{ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ }
وهذا فيه المجازاة على النفقات ، واجبها ومستحبها ، قليلها وكثيرها ، التي أمر الله بها ، والنذور التي ألزمها المكلف نفسه ، وإن الله تعالى يعلمها فلا يخفى عليه منها شيء ، ويعلم ما صدرت عنه ، هل هو الإخلاص أو غيره ، فإن صدرت عن إخلاص وطلب لمرضاة الله جازى عليها بالفضل العظيم والثواب الجسيم ، وإن لم ينفق العبد ما وجب عليه من النفقات ولم يوف ما أوجبه على نفسه من المنذورات ، أو قصد بذلك رضى المخلوقات ، فإنه ظالم قد وضع الشيء في غير موضعه ، واستحق العقوبة البليغة ، ولم ينفعه أحد من الخلق ولم ينصره ، فلهذا قال : { وما للظالمين من أنصار }
ثم بين - سبحانه - أنه عليم بما ينفقه المنفقون من صدقات سواء أكانت سراً أو جهراً وسيجازيهم عليها بما يستحقون من ثواب فقال - تعالى - :
{ وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ . . . }
وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ( 270 ) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( 271 )
النفقة : هي العطاء العاجل في باب من أبواب الخير . أما النذر : فهو التزام قربة من القربات أو صدقة من الصدقات بأن يقول : لله على نذر أن أفعل كذا من أنواع البر . أو أن شفى الله مريضي فسأفعل كذا .
والمعنى : وما أنفقتم - أيها المؤمنون - من نفقة عاجلة قليلة أو كثيرة ، أو التزمتم بنفقة مستقبلة وعاهدتم الله - تعالى - على القيام بها ، فإنه - سبحانه - يعلم كل شيء ، ويعلم ما صاحب نياتكم من إخلاص أو رياء ، ويعلم ما أنفقتموه أهو من جيد أموالكم أم من رديئها ، وسيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته . فالآية الكريمة بيان لحكم كلي شامل لجميع أفراد النفقات إثر بيان حكم ما كان منها في سبيل الله - تعالى - .
و ( ما ) في قوله : { وَمَآ أَنفَقْتُمْ } شرطية أو موصولة والفاء في قوله : { فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ } رابطة الجواب الشرط إذا اعتبرنا ما شرطية ، ومزيدة في الخير إذا اعتبرناها موصولة و ( من ) في قوله : { مِّن نَّفَقَةٍ } بيانيية أو زائدة .
وقوله : { فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ } كناية عن الجزاء عليه ، لأن علم الله - تعالى - بالكائنات لا يشك فيه السامعون ، فأريد لازم معناه وهو الجزاء . وإنما كان لازما له لأن القادر لا يصده عن الجزاء إلا عدم العلم بما يفعله المحسن أو المسئ .
وهذه الجملة الكريمة مع إيجازها قد أفادت الوعد العظيم للمطيعين والوعيد الشديد للمتمردين ، لأن الإِنسان إذا أيقن أن الله تعالى لا تخفى عليه خافية من شئون خلقه ، فإن هذا اليقين سيحمله على الطاعة والإِخلاص ، وسيحضه على المسارعة في الخيرات ، خصوصاً وإن الجملة قد صدرت بإن المؤكدة ، وتليت بلفظ الجلالة الدالة على الاستحقاق الكامل للألوهية .
قال بعضهم : وإنما قال - سبحانه - : { فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ } ولم يقل يعلمها لوجهين :
الأول : أن الضمير عائد إلى الأخير - وهو النذر - ، كما في قوله - تعالى - : { وَمَن يَكْسِبْ خطيائة أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً } والثاني : أن الكناية عادت إلى ما في قوله : { وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ } لأنها اسم كقوله : { وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الكتاب والحكمة يَعِظُكُمْ بِهِ } وقوله : { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } وعيد شديد للخارجين على طاعة الله أي : ليس للظالمين أي نصير أو مغيث يمنع عقوبة الله عنهم .
والمراد بالظالمين : الواضعون للأشياء في غير موضعها التي يجب أن توضع فيها ، والتاركون لما أمرهم الله به ، فيندرج فيهم الذين يبطلون صدقاتهم بالمن والأذى والرياء والذين يتصدقون بالرديء من أموالهم ، والذين ينفقون أموالهم في الوجوه التي نهى الله عنها ، والذين لم يوفوا بنذورهم التي عاهدوا الله على الوفاء بها كما يندرج فيهم كل من راتكب ما نهى الله عنه أو أهمل فيما كلفه الله به .
يخبر تعالى بأنه عالم بجميع ما يفعله العاملون من الخيرات من النفقات والمنذورات وتَضَمن ذلك مجازاته على ذلك أوفر الجزاء للعاملين لذلك ابتغاء وجهه ورجاء موعوده . وتوعد من لا يعمل بطاعته ، بل خالف أمره وكذب خبره وعبد معه غيره ، فقال : { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَار } أي : يوم القيامة ينقذونهم{[4490]} من عذاب الله ونقمته .
{ وما أنفقتم من نفقة } قليلة أو كثيرة ، سرا أو علانية ، في حق أو باطل . { أو نذرتم من نذر } بشرط أو بغير شرط ، في طاعة أو معصية . { فإن الله يعلمه } فيجازيكم عليه . { وما للظالمين } الذين ينفقون في المعاصي وينذرون فيها ، أو يمنعون الصدقات ولا يوفون بالنذر . { من أنصار } من ينصرهم من الله ويمنعهم من عقابه .
وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ( 270 )
كانت النذر من سيرة العرب تكثر منها ، فذكر تعالى النوعين ما يفعله المرء متبرعاً وما يفعله بعد إلزامه لنفسه ، ويقال : نذر الرجل كذا إذا التزم فعله «ينذُر » بضم الذال «وينذِر » بكسرها ، وقوله تعالى : { فإن الله يعلمه } قال مجاهد : معناه يحصيه ، وفي الآية وعد ووعيد ، أي من كان خالص النية فهو مثاب ومن أنفق رئاء أو لمعنى آخر مما يكشفه المن والأذى ونحو ذلك فهو ظالم يذهب فعله باطلاً ولا يجد ناصراً فيه ، ووحد الضمير في { يعلمه } وقد ذكر شيئين من حيث أراد ما ذكر أو نص( {[2652]} ) ،
تذييل للكلام السابق المسوقِ للأمر بالإنفاق وصفاته المقبولَة والتحذير من المثبّطات عنه ابتداء من قوله : { يأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيّبات ما كسبتم } [ البقرة : 267 ] .
والمقصود من هذا التذييل التذكير بأنّ الله لا يخفى عليه شيء من النفقات وصفاتها ، وَأدْمج النذر مع الإنفاق فكان الكلام جديراً بأن يكون تذييلاً .
والنذر التزام قربة أو صدقة بصيغة الإيجاب على النفس كقوله عليّ صدقة وعليّ تجهيز غاز أو نحو ذلك ، ويكون مطلَقاً ومعلَّقاً على شيء . وقد عرفت العرب النذر من الجاهلية ، فقد نذر عبدُ المطلب أنّه إن رُزق عشرة أولاد ليذبحنّ عاشرهم قرباناً للكعبة ، وكان ابنُه العاشر هو عبد الله ثاني الذبيحين ، وأكرِم بها مزيةً ، ونذرت نُتَيلةُ زوج عبد المطلب لما افتقدت ابنها العباسَ وهو صغير أنّها إن وجدته لتَكْسُوَنّ الكعبة الديباج ففعلت . وهي أول من كسا الكعبة الديباج . وفي حديث البخاري أنّ عمر بن الخطاب قال : " يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام ، فقال أوْفِ بنذرك " .
وفي الأمم السالفة كان النذر ، وقد حكى الله عن امرأة عمران { إنّي نذرت لك ما في بطني محرّرا } [ آل عمران : 35 ] . والآية دلّت على مشروعيته في الإسلام ورجاء ثوابه ، لعطفه على ما هو من فعل الخير سواء كان النذر مطلقاً أم معلّقاً ، لأنّ الآية أطلقت ، ولأنّ قوله : { فإن الله يعلمه } مراد به الوعد بالثواب . وفي الحديث الصحيح عن عمر وابنه عبد الله وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنّ النذر لا يُقدِّم شيئاً ولا يؤخّر ، ولا يردّ شيئاً ولا يأتي ابن آدم بشيء لم يكن قُدر له ، ولكنّه يُستخرج به من البَخيل " . ومَساقه الترغيب في النذر غير المعلّق لا إبطال فائدة النذر . وقد مدح الله عباده فقال : { يوفون بالنذر } [ الإنسان : 7 ] . وفي « الموطأ » عن النبي صلى الله عليه وسلم " من نَذر أن يطيعَ الله فليُطِعْه ومن نذر أن يعصِيَ الله فلا يْعْصِه " .
و ( مِن ) في قوله : { من نفقة } و { من نذر } بيان لما أنفقتم ونذرتم ، ولما كان شأن البيان أن يفيد معنى زائداً على معنى المبيَّن ، وكان معنى البيان هنا عين معنى المبيّن ، تعيّن أن يكون المقصود منه بيان المنفَق والمنذور بما في تنكير مجروري ( مِنْ ) من إرادة أنواع النفقات والمنذورات فأكّد بذلك العموممِ ما أفادته ما الشرطيةُ من العموم من خير أو شر في سبيل الله أو في سبيل الطاغوت ، قال التفتازاني : « مِثْل هذا البيان يكون لتأكيد العموم ومنع الخصوص » .
وقوله : { فإن الله يعلمه } كناية عن الجزاء عليه لأنّ علم الله بالكائنات لا يَشُك فيه السامعون ، فأريد لازم معناه ، وإنّما كان لازماً له لأنّ القادر لا يصدّه عن الجزاء إلاّ عدم العلم بما يفعله المحسن أو المسيء .
{ وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ } .
هذا وعيد قوبل به الوعد الذي كنّي عنه بقوله : { فإن الله يعلمه } ، والمراد بالظالمين المشركون علنا والمنافقون ، لأنّهم إن منعوا الصدقات الواجبة فقد ظلموا مصارفها في حقّهم في المال وظلموا أنفسهم بإلقائها في تبعات المنع ، وإن منعوا صدقة التطوُّع فقد ظلموا أنفسهم بحرمانها من فضائل الصدقات وثوابها في الآخرة .
والأنصار جمع نصير ، ونفي الأنصار كناية عن نفي النصر والغوث في الآخرة وهو ظاهر ، وفي الدنيا لأنّهم لما بخلوا بنصرهم الفقير بأموالهم فإنّ الله يعدمهم النصير في المضائق ، ويقسي عليهم قلوب عباده ، ويلقي عليهم الكراهية من الناس .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وما أنفقتم من نفقة}: من خير من أموالكم في الصدقة. {أو نذرتم من نذر}: في حق، {فإن الله يعلمه}: فإن الله يحصيه،
{وما للظالمين من أنصار}: للمشركين من مانع من النار...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وأيّ نفقة أنفقتم، يعني أيّ صدقة تصدقتم، أو أيّ نذر نذرتم، يعني بالنذر: ما أوجبه المرء على نفسه تبرّراً في طاعة الله، وتقرّباً به إليه، من صدقة أو عمل خير "فَانّ اللّهَ يَعْلَمُهُ": أي أن جميع ذلك بعلم الله، لا يعزب عنه منه شيء، ولا يخفى عليه منه قليل ولا كثير، ولكنه يحصيه أيها الناس عليكم حتى يجازيكم جميعكم على جميع ذلك، فمن كانت نفقته منكم وصدقته ونذره ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من نفسه، جازاه بالذي وعده من التضعيف ومن كانت نفقته وصدقته رياء الناس ونذروه للشيطان جازاه بالذي أوعده من العقاب وأليم العذاب. ثم أوعد جل ثناؤه من كانت نفقته رياء ونذوره طاعة للشيطان، فقال: "وَما للظّالِمِينَ مِنْ أنْصَارٍ": وما لمن أنفق ماله رياء الناس وفي معصية الله، وكانت نذوره للشيطان وفي طاعته، مِنْ أنْصَارٍ. ويعني بقوله: "مِنْ أنْصَارٍ "من ينصرهم من الله يوم القيامة، فيدفع عنهم عقابه يومئذ بقوّة وشدّة بطش ولا بفدية. وقد دللنا على أن الظالم: هو الواضع للشيء في غير موضعه. وإنما سمى الله المنفق رياء الناس، والناذر في غير طاعته ظالماً، لوضعه إنفاق ماله في غير موضعه ونذره في غير ماله وضعه فيه، فكان ذلك ظلمه.
فإن قال لنا قائل: فكيف قال: "فَإنّ اللّهَ يَعْلَمُهُ" ولم يقل: يعلمهما، وقد ذكر النذر والنفقة؟ قيل: إنما قال: "فَانّ اللّهَ يَعْلَمَهُ" لأنه أراد: فإن الله يعلم ما أنفقتم أو نذرتم، فلذلك وحدّ الكناية.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل نفقة المحارم، ويحتمل النفقات التي تجري بين الخلق، ويحتمل المفروض من الصدقات، ويحتمل غيرها.
{فإن الله يعلمه} قيل: يقبله، وقيل: يأمر بوفائه، ويحتمل قوله: {يعلمه} أي يعلم ما وفيتم منه، فيجزيكم على ذلك، ويحتمل {يعلمه} ما أردتم بصدقاتكم ونذوركم.
وقوله تعالى: {وما للظالمين من أنصار} في الآخرة؛ يعني مجير يجيرهم من العذاب، وقيل: ما للظالمين من شفيع لهم ولا نصير ينصرهم لأنه ما من ظالم إلا وله في الدنيا ظهير...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
فلا شيء يوجب سقوط العبد من عين الله كمخالفته لعهوده معه بقلبه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَمَا أَنفَقْتُم مّن نَّفَقَةٍ} في سبيل الله، أو في سبيل الشيطان {أَوْ نَذَرْتُم مّن نَّذْرٍ} في طاعة الله، أو في معصيته {فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ} لا يخفى عليه وهو مجازيكم عليه {وَمَا للظالمين} الذين يمنعون الصدقات أو ينفقون أموالهم في المعاصي، أو لا يفون بالنذور، أو ينذرون في المعاصي {مِنْ أَنصَارٍ} ممن ينصرهم من الله ويمنعهم من عقابه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
كانت النذر من سيرة العرب تكثر منها، فذكر تعالى النوعين ما يفعله المرء متبرعاً وما يفعله بعد إلزامه لنفسه، ويقال: نذر الرجل كذا إذا التزم فعله «ينذُر» بضم الذال «وينذِر» بكسرها،
{فإن الله يعلمه} قال مجاهد: معناه يحصيه، وفي الآية وعد ووعيد، أي من كان خالص النية فهو مثاب ومن أنفق رئاء أو لمعنى آخر مما يكشفه المن والأذى ونحو ذلك فهو ظالم يذهب فعله باطلاً ولا يجد ناصراً فيه، ووحد الضمير في {يعلمه} وقد ذكر شيئين من حيث أراد ما ذكر أو نص.
اعلم أنه تعالى لما بين أن الإنفاق يجب أن يكون من أجود المال، ثم حث أولا: بقوله {ولا تيمموا الخبيث} [البقرة: 267] وثانيا: بقوله {الشيطان يعدكم الفقر} [البقرة: 268] حيث عليه ثالثا: بقوله {وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه}
المسألة الأولى: في قوله {فإن الله يعلمه} على اختصاره، يفيد الوعد العظيم للمطيعين، والوعيد الشديد للمتمردين، وبيانه من وجوه.
أحدها: أنه تعالى عالم بما في قلب المتصدق من نية الإخلاص والعبودية أو من نية الرياء والسمعة
وثانيها: أن علمه بكيفية نية المتصدق يوجب قبول تلك الطاعات، كما قال: {إنما يتقبل الله من المتقين} [المائدة: 27]...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
فقوله {وما أنفقتم من نفقة} يشتمل قليلها وكثيرها سرها وعلانيتها ما أتبع منها بالمن والأذى وما لم يتبع بشيء منهما. وقوله: {أو نذرتم من نذر} يأتي فيه مثل ذلك ويشمل ما كان نذر قربة وتبرر أو نذر لجاج وغضب. فالأول ما قصد به التزام الطاعة قربة لله تعالى بلا شرط ولا قيد لئلا يتهاون فيها كأن ينذر نفقة معينة أو صلاة نافلة أو بشرط حصول نعمة أو رفع نقمة. كقوله إن شفى الله فلانا فعلي أو لله علي أن أتصدق بكذا أو أقف على الجمعية الخيرية كذا والثاني ما يقصد به حث النفس على شيء أو منعها عنه. كقوله إن كلمت فلانا فعلي كذا. واتفقوا على أن يجب الوفاء بالأول... وفي الثاني أقوال: منها أنه يجب فيه كفارة يمين بشرطه. ومنها أنه يخير بين الوفاء بما التزمه وبين كفارة يمين...
ثم أكد ما فيها من الوعيد بقوله: {وما للظالمين من أنصار} ينصرونهم يوم الجزاء فيدفعون عنهم العذاب بجاههم أو يفتدونهم منه بمالهم كقوله:
{وما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع} [غافر: 18].
أقول: والظالمون في مقام الإنفاق هم الذين ظلموا أنفسهم إذ لم يزكوها ويطهروها من هذه الفحشاء البخل أو من رذائل الرياء والمن والأذى وظلموا الفقراء والمساكين بمنع ما أوجبه الله لهم، وظلموا الملة والأمة بترك الإنفاق في المصالح العامة وبما كانوا قدوة سيئة لغيرهم فظلمهم عام شامل. فهل يعتبر بهذا أغنياء المسلمين وهم يرون أمتهم قد صارت ببخلهم أبعد الأمم عن الخير بعد أن كانت خير أمة أخرجت للناس؟ أما إنهم لا يجهلون أن المال هو القطب الذي تدور عليه جميع مصالح الأمم في هذا العصر، وأنهم لو شاءوا لانتشلوا هذه الأمة من وهدتها، وعادوا بها إلى عزتها، ولكنهم قوم ظالمون...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وشعور المؤمن بأن عين الله -سبحانه- على نيته وضميره، وعلى حركته وعمله.. يثير في حسه مشاعر حية متنوعة؛ شعور التقوى والتحرج أن يهجس في خاطره هاجس رياء أو تظاهر، وهاجس شح أو بخل، وهاجس خوف من الفقر أو الغبن. وشعور الاطمئنان على الجزاء والثقة بالوفاء. وشعور الرضى والراحة بما وفى لله وقام بشكر نعمته عليه بهذا الإنفاق مما أعطاه.. فأما الذي لا يقوم بحق النعمة؛ والذي لا يؤدي الحق لله ولعباده؛ والذي يمنع الخير بعد ما أعطاه الله إياه.. فهو ظالم. ظالم للعهد، وظالم للناس، وظالم لنفسه: {وما للظالمين من أنصار}.. فالوفاء عدل وقسط. والمنع ظلم وجور. والناس في هذا الباب صنفان: مقسط قائم بعهد الله معه إن أعطاه النعمة وفى وشكر. وظالم ناكث لعهد الله، لم يعط الحق ولم يشكر.. {وما للظالمين من أنصار}
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمقصود من هذا التذييل التذكير بأنّ الله لا يخفى عليه شيء من النفقات وصفاتها، وَأدْمج النذر مع الإنفاق فكان الكلام جديراً بأن يكون تذييلاً. والنذر التزام قربة أو صدقة بصيغة الإيجاب على النفس كقوله عليّ صدقة وعليّ تجهيز غاز أو نحو ذلك، ويكون مطلَقاً ومعلَّقاً على شيء. وقد عرفت العرب النذر من الجاهلية، فقد نذر عبدُ المطلب أنّه إن رُزق عشرة أولاد ليذبحنّ عاشرهم قرباناً للكعبة، وكان ابنُه العاشر هو عبد الله ثاني الذبيحين، وأكرِم بها مزيةً، ونذرت نُتَيلةُ زوج عبد المطلب لما افتقدت ابنها العباسَ وهو صغير أنّها إن وجدته لتَكْسُوَنّ الكعبة الديباج ففعلت. وهي أول من كسا الكعبة الديباج. وفي حديث البخاري أنّ عمر بن الخطاب قال:"يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال أوْفِ بنذرك". وفي الأمم السالفة كان النذر، وقد حكى الله عن امرأة عمران {إنّي نذرت لك ما في بطني محرّرا} [آل عمران: 35].
والآية دلّت على مشروعيته في الإسلام ورجاء ثوابه، لعطفه على ما هو من فعل الخير سواء [أكان] النذر مطلقاً أم معلّقاً، لأنّ الآية أطلقت، ولأنّ قوله:
{فإن الله يعلمه} مراد به الوعد بالثواب. وفي الحديث الصحيح عن عمر وابنه عبد الله وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنّ النذر لا يُقدِّم شيئاً ولا يؤخّر، ولا يردّ شيئاً ولا يأتي ابن آدم بشيء لم يكن قُدر له، ولكنّه يُستخرج به من البَخيل". ومَساقه الترغيب في النذر غير المعلّق لا إبطال فائدة النذر. وقد مدح الله عباده فقال: {يوفون بالنذر} [الإنسان: 7]. وفي « الموطأ» عن النبي صلى الله عليه وسلم "من نَذر أن يطيعَ الله فليُطِعْه ومن نذر أن يعصِيَ الله فلا يْعْصِه".
و (مِن) في قوله: {من نفقة} و {من نذر} بيان لما أنفقتم ونذرتم، ولما كان شأن البيان أن يفيد معنى زائداً على معنى المبيَّن، وكان معنى البيان هنا عين معنى المبيّن، تعيّن أن يكون المقصود منه بيان المنفَق والمنذور بما في تنكير مجروري (مِنْ) من إرادة أنواع النفقات والمنذورات.
وقوله: {فإن الله يعلمه} كناية عن الجزاء عليه لأنّ علم الله بالكائنات لا يَشُك فيه السامعون، فأريد لازم معناه، وإنّما كان لازماً له لأنّ القادر لا يصدّه عن الجزاء إلاّ عدم العلم بما يفعله المحسن أو المسيء.
{وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ}. هذا وعيد قوبل به الوعد الذي كنّي عنه بقوله: {فإن الله يعلمه}، والمراد بالظالمين المشركون علنا والمنافقون، لأنّهم إن منعوا الصدقات الواجبة فقد ظلموا مصارفها في حقّهم في المال وظلموا أنفسهم بإلقائها في تبعات المنع، وإن منعوا صدقة التطوُّع فقد ظلموا أنفسهم بحرمانها من فضائل الصدقات وثوابها في الآخرة. والأنصار جمع نصير، ونفي الأنصار كناية عن نفي النصر والغوث في الآخرة وهو ظاهر، وفي الدنيا لأنّهم لما بخلوا بنصرهم الفقير بأموالهم فإنّ الله يعدمهم النصير في المضائق، ويقسي عليهم قلوب عباده، ويلقي عليهم الكراهية من الناس.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
النفقة هي العطاء العاجل في باب من أبواب البر، فهي عطاء منجز، توجبه حاجة من يعطيه، أو حاجة الجماعة التي يعيش فيها، والضرورات الاجتماعية، أو السياسية أو العسكرية لها. أما النذر فهو التزام طاعة من الطاعات، أو عطاء في بر. ويقول الراغب: النذر أن توجب على نفسك ما ليس بواجب لحدوث أمر، يقال نذرت، قال تعالى: {إني نذرت للرحمان صوما فلن أكلم اليوم إنسيا 26} (مريم) وأصل مادة نذر من الخوف؛ لأن الإنسان إنما يلتزم على نفسه مما ليس بلازم عليه خوف التقصير وخوف أن تضعف الإرادة البشرية في القيام بذلك الفعل الذي ليس واجبا في أصله. والصيغة المشهورة للنذر أن يقول: لله علي نذر أو نذرت لله كذا، فهي في معناها تتضمن العهد الموثق لله...
{فإن الله يعلمه} صدرت بما يؤكدها. وذكر العليم الحكيم بلفظ الجلالة الدال على الاستحقاق الكامل للألوهية، وانفراده سبحانه وتعالى بها، فإن ذلك كله من شأنه أن يجعل المؤمن يحس بمقام الألوهية، ويشعر بحق العبودية، فتخلص نيته، ويخلص قلبه من كل الشوائب والأغراض الدنيوية...
{وما للظالمين من أنصار}: ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بهذه الجملة السامية التي تفيد النفي المطلق لنصرة الظالمين، ومعناها ليس للظالمين أي نصير في الدنيا والآخرة، وهي تؤكد الوعيد في الجملة السابقة، وتشير إلى أن الامتناع عن الإعطاء ظلم، فهو ظلم للجماعة؛ لأنه منع صاحب الحق من حقه؛ لأن الله سبحانه وتعالى، وهو أحكم الحاكمين، حكم بأن للفقير في مال الغني حقا معلوما، ولا ظلم أفحش من أن يمنع صاحب الحق من حقه، ولأن الممتنع عن العطاء يظلم نفسه؛ لأنه يعرضها للهوان في الدنيا، ولعذاب الله في الآخرة، وهو يظلم نفسه وجماعته، إذ إن الجماعة التي يشح فيها الغني بالعطاء لإمداد الجند المدافع، ولإمداد الفقير وجعله يعيش عيشة آدمية محترمة، يبتليها الله تعالى ببلاء واقع ما له من دافع؛ لأن ذلك الفقير إذا جوعته كان أداة هدم للجماعة، فيكون الشُذَّاب الذين يبدلون أمن الجماعة خوفا، ويكون المنحرفون في تفكيرهم ومنازعهم الدينية يهدمون بناء الجماعة، ويقوضون كل قائم...
و عندي أن النذر غير المعلق على شرط قد يكون مستحبا لما فيه من حمل النفس على الإصرار على الطاعات، وأما المعلق على شرط، فهو الذي ينطبق عليه الحديث، وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا يأتي بخير لمنع اعتقاد الناس ذلك، وكثيرون يتوهمون أن النذر يغير القدر، فنفى النبي صلى الله عليه وسلم صحة اعتقادهم. والله سبحانه هو القادر على كل شيء، وله عاقبة الأمور...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وقد يستوحي الإنسان من ذلك، أن قضية الإنفاق هي قضية حق اجتماعي عام للمحرومين على القادرين من الأغنياء لا بد لهم من أن يؤدوه إليهم كما يؤدّى الحق إلى صاحبه، وهذا ما تدل عليه الآية الكريمة: {وَفِى أَمْوَلِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19]. وعلى هذا الأساس، فإن الممتنعين عن الإنفاق الواجب، يظلمون الفقراء في أكل أموالهم التي جعلها الله لهم في شريعته، فيعاملهم الله في الآخرة معاملة الظالمين الذين يقفون وحدهم يوم القيامة أمام الله ليواجهوا الحكم الصارم عليهم بالعذاب، فلا شفيع لهم لديه، لأن الشفعاء لا يشفعون إلا لمن ارتضى، ولا وليّ لهم ولا نصير من الله، لأنه لا تملك نفس لنفس شيئاً في ذلك الوقت العظيم، والأمر يومئذٍ لله وحده...
أما إسرار الصدقات وإعلانها، فلا مانع منه في أيّ جانب كان، إذا كانت هناك مصلحة في ذلك،
فقد تكون المصلحة في الإعلان إذا كان ذلك موجباً لتشجيع الآخرين على الإنفاق، وذلك من خلال طبيعة المنافسة الموجودة لدى بعض الأشخاص الذين لا يقومون بأعمال الخير إلا إذا قام بها أحد من نظرائهم، أو من جهات أخرى تتصل بالمنفق أو بالمنفق عليه أو بالآخرين...
وقد تكون المصلحة في الإسرار إذا كان المنفق عليه من أهل الستر والعفة الذين قد لا يريدون الظهور بمظهر المحتاج لما في ذلك من إساءة إلى كرامتهم ومكانتهم، فلا بد في مثل هذه الحال من حفظ هذا الجانب من شخصيتهم في حالات العطاء...
وربما كان في الإسرار جانب تربوي يتصل بشخصية المنفق، لما في ذلك من الدلالة على إخلاصه وقربه من المعنى العميق للقيمة الروحية البعيدة عن كل ما يشوبها من الرياء بابتعادها عن كل شيء يوحي بمعرفة الآخرين. وقد رجّح الله في نهاية الآية جانب السر، فإنه الأصل في الصدقة من حيث هي عبادة مقرّبة إلى الله، ما يجعل جانب الإخلاص فيها مرتبطاً بالبعد عن كل ما يربطها بالمعاني الذاتية للإنسان...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وفي ختام الآية تقول: {وما للظالمين من أنصار} (الظالمين) هنا إشارة إلى المحتكرين والبخلاء والمرائين والّذين ينفقون بالمنّ والأذى، فإنّ الله تعالى لا ينصرهم، وسوف لا ينفعهم ما أنفقوا لا في الدنيا ولا في الآخرة. أو أنّ المراد هم الأشخاص الّذين امتنعوا من الإنفاق إلى المحرومين والمعوزين، فإنّهم بذلك قد ظلموهم وظلموا كذلك أنفسهم ومجتمعهم. أو أنّهم الأشخاص الّذين لا ينفقون في موارد الإنفاق، لأنّ مفهوم الظلم واسعٌ يشمل كلّ عمل يأتي به الإنسان في غير مورده، وبما أنّه لا منافاة بين هذه المعاني الثلاثة لذلك يمكن أن تدخل هذه المعاني في مفهوم الآية بأجمعها. أجل فهؤلاء ليس لهم ناصر في الدنيا ولا شفيع في الآخرة، وهذه النتيجة من الخصائص المترتّبة على الظلم والجور بأيّ صورة كان...