من الدنيا في ما تشتمل عليه من لذائذ وشهوات {كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ} من الكفر والنفاق والاستهزاء بالرسل والرسالات والإمعان في الباطل قولاً وعملاً، فماذا كانت نتائجهم في حساب الأرباح والخسائر؟ ليس هناك شيءٌ على مستوى الأرباح في الدنيا والآخرة، فلم يحصلوا على شيءٍ مقابل كل ما عانوه وما خاضوا فيه، {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنْيَا وَالآخرةِ} فلم يبق منها شيء، بطلت في كل نتائجها، لأن الكفر يهدم كل عمل من أعمال الخير السابقة لو كان لهم شيء من ذلك، فلا يستحقون عليه ثواباً في الآخرة، ولا يحصلون منها على نتيجةٍ مرضيةٍ في الدنيا، في ما يحصل منه الناس من نتائج معنويةٍ أو ماديّةٍ على ما يقدمونه من عمل أو يبذلونه من جهدٍ، {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} الذين خسروا أنفسهم وفقدوا مصيرهم، فإذا كان مصير أولئك هو ذلك، فهل يكون مصيركم أفضل من مصيرهم، وأنتم تسيرون على الخط نفسه الذي ساروا عليه، وتسعون إلى نفس الأهداف التي استهدفوها، وتخوضون في الباطل الذي خاضوه، وتتمردون على الله في كل شيء؟!...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
من أجل توعية هؤلاء المنافقين، وضعت الآية الآتية مرآة التاريخ أمامهم، ودعتهم إِلى ملاحظة حياتهم وسلوكهم ومقارنتها بالمنافقين والعتاة المردة الذين تمردوا على أوامر الله سبحانه وتعالى، وأعطتهم أوضح الدروس وأكثرها عبرة، فذكّرهم بأنّهم كالمنافقين الماضين ويتبعون نفس المسير وسيلقون نفس المصير: (كالذين من قبلكم) علماً أنّ هؤلاء (كانوا أشدّ منكم قوّة وأكثر أموالا وأولاداً).
وكما أنّ هؤلاء قد تمتعوا بنصيبهم في هذه الحياة الدنيا، وصرفوا أعمارهم في طريق قضاء الشهوات والمعصية والفساد والانحراف، فإنّكم قد تمتعتم بنصيبكم كهؤلاء: (فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم) والخلاق في اللغة بمعنى النصيب والحصة، يقول الراغب في مفرداته: أنّها مأخوذة من مادة (خلق)، ويحتمل على هذا أن الإِنسان قد يستفيد ويتمتع بنصيبه في هذه الحياة الدنيا بما يناسب خلقه وخصاله.
ثمّ تقول بعد ذلك: إنّكم كمن مضى من أمثالكم قد أوغلتم وسلكتم مسلك الاستهزاء والسخرية، تماماً كهؤلاء: (وخضتم كالذي خاضوا).
ثمّ تبيّن الآية عاقبة أعمال المنافقين الماضين لتحذر المنافقين المعاصرين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكل منافقي العالم في جملتين:
الأُولى: إن كل أعمال المنافقين قد ذهبت أدراج الرياح، في الدنيا والآخرة، ولم يحصلوا على أي نتيجة حسنة، فقالت: (حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة).
الثّانية: إِنّ هؤلاء هم الخاسرون الحقيقيون بما عملوه من الأعمال السيئة: (وأُولئك هم الخاسرون).
إن هؤلاء المنافقين يمكن أن يستفيدوا ويحققوا بعض المكاسب والامتيازات من أعمال النفاق، لكن ما يحصلون عليه مؤقت ومحدود، فإنّنا إذا أمعنا النظر فسنرى أن هؤلاء لم يجنوا من سلوك هذا الطريق شيئاً، لا في الدنيا ولا في الآخرة، كما يعكس التاريخ هذه الحقيقة، ويبيّن كيف أنّ المنافقين على مرّ الدهور والأيّام قد توالت عليهم النكبات وأزرت بهم وحكمت عليهم بالفناء والزوال، كما أن ممّا لا شك فيه أنّ هذه العاقبة الدنيوية تبيّن المصير الذي ينتظرهم في الآخرة.
إن الآية الكريمة تنبه المنافقين المعاصرين للنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فتقول لهم: إنّكم ترون أنّ هؤلاء السابقين رغم تلك الإمكانات والقدرات والأموال والأولاد لم يصلوا إِلى نتيجة، وأنّ أعمالهم قد أصبحت هباء منثوراً لأنّها لم تستند إِلى أساس محكم، بل كانت أعمال نفاق ومراوغة، فإنّكم ستواجهون ذلك المصير بطريق أولى، لأنّكم أقل من هؤلاء قدرة وقوة وإمكانات.