{ ويكلم الناس فى المهد وكهلا } وهذا غير التكليم المعتاد ، بل المراد يكلم الناس بما فيه صلاحهم وفلاحهم ، وهو تكليم المرسلين ، ففي هذا إرساله ودعوته الخلق إلى ربهم ، وفي تكليمهم في المهد آية عظيمة من آيات الله ينتفع بها المؤمنون ، وتكون حجة على المعاندين ، أنه رسول رب العالمين ، وأنه عبد الله ، وليكون نعمة وبراءة لوالدته مما رميت به { ومن الصالحين } أي : يمن عليه بالصلاح ، من من عليهم ، ويدخله في جملتهم ، وفي هذا عدة بشارات لمريم مع ما تضمن من التنويه بذكر المسيح عليه السلام .
{ وَيُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً } وهذه الجملة معطوفة على قوله { وَجِيهاً } وعطف الفعل على الاسم لتأويله به جائز والتقدير وجيها ومكلما ، والمهد اسم لمضجع الطفل أى المكان الذى يهيأ له وهو في الراضاعة . والكهل : هو الشخص الذى اجتمعت قوته وكمل شبابه . وهو مأخوذ من قول العرب اكتهل النبات إذا قوى وتم .
والمراد أن عيسى - عليه السلام - يكلم الناس فى حال كونه صغيراً قبل أوان الكلام ، كما يكلمهم في حال كهولته واكتمال شبابه ، فهو - عليه السلام - يكلمهم بكلام الأنبياء من غير تفاوت بين حالتى الطفولة والكهولة ، وذلك إحدى معجزاته - عليه السلام - وقد حكى القرآن في سورة مريم ما تكلم به عيسى-عليه السلام-وهو طفل صغير فقال تعالى - : { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً } أما الصفة الرابعة من صفاته - عليه السلام - فهي قوله - تعالى - { وَمِنَ الصالحين } أى عباد الله الصالحين لحمل رسالته وتبليغها للناس . أو من الذين يصلحون ولا يفسدون ويطيعون الله - تعالى - ولا يعصونه ، قالوا : ولا رتبة أعظم من كون المرء صالحاً لأنه لا يكون كذلك إلا إذا كان في جميع الأفعال والتروك مواظبا على المنهج الأصلح ، وذلك يتناول جميع المقامات فى الدين والدنيا ، فى أفعال القلوب وفى أفعال الجوارح ، ولذا قال سليمان - عليه السلام - بعد النبوة
{ رَبِّ أوزعني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين } فلما عدد - سبحانه - صفات عيسى أردفها بهذا الوصف الدال على أرفع الدرجات " .
تلك هي البشارات التي بشرت بها الملائكة مريم ، وتلك هي بعض صفات مولودها فماذا كان موقفها من ذلك ؟
وقوله : { وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا } أي : يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، في حال صغره ، معجزة وآية ، و[ في ]{[5043]} حال كهوليته{[5044]} حين يوحي الله إليه بذلك { وَمِنَ الصَّالِحِينَ } أي : في قوله وعمله ، له علم صحيح وعمل صالح .
قال محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قُسَيط ، عن محمد بن شرحبيل ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَا تَكَلَّمَ مَوْلُود فِي صِغَرِهِ إلا عِيسَى وصَاحِبَ جُرَيْج " {[5045]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو الصقر يحيى بن محمد بن قَزْعَة ، حدثنا الحسين - يعني المروزي - حدثنا جرير - يعني ابن حازم - عن محمد ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لمَْ يَتَكَّلَمْ فِي المهدِ إلا ثَلاثَة ، عِيسى ، وصَبِيٌّ كَانَ فِي زَمَنِ جُرَيْج ، وصبيٌّ آخَرُ " {[5046]} .
{ ويكلم الناس في المهد وكهلا } أي يكلمهم حال كونه طفلا وكهلا ، كلام الأنبياء من غير تفاوت . والمهد مصدر سمي به ما يمهد للصبي في مضجعه . وقيل إنه رفع شابا والمراد وكهلا بعد نزوله ، وذكر أحواله المختلفة المتنافية إرشادا إلى أنه بمعزل عن الألوهية { ومن الصالحين } حال ثالث من كلمة أو ضميرها الذي في يكلم .
قوله : { ويكلم } نائب عن حال تقديرها ومكلماً وذلك معطوف على قوله : { وجيهاً } [ آل عمران : 45 ] ، وجاء عطف الفعل المستقبل على اسم الفاعل لما بينهما من المضارعة كما جاز عطف اسم الفاعل على الفعل المستقبل في قوله الشاعر : [ الرجز ] .
بتُّ أُعشّيها بِعَضْبٍ باترِ . . . يَفْصِدُ في أسْوقِها وَجَائِرِ{[3176]}
وقوله : { في المهد } حال من الضمير في { يكلم } ، و{ كهلاً } حال معطوفة على قوله : { في المهد } ، وقوله : { من الصالحين } ، حال معطوفة على قوله { ويكلم } ، وهذه الآية إخبار من الله تعالى لمريم بأن ابنها يتكلم في مهده مع الناس آية دالة على براءة أمه مما عسى أن يقذفها به متعسف ظان ، و{ المهد } موضع اضطجاع الصبي وقت تربيته ، وأخبر تعالى عنه أنه أيضاً يكلم الناس { كهلاً } ، وفائدة ذلك إذ كلام الكهل عرف أنه إخبار لها بحياته إلى سن الكهولة ، هذا قول الربيع وجماعة من المفسرين ، وقال ابن زيد : فائدة قوله { كهلاً } الإخبار بنزوله عند قتله الدجال كهلاً ، وقال جمهور الناس : الكهل الذي بلغ سن الكهولة ، وقال مجاهد : الكهل الحليم ، وهذا تفسير الكهولة بعرض مصاحب لها في الأغلب ، واختلف الناس في حد الكهوله : فقيل : الكهل ابن أربعين سنة ، وقيل : ابن خمس وثلاثين ، وقيل ، ابن ثلاث وثلاثين ، وقيل : ابن اثنين وثلاثين ، وهذا حد أولها . وأما آخرها فاثنتان وخمسون ، ثم يدخل سن الشيخوخة .
والمهد شِبْه الصندوق من خشب لا غطاء له يُمهد فيه مَضجع للصبي مدة رضاعه يُوضع فيه لحفظه من السقوط .
وخُص تكليمُه بحالين : حالِ كونه في المَهد ، وحالِ كونه كهلاً ، مع أنه يتكلّم فيما بين ذلك لأنّ لذَينك الحالين مزيدَ اختصاص بتشريف اللَّه إياه فأما تكليمه الناس في المهد فلأنه خارق عادة إرهاصاً لنبوءته . وأما تكليمهم كهلاً فمراد به دَعوتُه الناس إلى الشريعة . فالتكليم مستعمل في صريحه وفي كنايته باعتبار القرينة المعينة للمعنيين وهي ما تعلق بالفعل من المجرورين .
وعطف عليه { ومن الصالحين } فالمجرور ظرف مستقرّ في موضع الحال .
والصالحون الذين صفتهم الصلاح لا تفارقهم ، والصلاح استقامة الأعمال وطهارة النفس قال إبراهيم : { ربِّ هبْ لي من الصالحين } [ الصافات : 100 ] .
والكهل من دخل في عشرة الأربعين وهو الذي فارق عصر الشباب ، والمرأة شهلة بالشين ، ولا يقال كهلة كما لا يقال شهل للرجل إلاّ أن العرب قديماً سمّوا شهلاً مثل شهل بن شيبان الملقب الفِنْد الزِّماني فدلنا ذلك على أنّ الوصف أميت . وقد كان عيسى عليه السلام حيث بعث ابن نيف وثلاثين .
وقوله : { وجيهاً } حال من { كلمة } باعتبار ما صِدْقها . { ومن المقرّبين } عطف على الحال ، { ويكلم } جملة معطوفة على الحال المفردة : لأنّ الجملة التي لها محل من الإعراب لها حكم المفرد .
وقوله : { في المهد } حال من ضمير ( يكلّم ) . وكهلاً عطف على محلّ الجار والمجرور ، لأنهما في موضع الحال ، فعطف عليهما بالنصب ، { ومن الصالحين } معطوف على { ومن المقرّبين } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ويكلم الناس في المهد}: حجر أمه في الخِرَق طفلا، {و} يكلمهم {كهلا}: إذا اجتمع قبل أن يرفع إلى السماء، {ومن الصالحين}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{وَيُكَلّمُ النّاسَ فِي المَهْدِ} أن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم، وجيها عند الله، ومكلما الناس في المهد.
وأما المهد: فإنه يعني به مضجع الصبيّ في رضاعه.
{وَكَهْلاً}: ومحتَنِكا فوق الغلومة ودون الشيخوخة. وإنما عنى جلّ ثناؤه بقوله: {وَيُكَلّمُ النّاسَ فِي المَهْدِ وَكَهْلاً}: ويكلم الناس طفلاً في المهد، دلالة على براءة أمه مما قذفها به المفترون عليها، وحجة له على نبوّته، وبالغا كبيرا بعد احتناكه بوحي الله الذي يوحيه إليه، وأمره ونهيه، وما تقوّل عليه من كتابه. وإنما أخبر الله عزّ وجلّ عباده بذلك من أمر المسيح، وأنه كذلك كان، وإن كان الغالب من أمر الناس أنهم يتكلمون كهولاً وشيوخا، احتجاجا به على القائلين فيه من أهل الكفر بالله من النصارى بالباطل، وأنه كان في معاناة أشياء مولودا طفلاً، ثم كهلاً يتقلّب في الأحداث، ويتغير بمرور الأزمنة عليه والأيام، من صغر إلى كبر، ومن حال إلى حال، وأنه لو كان كما قال الملحدون فيه، كان ذلك غير جائز عليه، فكذب بذلك ما قاله الوفد من أهل نجران، الذين حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، واحتجّ به عليهم لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأعلمهم أنه كان كسائر بني آدم، إلا ما خصه الله به من الكرامة التي أبانه بها منهم. وقال آخرون: معنى قوله: {وَكَهْلاً}: أنه سيكلمهم إذا ظهر... قد كلمهم عيسى في المهد، وسيكلمهم إذا قتل الدجال، وهو يومئذٍ كهل.
{وَمِنَ الصّالِحِينَ}: من عدادهم وأوليائهم لأن أهل الصلاح بعضهم من بعض في الدين والفضل.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ويكلم الناس في المهد وكهلا} والكهل يكلم الناس؟ قيل لوجهين: الأول: لأن كلامه في المهد آية، والآية لا تدوم كقوله: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم} الآية [النور: 24]. وإنما يكون ذلك مرة لا أنها تشهد، وتنطق أبدا، فأخبر أن تكليمه الناس في المهد، وإن كان آية، فإنه ليس بالذي يدوم، ولا يكون إلا مرة. والثاني: أمن من الله لمريم وبشارة لها من ولادته إلى وقت كهولته، والله أعلم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ويكلم الناس طفلاً وكهلاً. ومعناه: يكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء، من غير تفاوت بين حال الطفولة وحال الكهولة التي يستحكم فيها العقل ويستنبأ فيها الأنبياء.
{ومن الصالحين}... لا رتبة أعظم من كون المرء صالحا، لأنه لا يكون كذلك إلا ويكون في جميع الأفعال والتروك مواظبا على النهج الأصلح، والطريق الأكمل، ومعلوم أن ذلك يتناول جميع المقامات في الدنيا والدين في أفعال القلوب، وفي أفعال الجوارح، فلما ذكر الله تعالى بعض التفاصيل أردفه بهذا الكلام الذي يدل على أرفع الدرجات...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{ويكلم الناس في المهد وكهلا} وهذا غير التكليم المعتاد، بل المراد يكلم الناس بما فيه صلاحهم وفلاحهم، وهو تكليم المرسلين، ففي هذا إرساله ودعوته الخلق إلى ربهم، وفي تكليمهم في المهد آية عظيمة من آيات الله ينتفع بها المؤمنون، وتكون حجة على المعاندين، أنه رسول رب العالمين، وأنه عبد الله، وليكون نعمة وبراءة لوالدته مما رميت به. {ومن الصالحين} أي: يمن عليه بالصلاح، من من عليهم، ويدخله في جملتهم، وفي هذا عدة بشارات لمريم مع ما تضمن من التنويه بذكر المسيح عليه السلام...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمهد: شِبْه الصندوق من خشب لا غطاء له يُمهد فيه مَضجع للصبي مدة رضاعه يُوضع فيه لحفظه من السقوط.
وخُص تكليمُه بحالين: حالِ كونه في المَهد، وحالِ كونه كهلاً، مع أنه يتكلّم فيما بين ذلك لأنّ لذَينك الحالين مزيدَ اختصاص بتشريف اللَّه إياه فأما تكليمه الناس في المهد فلأنه خارق عادة إرهاصاً لنبوءته. وأما تكليمهم كهلاً فمراد به دَعوتُه الناس إلى الشريعة. فالتكليم مستعمل في صريحه وفي كنايته باعتبار القرينة المعينة للمعنيين وهي ما تعلق بالفعل من المجرورين.
وعطف عليه {ومن الصالحين}؛ والصالحون الذين صفتهم الصلاح لا تفارقهم، والصلاح استقامة الأعمال وطهارة النفس، قال إبراهيم: {ربِّ هبْ لي من الصالحين} [الصافات: 100].
يقول الحق: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ} الكلام: معناه اللفظ الذي ينقل فكر الناطق إلى السامع،... و "المهد "هو ما أعد كفراش للوليد... ولقد أورد الحق {الْمَهْدِ وَكَهْلاً} رمزية لشيء، وهي أن عيسى ابن مريم من الأغيار، يطرأ عليه مرة أن يكون في المهد، ويطرأ عليه مرة أخرى أن يكون كهلا، وما دام في عالم الأغيار فلا يصح أن يفتتن به أحد ليقول إنه "إله" أو "ابن إله"...
{وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ} سر وجود آية المعجزة التي وهبها له الله وهو طفل في المهد. لأن المسألة تعلقت بعِرض أمه وكرامتها وعفتها، فكان من الواجب أن تأتي آية لتمحو عجبا من الناس حين يرونها تلد بدون أب لهذا الوليد أو زواج لها...
{وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً}... أي انه تكلم في المهد طفلاً ويتكلم كهلا أي ناضج التكوين، وبذلك نعرف أن عيسى بن مريم فيه أغيار وفيه أحوال، فإذا كنتم تقولون إنه إله فهل الألوهية في المهد هي الألوهية في الكهولة؟...