{ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ْ } حسَّنها في قلوبهم وخدعهم . { وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ ْ } فإنكم في عَدَدٍ وعُدَدٍ وهيئة لا يقاومكم فيها محمد ومن معه .
{ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ ْ } من أن يأتيكم أحد ممن تخشون غائلته ، لأن إبليس قد تبدَّى لقريش في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي ، وكانوا يخافون من بني مدلج لعداوة كانت بينهم .
فقال لهم الشيطان : أنا جار لكم ، فاطمأنت نفوسهم وأتوا على حرد قادرين .
{ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ ْ } المسلمون والكافرون ، فرأى الشيطان جبريل عليه السلام يزع الملائكة خاف خوفا شديدا و { نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ ْ } أي : ولى مدبرا . { وَقَالَ ْ } لمن خدعهم وغرهم : { إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ ْ } أي : أرى الملائكة الذين لا يدان لأحد بقتالهم .
{ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ ْ } أي : أخاف أن يعاجلني بالعقوبة في الدنيا { وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ْ }
ومن المحتمل أن يكون الشيطان ، قد سول لهم ، ووسوس في صدورهم أنه لا غالب لهم اليوم من الناس ، وأنه جار لهم ، فلما أوردهم مواردهم ، نكص عنهم ، وتبرأ منهم ، كما قال تعالى : { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ْ }
وقوله : { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ . . } تذكير للمؤمنين بما خدع به الشيطان الكافرين من وعود كاذبة ، وأمانى باطلة .
والمراد بهذا التذكير : حضهم على المداومة على طاعة الله وشكره ، حيث إنه - سبحانه - لم يجعلهم كأولئك الذين استحوذ عليهم الشيطان .
والمعنى : احذروا - أيها المؤمنون - أن تتشبهوا بأولئك الذين خرجوا من ديارهم بطرا ومفاخرة . . واذكروا وقت أن { زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ } في معاداتكم ، بأن وسوس لهم بأنهم على الحق وانتم على الباطل ، وحسن لهم ما جبلوا عليه من غررو ومراءاة ، وأوهمهم بأن النصر سيكون لهم عند لقائكم ، بأن قال لهم { لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ } أى : لن يغلبكم أحد من الناس ، لا محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، ولا غيرهم من قبائل العرب ، وأنى مجير ومعين وناصر لكم ، إذ المراد بالجار هنا : الذي يجير غيره . أى : يؤمنه مما يخاف ويخشى .
قال الآلوسى : أى : ألقى في روعهم وخيل لهم أنهم لا يغلبون لكثرة عددهم ، وعددهم ، وأوهمهم أن اتباعهم إياه فيما يظنون أنها قربات - تجعله مجيرا لهم ، وحافظا إياهم عن السوء حتى قالوا : اللهم انصر اهدى الفئتين ، وأفضل الدينين .
فالقول مجاز عن الوسوسة . والإِسناد في قوله { وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ } من قبيل الاسناد إلى السبب الداعى . و { لَّكُمْ } خبر { لاَ } أو صفة { غَالِبَ } والخبر محذوف . أى : لا غالب كائنا لكم موجود . و { اليوم } معمول الخبر . و { مِنَ الناس } حال من ضمير الخبر . .
وقوله : { فَلَمَّا تَرَآءَتِ الفئتان نَكَصَ على عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بريئ مِّنْكُمْ إني أرى مَا لاَ تَرَوْنَ إني أَخَافُ الله والله شَدِيدُ العقاب } بيان لما فعله الشيطان وقاله بعد أن رأى ما رأى من قوة لا طافة له بها . .
وقوله : { تَرَآءَتِ الفئتان } أى : تقاربتا بحيث صارت كل فئة ترى الأخرى رؤية واضحة .
ومنهم من جعل { تَرَآءَتِ } بمعنى التقت وقوله { نَكَصَ على عَقِبَيْهِ } أى : ولى هاربا ورجع القهقرى . وأبطل كيده وذهب ما مناهم به من النصرة والعون يقال : نكص عن الأمر نكوصا ونكصا أى : تراجع عنه وأحجم . والعقب : مؤخر القدم .
والمعنى : لقد حرض الشيطان جنوده من الكافرين على حربكم - أيها المؤمنون - ، ومناهم بالنصر عليكم . . . ولكنه حين تراءت الفئتان : فئتكم وفئته ، ورأى ما أمدكم الله به من الملائكة ، ولى مدبرا وقال للكافرين : { إِنِّي بريئ مِّنْكُمْ } أى : من عهدكم وجواركم ونصرتكم ، { إني أرى } من الملائكة النازلة لتأييد المؤمنين مالا ترونه أنتم { إني أَخَافُ الله } أن يعذبنى قبل يوم القيامة ، أو إنى أخاف الله أن يصيبنى بمكروه من قبل ملائكته .
وقوله : { والله شَدِيدُ العقاب } يحتمل أنه من كلام إبليس الذي حكاه الله - تعالى عنه ، ويحتمل أنه جملة مستأنفة من كلامه عز وجل .
أى : والله شديد العقاب لمن عصاه وخالف أمره .
هذا ، وهناك قولان في كيفية تزيين الشيطان للمشركين :
أحدهما : أن هذا التزيين لم يكن حسيا ، وإنما كان معنويا عن طريق الوسوسة دون أن يتحول الشيطان إلى صورة إنسان .
وعليه يكون قوله { لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم . . . } مجازا عن الوسوسة . وقوله { نَكَصَ على عَقِبَيْهِ } استعارة لبطلان كيده ، شبه بطلان كيده بعد وسوسته بمن رجع القهقرى عما يخافه .
وثانيهما : أن هذا كان حسيا بمعنى أن الشيطان تمثل لهم في صورة إنسان ، وقال لهم ما قال مما حكاه الله - تعالى - عنه .
وقد ذكر صاحب الكشاف هذين الوجهين في تفسير الآية فقال : واذكر { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ } التي عملوها في معاداة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ووسوس إليهم أنهم لا يغلبون ولا يطاقون ، وأوهمهم أن اتباع خطوات الشيطان وطاعته مما يجيرهم ، فلما تلاقى الفريقان نكص الشيطان وتبرأ منهم ، أى : بطل كيده حين نزلت جنود الله .
وكذا عن الحسن - رحمه الله - قال : كان ذلك على سبيل الوسوسة ولم يتمثل لهم .
وقيل : لما اجتمعت قريش على السير - لحرب المسلمين في بدر - ذكرت الذي بينها وبين كنانة من الحرب ، فكاد ذلك يثنيهم عن حرب المسلمين ، فتمثل لهم إبليس في صورة سراقة ابن مالك بن جعشم الشاعر الكنانى - وكان من أشرفهم - في جند من الشياطين معه راية وقال : لا غالب لكم اليوم وإنى مجيركم من بنى كنانة . فلما رأى الملائكة تنزل ، نكص .
وقيل : كانت يده في يد الحارث بن هشام ، فلما نكص قال له الحارث : إلى أين ؟ أتخذلنا في هذه الحالة ؟ فقال : إنى أرى ما لا ترون ، ودفع صدر الحارث وانطلق وانهزموا .
فلما بلغوا مكة قالوا : هزم الناس سراقة ، فبلغ ذلك سراقة فقال : والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتنى هزيمتكم . فلما أسلموا علموا أنه الشيطان .
وفى الحديث - الذي أخرجه مالك في الموطأ - " وما رئى إبليس يوما أصغر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة لما يرى من نزول الرحمة . إلا مارئى يوم بدر " .
وقد ذكر ابن جرير وابن كثير روايات أخرى تتفق في جملتها مع ما ذكره صاحب الكشاف ، وإن كانت تختلف عنها في التفصيل ، ومن ذلك قول ابن جرير :
" وكان تزيينه ذلك لهم كما حدثنى المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنى معاوية عن على بن أبى طلحة عن ابن عباس قال : جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه رايته في صورة رجل من بنى مدلج ، في صورة سارقة بن مالك بن جعشم ، فقال الشيطان للمشركين : لا غالب لكم اليوم من الناس وإنى جار لكم فلما اصطف الناس ، أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبضة من التراب ، فرمى بها في وجوه المشركين ، فولوا الأدبار .
وأقبل جبريل إلى إبليس ، فلما رآه - وكانت يده في رجل من المشركين - انتزع إبليس يده فولى مدبرا هو وشيعته .
فقال الرجل : يا سراقة تزعم أنك لنا جار ؟ قال : { إني أرى مَا لاَ تَرَوْنَ إني أَخَافُ الله والله شَدِيدُ العقاب } وذلك حين رأى الملائكة .
ثم قال : وحدثنا أحمد بن الفرج ، قال : حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز الماجشون ، قال : حدثنا مالك ، عن ابراهيم بن أبى عبلة ، عن طلحة بن عبد ابن عبيد الله بن كريز : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " " مارئى إبليس يوما هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أغيظ ولا أدحر من يوم عرفة وذلك مما يرى من تنزيل الرحمة والعفو عن الذنوب ، إلا ما رأى يوم بدر " قالوا : يا رسول الله ، وما رأى يوم بدر ؟ قال : أما إنه رأى جبريل يزع الملائكة أى : يرتبهم ويسويهم ويصفهم للحرب " .
وقد سار - ابن جرير وابن كثير - في تفسيرهما للآية على أن التزيين من الشيطان كان حسيا .
فابن جرير يقول . بعد أن ذكر بضع روايات في تفسير الآية : فتأويل : وإن الله لسميع عليم في هذه الأحوال ، وحين زين لهم الشيطان خروجهم إليكم . ايها لامؤمنون لحربكم وقتالاكم ، وحسن ذلك لهم ، وحثهم عليكم وقال لا غالب لكم اليوم ، من بنى آدم ، فاطمئنوا وابشروا وإنى جار لكم من كنانة أن تأتيكم من روائكم . . واجعلوا جدكم وبأسكم على محمد وأصحابه { فَلَمَّا تَرَآءَتِ الفئتان } يقول : فلما تزاحفت جنود الله من المؤمنين ، وجنود الشيطان من الكافرين ، ونظر بعضهم إلى بعض { نَكَصَ على عَقِبَيْهِ } أى : رجع القهقرى على قفاه هاربا . . وقال للمشركين { إني أرى مَا لاَ تَرَوْنَ } يعنى أنه يرى الملائكة الذين بعثهم الله مددا للمؤمنين ، والمشركون لا يرونهم .
وابن كثير يقول : وقوله - تعالى - { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ } الآية .
أى : حسن لهم لعنة الله - ما جاءوا له ، وما هموا به ، وذلك أنه تبدى لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم سيد بنى مدلج . . ثم قال : فلما رأى إبليس الملائكة { نَكَصَ على عَقِبَيْهِ } وقال إنى برئ منكم إنى أرى ما لا ترون ، وهو في صورة سراقة ، وأقبل أبو جهل يحض أصحابه ويقول لهم : لا يهولنكم خذلان سراقة إياكم ، فإنه كان على موعد من محمد وأصحابه . .
ومن هذا يتضح أن هذين الإِمامين الجليلين يسيران في تفسيرهما للآية الاكريمة ، على أن التزيين كان حسياً ، ويهملان القول بغير ذلك ممن تابعهما في هذا الإِمام القرطبى ، فقد ذكر عرض الروايات التي وردت في معنى الآية ، والتى صرحت بأن الشيطان قد تمثل للمشركين في صورة إنسان ، وبنى تفسيره للآية على ذلك .
وقد خالف صاحب المنار هؤلاء الأئمة ، فرجح القول الأول وهو أن التزيين لم يكن حسياً ، أي أن ما قاله الشيطان لهم من قبيل الوسوسة ، وأنه لم يتمثل لهم في صورة إنسان .
فقد قال - رحمه الله - قوله : { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس . . . } أى : واذكر ايها الرسول للمؤمنين إذ زين الشيطان لهؤلاء المشركين أعمالهم بوسوسته ، وقال لهم بما ألقاه في هواجسهم لا غالب لكم اليوم من الناس .
{ فَلَمَّا تَرَآءَتِ الفئتان نَكَصَ على عَقِبَيْه } أى : فلما قرب كل من الفريقين من الآخر . نكص ، أى : رجع القهرى . . والمراد أنه كف عن تزيينه لهم ، وتغريره إياهم ، فخرج الكلام مخرج التمثيل بتشبيه وسوسته بما ذكر بحال المقبل على الشئ ، وتركها بحال من ينكص ، أى : رجع القهقهرى . . والمراد أنه كف عن تزيينه لهم ، وتغريره إياهم ، فخرج الكلام مخرج التمثيل بتشبيه وسوسته بما ذكر بحال المقبل على الشئ ، وتركها بحال من ينكص على عقبيه ويوليه دبره ، ثم زاد على هذا ما يدل على براءته منهم ، ونكره إياهم وشأنهم ، وهو { وَقَالَ إِنِّي بريئ مِّنْكُمْ إني أرى مَا لاَ تَرَوْنَ إني أَخَافُ الله } أى : تبرأ منهم وخاف عليهم ، وأيس من حالهم لما رأى إمداد الله المسلمين بالملائكة .
ثم قال - بعد أن ضعف الروايات التي أوردها ابن جرير وابن كثير : والمختار عندنا في تفسير الآية أن الشيطان القى في قلوب المشركين أن أحدا لن يغلبهم . .
والخلاصة : أننا بمراجعنا لأقوال المفسرين في كيفية تزيين الشيطان للمشركين ، تراهم ينقسمون إلى ثلاثة أقسام :
( أ ) قسم منهم ذكر القولين السابقين في كيفية التزين دون أن يرجح أحدهما على الآخر ، وممن فعل ذلك الزمخشرى ، والفخر الرازى والآلوسى .
( ب ) وقسم منهم سار في تفسيره على أن التزيين كان حسياً ، بمعنى أن الشيطان تمثل للمشركين في صورة إنسان وقال لهم ما قال ، وأهمل القول بأن التزيين لم يكن حسياً ، وممن فعل ذلك ابن جرير ، وابن كثير ، والقرطبى .
( ج ) وقسم منهم رجح أن التزيين لم يكن حسياً ، بل كان طريق الوسوسة ، وأن الشيطان ما تمثل للمشركين في صورة إنسان ، وقدسار في هذا الاتجاه صاحب المنار مشككا في صحة ما سواه .
والذى نراه بعد هذا العرض لأقوال المفسرين : أن الآية الكريمة صريحة في أن الشيطان قد زين للمشركين أعمالهم ، وأنه قد قال لهم - ما حكاه القرآن عنه : { لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ } وأنه حين تراءى الجمعان كذب فعلهُ قوله ، فقد { نَكَصَ على عَقِبَيْهِ } وقال للمشركين الذين وعدهم ومناهم بالنصر { إِنِّي بريئ مِّنْكُمْ إني أرى مَا لاَ تَرَوْنَ إني أَخَافُ الله والله شَدِيدُ العقاب } .
ومن العسير علينا بعد ذلك أن نحدد تحديداً قاطعاً كيفية هذا التزيين والقول والنكوص : أهو حسى أم غير حسى ؛ لأن التحديد القاطع لا بد أن يستند إلى نص صريح في دلالته على المعنى المراد ، وصحيح في نسبته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وهذا النص غير موجود ، لأن الحديث الذي أخرجه الإِمام مالك في موطئه - والذى سبق أن ذكرناه - قال عنه ابن كثير وابن حجر إنه حديث مرسل ، وزيادة على ذلك ففى بعض رجاله من هو ضعيف الحديث كابن الماجشون ، ولأن الروايات التي رويت في تمثيل الشيطان بصورة سراقة قد جاء معظمها عن ابن عباس ، وابن عباس - كما يقول صاحب المنار - كان سنه يوم بدر خمس سنين . روايته لأخبارها منقطعة .
إذن فنحن نؤمن بما أثبته القرآن من أن الشيطان قد زين للمشركين أعمالهم ، وأنه قد حال لهم ما قاله - مما حكاه القرآن عنه - ، وأنه قد نكص على عقبيه . . إلا أننا لا نستطيع أن نحدد كيفية ذلك .
ويعجبنى في هذا المقام قول بعض الكاتبين عند تفسيره لهذه الآية : " وفى هذا الحادث نص قرآنى يثبت منه أن الشيطان زين للمشركين أعمالهم ، وشجعهم على الخروج . . وأنه بعد ذلك { نَكَصَ على عَقِبَيْهِ } فخذلهم وتركهم يلاقون مصيرهم وحدهم .
ولكننا لا نعمل الكيفية التي زين لهم بها أعمالهم والتى قال لهم بها لا غالب لكم اليوم من الناس . . والتى نكص بها كذلك .
الكيفية فقط هى التي لا نجزم بها . ذلك أن أمر الشياطين كله غيب ، ولا سبيل لنا إلى الجزم بشئ من أمره إلا بنص قرآنى أو حديث نبوى صحيح ، والنص هنا لا يذكر الكيفية إنما يثبت الحادث .
فإلى هنا ينتهى إجتهادنا ، ولا نميل إلى المنهج الذي تتخذه مدرسة الشيخ محمد عبده في محاولة تأويل كل أمر غيبى من هذا القبيل تأويلا معينا ينفى الحركة الحسية عن هذه العوالم ، وذلك كقول الشيخ رشيد رضا في تفسير الآية .
{ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ } واذكر أيها الرسول للمؤمنين إذ زين الشيطان لهؤلاء المشركين أعمالهم بوسوسته ، وقال لهم بما ألقاه في هواجسهم : لا غالب لكم اليوم من الناس . . الخ ما ذكره الشيخ رشيد في تفسيره الآية .
وقوله : { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ } الآية : حسَّن لهم - لعنه الله - ما جاؤوا له وما هموا به ، وأطمعهم أنه لا غالب لهم اليوم من الناس ، ونفى عنهم الخشية من أن يؤتوا في ديارهم من عدوهم بني بكر فقال : أنا جار لكم ، وذلك أنه تبدى لهم في صورة سُرَاقة بن مالك بن جُعْشُم ، سيد بني مُدْلج ، كبير تلك الناحية ، وكل ذلك منه ، كما قال [ الله ]{[13056]} تعالى عنه : { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا } [ النساء : 120 ] .
قال ابن جريج{[13057]} قال ابن عباس في هذه الآية : لما كان يوم بدر سار إبليس برايته وجنوده مع المشركين ، وألقى في قلوب المشركين : أن أحدا لن يغلبكم ، وإني جار لكم . فلما التقوا ، ونظر الشيطان إلى إمداد الملائكة ، { نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْه } قال : رجع مدبرا ، وقال : { إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ } الآية .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين ، معه رايته ، في صورة رجل من بني مدلج ، والشيطان في صورة سراقة بن مالك{[13058]} بن جعشم ، فقال الشيطان للمشركين : { لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ } فلما اصطف الناس أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من التراب فرمى بها في وجوه المشركين ، فولوا مدبرين وأقبل جبريل ، عليه السلام ، إلى إبليس ، فلما رآه - وكانت يده في يد رجل من المشركين - انتزع يده ثم ولى مدبرا هو وشيعته ، فقال الرجل : يا سراقة ، أتزعم أنك لنا جار ؟ فقال : { إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } وذلك حين رأى الملائكة .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ؛ أن إبليس خرج مع قريش في صورة سراقة بن مالك بن جعشم ، فلما حضر القتال ورأى الملائكة ، نكص على عقبيه ، وقال : { إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ } فتشبث{[13059]} الحارث بن هشام فنخر في وجهه ، فخر صعقا ، فقيل له : ويلك يا سراقة ، على هذه الحال تخذلنا وتبرأ منا . فقال : { إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ }
وقال محمد بن عمر الواقدي : أخبرني عمر بن عقبة ، عن شعبة - مولى ابن عباس - عن ابن عباس قال : لما تواقف الناس أغمي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة ثم كشف عنه ، فبشر الناس بجبريل في جند من الملائكة ميمنة الناس ، وميكائيل في جند آخر ميسرة الناس ، وإسرافيل في جند آخر ألف . وإبليس قد تصور في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي ، يدبر المشركين ويخبرهم أنه لا غالب لهم{[13060]} اليوم من الناس . فلما أبصر عدوُّ الله الملائكة ، نكص على عقبيه ، وقال : { إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ } فتشبث به الحارث بن هشام ، وهو يرى أنه سراقة لما سمع من كلامه ، فضرب في صدر الحارث ، فسقط الحارث ، وانطلق إبليس{[13061]} لا يرى حتى سقط في البحر ، ورفع ثوبه وقال : يا رب ، موعدك الذي وعدتني{[13062]} .
وفي الطبراني عن رفاعة بن رافع قريب من هذا السياق وأبسط منه{[13063]} ذكرناه في السيرة .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني يزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير قال : لما أجمعت{[13064]} قريش المسير{[13065]} ذكرت الذي بينها وبين بني بكر من الحرب ، فكاد ذلك أن يثنيهم ، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي - وكان من أشراف بني كنانة - فقال : أنا جار لكم أن تأتيكم كنانة بشيء تكرهونه ، فخرجوا سراعا .
قال محمد بن إسحاق : فذكر لي أنهم كانوا يرونه في كل منزل في صورة سراقة بن مالك{[13066]} لا ينكرونه ، حتى إذا كان يوم بدر والتقى الجمعان ، كان الذي رآه حين نكص الحارث بن هشام - أو : عمير بن وهب - فقال : أين ، أي سراق ؟{[13067]} ومثل عدو الله فذهب - قال : فأوردهم ثم أسلمهم - قال : ونظر عدو الله إلى جنود الله ، قد أيد الله بهم رسوله{[13068]} والمؤمنين فانتكص{[13069]} على عقبيه ، وقال : { إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ } وصدق عدو الله ، وقال : { إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ }{[13070]} وهكذا روي عن السدي ، والضحاك ، والحسن البصري ، ومحمد بن كعب القرظي ، وغيرهم ، رحمهم الله .
وقال قتادة : وذكر لنا أنه رأى جبريل ، عليه السلام ، تنزل معه{[13071]} الملائكة ، فعلم عدو الله أنه لا يدان له بالملائكة فقال : { إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ } وكذب عدو الله ، والله ما به مخافة الله ، ولكن علم أنه لا قوة له ولا منعة ، وتلك عادة عدو الله لمن أطاعه واستقاد له ، حتى إذا التقى الحق والباطل أسلمهم شر مسلم ، وتبرأ منهم عند ذلك .
قلت : يعني بعادته لمن أطاعه قوله تعالى : { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ } [ الحشر : 16 ] ، وقوله تعالى : { وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ إبراهيم : 22 ] .
وقال يونس بن بُكَيْر ، عن محمد بن إسحاق : حدثني عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم ، عن بعض بني ساعدة قال : سمعت أبا أسيد مالك بن ربيعة بعدما أصيب بصره يقول : لو كنت معكم الآن ببدر ومعي بصري ، لأخبرتكم بالشعب الذي خرجت منه الملائكة لا أشك ولا أتمارى{[13072]}
فلما نزلت الملائكة ورآها إبليس ، وأوحى الله إليهم : أني معكم فثبتوا الذين آمنوا ، وتثبيتهم أن الملائكة كانت تأتي الرجل في صورة الرجل يعرفه ، فيقول له : أبشر فإنهم ليسوا بشيء ، والله معكم ، كروا عليهم . فلما رأى إبليس الملائكة نكص على عقبيه ، وقال : { إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ } وهو في صورة سراقة ، وأقبل أبو جهل يحضض أصحابه ويقول : لا يهولنكم خذلان سراقة إياكم ، فإنه كان على موعد من محمد وأصحابه . ثم قال : واللات والعزى لا نرجع حتى نقرن محمدا وأصحابه في الحبال ، فلا تقتلوهم وخذوهم أخذًا . وهذا من أبي جهل لعنه الله كقول فرعون للسحرة لما أسلموا : { إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا } [ الأعراف : 123 ] ، وكقوله { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ } [ طه : 71 ] ، وهو من باب البهت والافتراء ، ولهذا كان أبو جهل فرعون هذه الأمة .
وقال مالك بن أنس ، عن إبراهيم بن أبي عبلة{[13073]} عن طلحة بن عبيد الله بن كَرِيز ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما رُئِيَ إبليس في يوم هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وذلك مما يرى من تنزل الرحمة والعفو عن الذنوب إلا ما رأى يوم بدر " . قالوا : يا رسول الله ، وما رأى يوم بدر ؟ قال : " أما إنه رأى جبريل ، عليه السلام ، يزغ الملائكة " {[13074]}
التقدير واذكروا إذ ، والضمير في { لهم } عائد على الكفار ، و { الشيطان } إبليس نفسه ، وحكى المهدوي وغيره أن التزيين في هذه الآية وما بعده من الأقوال هو بالوسوسة والمحادثة في النفوس .
قال القاضي أبو محمد : ويضعف هذا القول أن قوله { وإني جار لكم } ليس مما يلقى بالوسوسة ، وقال الجمهور في ذلك بما روي وتظاهر أن إبليس جاء كفار قريش ففي السير لابن هشام أنه جاءهم بمكة ، وفي غيرها أنه جاءهم وهم في طريقهم إلى بدر ، وقد لحقهم خوف من بني بكر وكنانة لحروب كانت بينهم ، فجاءهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم وهو سيد من ساداتهم ، فقال لهم : «إني جار لكم » ولن تخافوا من قومي وهم لكم أعوان على مقصدكم ولن يغلبكم أحد ، فسروا عند ذلك ومضوا لطيتهم{[5399]} ، وقال لهم أنتم تقاتلون عن دين الآباء ولن تعدموا نصراً .
فروي أنه لما التقى الجمعان كانت يده في يد الحارث بن هشام ، فلما رأى الملائكة نكص فقال له الحارث :أتفر يا سراقة فلم يلو عليه{[5400]} ، ويروى أنه قال له ما تضمنت الآية .
وروي أن عمرو بن وهب أو الحارث بن هشام قال له : أين يا سراق ؟ فلم يلو ودفع في صدر الحارث وذهب فوقعت الهزيمة{[5401]} ، فتحدث أن سراقة فر بالناس ، فبلغ ذلك سراقة بن مالك ، فأتى مكة فقال لهم : والله ما علمت بشيء من أمركم حتى بلغتني هزيمتكم ولا رأيتكم ولا كنت معكم ، وحكى الطبري عن ابن عباس أنه قال : جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه رأيته في صورة رجل من بني مدلج ، فقال { لا غالب لكم اليوم } الآية ، و { اليوم } ظرف ، والعمل فيه معنى نفي الغلبة ، ويحتمل أن يكون العامل متعلق { لكم } وممتنع أن يعمل { غالب } لأنه كان يلزم أن يكون لا غالباً{[5402]} ، وقوله { إني جار لكم } معناه فأنتم في ذمتي وحماي ، و { وتراءت } تفاعلت من الرؤية أي رأى هؤلاء هؤلاء ، وقرأ الأعمش وعيسى بن عمر «ترأت » مقصورة ، وحكى أبو حاتم عن الأعمش أنه أمال والراء مرققة ثم رجع عن ذلك . وقوله { نكص على عقيبه } معناه رجع من حيث جاء ، وأصل النكوص في اللغة الرجوع القهقرى ، وقال زهير :
هم يضربون حبيك البيض إذ لحقوا*** لا ينكصون إذا ما استلحموا وحموا{[5403]}
كذا أنشد الطبري ، وفي رواية الأصمعي إذا ما استلأموا وبذلك فسر الطبري هذه الآية ، وفي ذلك بعد ، وإنما رجوعه في هذه الآية مشبه بالنكوص الحقيقي ، وقال اللغويون : النكوص ، الإحجام عن الشيء ، يقال أراد أمراً ثم نكص عنه ، وقال تأبَّطَ شرّاً : [ البسيط ]
ليس النكوصُ على الأدبار مكرمةً*** إن المكارم إقدامٌ على الأسَل{[5404]}
قال القاضي أبو محمد : فليس هنا قهقرى بل هو فرار ، وقال مؤرج{[5405]} : نكص هي رجع بلغة سليم .
قال القاضي أبو محمد : وقوله { على عقبيه } يبين أنه إنما أراد الانهزام والرجوع في ضد إقباله ، وقوله { إني بريء منكم } هو خذلانه لهم وانفصاله عنهم ، وقوله { إني أرى ما لا ترون } يريد الملائكة وهو الخبيث إنما شرط أن لا غالب من الناس فلما رأى الملائكة وخرق العادة خاف وفرَّ ، وفي الموطأ وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ما رئي الشيطان في يوم أقل ولا أحقر ولا أصغر منه في يوم عرفة ، لما يرى من نزول الرحمة إلا ما رأى يوم بدر ، قيل وما رأى يا رسول الله ؟ قال : رأى الملائكة يزعها جبريل »{[5406]} .
وقال الحسن : رأى إبليس جبريل يقود فرسه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو معتجر ببردة وفي يده اللجام ، وقوله { إني أخاف الله } قيل إن هذه معذرة منه كاذبة ولم تلحقه قط مخافة ، قاله قتادة وابن الكلبي ، وقال الزجّاج وغيره : بل خاف مما رأى من الأمر وهوله وأنه يومه الذي أنظر إليه{[5407]} ، ويقوي هذا أنه رأى خرق العادة ونزول الملائكة للحرب .
وحكى الطبري بسنده أنه لما انهزم المشركون يوم بدر حين رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبضة من التراب وجوه الكفار أقبل جبريل صلى الله عليه وسلم إلى إبليس ، فلما رآه إبليس وكانت يده في يد رجل من المشركين انتزع يده ثم ولى مدبراً ، فقال له الرجل أي سراقة تزعم أنك لنا جار ؟ فقال { إني أرى ما لا ترون } الآية ، ثم ذهب .